مقدمة

البلاد المغربية بتاريخها وحضارتها وراهِنها “هِبَة القرويين”، فالمغرب هِبة القرويين، جَعَلَه أشْهَر من نارٍ على عَلَم، ونَقلَ مَرْكَز الثِّقل العلمي والحضاري إلى عُدوة فاس، وأسْهَم في الإشعاع العلمي للمملكة منذ تاريخ تأسيسه إلى يومنا هذا، وما يَزَال يتدفَّق “القرويين” عِلماً وعطاءً ووطنية وعُلماءً وخِرّيجين وتأطيراً روحياً ودينيا للمغاربة. فالقرويين (جامع فاس) يعد من أكبر المباني الدينية الأصلية بالغرب الإسلامي قاطبة، وقد اشتهر بدوره الثقافي والفكري والإجتماعي وحتى السياسي لإحتضانه جامعة القرويين التي تعتبر من أقدم المراكز العلمية والمؤسسات التربوية بالعالم الإسلامي، كما تعتبر جامعة القرويين من أقدم جامعة على المستوى العالمي.

بدايات القرويين.. جامعاً وجامِعةً

بُنِيَ جامع القرويين كما هو معروف لدى المؤرِّخين على يدِ السيدة الصالحة فاطمة بنت محمد الفهري بتاريخ 859م، بمدينة فاس المغربية؛ فهو إذن نموذج حي للعمل التطوعي والإحساني الذي كان دائما من الأركان الأساسية للمجتمعات الإسلامية. وبُنِيَت الجامعة كمُلحَقة تعليمية بجامع القرويين، وشهد أكبر عملية توسيعٍ له خلال العهد الـمرابِطي بحيث زادَ امتداده في كلّ الاتجاهات تقريباً واستَمَرّت الدّول التي تَعاقَبت على حكم المغرب في التدخُّل في جامع القرويين بتزيينه وتجميله وتَرميمه وإضافة بعض الملاحق وغقامة تجهيزات أخرى[1]، ومنذ ذلكم الحين، تُجسِّدُ أعرَق مؤسّسة جامعية في العالم. انتصب للتدريس فيها عَبر أطوارها المختلِفة أعلامٌ أفذاذ وأقطاب كِبار؛ نذكر منهم: ابن البنّاء المراكشي، وابن رشيد السَّبتي، وابن ميمون الغماري وفقيه القيروان التونسي عمران بن موسى الفاسي، ومحمد بن آجروم الصنهاجي صاحب كتاب “المقدِّمة الآجرومية في علم اللغة العربية” الذي ألَّفه في مكة ودرَّسه في القرويين..، كما كانت مَحطَّ اهتمام بَعض العلماء المرموقين، فزاروها ودَرَسوا بجامعتها؛ منهم: المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون، والجغرافي الشّريف الإدريسي، والأديب الأندلسي لسان الدِّين بن الخطيب وغيرهم.

معمار ومرافق القرويين

يتكون التصميم جامع القرويين، كما وسعه المرابطون، من قاعة الصلاة وصحن مستطيل الشكل، تحيط به أروقة من الجهات الثلاث. تحتوي قاعة الصلاة على إحدى وعشرين بلاطا. كما يتميز بقبابه المتنوعة الأشكال والزخارف والزليج وبثريات بديعة الشكل، أصل بعضها نواقيس جلبت كغنائم من الأندلس أيام الموحدين والمرينيين. وتعد الثريا الكبرى المعلقة في القبة الوسطى من أضخم الثريات المغربية وأدلها قدرا وأتقنها صنعة وأغناها زخرفة[2]. وفي العهد الموحدي تم تشييد المستودع بالركن الشمالي والخصة الجميلة والبديعة المنظر. أما المرينيون فقد جهزوا الجامع والجامعة بمكتبتين أيام السلطان أبو عنان؛ الأولى خاصة بالمصاحف والثانية للكتب. كما أن الوطاسيون رمموا بعض أجزائه المتهالكة وشيدوا مصرية لتكون سكنى إمام وخطيب الجامع. وتم إضافة خزانة جديدة إلى مرافق الجامع في أحمد المنصور السعدي، كما أنشأ السعديون قبتي الصحن. ومع الملوك العلويين أنجزت عدة إصلاحات وعمليات الصيانة والتنميق كإقامة العنزات وبناء قاعة كبرى لخزانة القرويين[3].

لم يكن العلم والتعليم بالقرويين مُقتصِراً على الطَّلبة المغاربة وأولئك الآتين مِن مختلِف الآفاق، بل كانت الدُّروس العامة التي يُلقيها الـجِلَّة مِن العلماء ضمن (الكراسي العلمية) مَفتوحة للعمال والفلاحين والـحِـرَفيين والقُضاة والـولاةُ والراغبين في تعلُّم الموسيقي، ذُكراناً وإناثاُ، رجالاً ونساءً. وكان الـمتصدِّر للتدريس والتعليم بجامعة وجامع القرويين _ طيلة تعاقُب الدول الحاكمة _ يُعيَّن بِظَهير، ويُعدُّ منصِبه ذاكَ مِن (الولايات) الـكُبرى.

جامعة القرويين ومعركة استقلال المغرب

في المرحلة التاريخية ما قبل الاستقلال، كان التَّعليم العالي في المغرب يحيل على جامعة (القرويين) بفاس ومدرسة ابن يوسف في مراكش، مُساهِمين في تكوين “الأطُر الصغرى والمتوسّطة بالنسبة للطلبة الوافدين إليهما من الجزائر”[4]. وفي دجنبر مِن سنة 1957 تمَّ تأسيس أوَّل جامعة مغربية حديثة هي جامعة محمد الخامس بالرباط. ولاحِقا تمَّ تدشين العديد مِن المؤسَّسات الجامعية في مواقع تتوزَّع على ربوع الوطن.

يَذكُر المؤرِّخ الراحل عبد الهادي التازي (1925-2015) أنَّ الانتساب _ زمن الحماية _ إلى”القرويين” كان حُجة كافية لاعتقالِ المنتمي للمؤسَّسة، أو يتمُّ طردُ “طلبة المدارس الفرنسية ممن لهم صلة برجال القرويين”[5]، وظلَّت السلطات الفرنسية في شخص مُقيمها العام تعتبِرُ (القرويين) بيتاً مُظلِما، يَـتوجَّب تخريبه، تفادِيا لدوره وتخريجه نُخبة علمية وسياسية ودينية تُواجِه الاستِعمار على أكثر مِن صَعيد، وتُهدِّد الوجود الفرنسي في المغرب الأقصى. وعَبْرَ مختلِف مُذكّرات وشَهادات قادة وأعضاء الحركة الوطنية المغربية (علال الفاسي، المهدي بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد، محمد المنوني، عبد الهادي بوطالب، عبد الله إبراهيم، محمد عابد الجابري، المختار السوسي، عبد الرحمن اليوسفي، مولاي إسماعيل العلوي) _ الذين ورِثوا النّضال الوطني السياسي والعلمي مِن مُؤسَّستي جامع القرويين ومدرسة بن يوسف، وفي مراحِل تالية من ثانوية مولاي يوسف بالرباط وزوايا إلِغ بسوس؛ نُطالِع كماّ هائلاً مِن الشّهادات في حقِّ الأدوار التاريخية للقرويين، وامتداداتها إلى ما بَعدية الاستِقلال، ونَـتعرّف إلى مشاهد وفصول مِن مواجهات الاستعمار مع القرويين وطلّابها وخرّيجيها، وسَنِّ الفرنسيين لقوانين ونصوص تنظيمية في المرحلة ما بين 1930 و1934؛ ضَيّقت على الحياة الطلابية والنشاط العُلَمَائِي، وأَنْزَلت العقاب والتّأديب في حقّ الـمناوئين للاستعمار وأقوالهم وأعمالهم التي كانت “تُشوِّش الفكر العام”[6]، فكانَ مِن نصيب العلماء والمدرِّسين في القرويين: الإنذار، تثقيف المرتّب لمدة لا تتجاوز نصف شهر، التوقيف مِن الوظيفة مع إسقاط الـمرتّب لمدّة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، الإنقاص من المرتّب، إسقاط الأستاذ من مرتبة العالِـمية، عزل العلماء. أما فعقوبَتهم: الإنذار، المنع من الدخول لاجتياز الامتحانات سنة كاملة، التوقيف عن الدراسة لمدّة لا تتجاوز سنتين، الطّرد النهائي”. على حدّ تعبير إحدى النصوص القانونية-البيداغوجية التي صدرت في ذلكم الوقت.

القرويين بعد استِقلال المغرب

بُعَيْد الاستقلال انخرط السِّياسيون والمثقَّفون في نقاش محتدِم حول دور الجامعة في مغرب الاستقلال وكيف يمكن لها أنْ تُسْهِم في الاضطلاع بمهام استكمال مسيرة التَّحرير والتنوير على كلّ المستويات.

ويُسَجِّل ديل إيكلمان أنَّ جامعة ابن يوسف شأنها شأْن نظيرتها القرويين؛ كانت “تُشَكِّل مؤسَّسَة بالمعنى السُّوسيولوجي الأصلي للكَلمة، تخصُّ حقلا من النَّشاط يحمل أعضاؤه أفكارا وأعرافا مشتَركة عن الكيفية التي يجب أنْ تُوَزَّعَ بها المهام وكيفية القيام بها. وعلى الرغم مِن أنَّ الطَّلبة كانوا مجرَّدَ أعضاء مارِّين وغير قارِّين؛ فإنَّ مُعْظَم الأشخاص المنخرطين في وسط المسجد/الجامعة سَاهموا في مَنْح الاستقرار لهذه المؤسَّسة، وتعزيز مساهماتها وعلاقاتها مع المجتمع بمعناه الواسع”[7]، وأوقَفوا عليها أوقافاً جَعَلتْها ذات “شخصية مالية معنوية”. وغيرةً عليها وعلى أداورها الرائدة في تعزيز الوطنية المغربية وخِدمة الإسلام وصدِّ العدوان وتكوين الإنسان؛ وقَفَ العلماء التقليديون ومُعظَم الـمُنتَسِبين للقرويين ولتاريخها الزّاهر في وجْهِ محاولات دَولة الاستِقلال تحديثَ المؤسسة _ بالرغم من كونها لم تَعُد “المجال الوحيد لإمداد البلاد بما تكون في حاجة إليه من العاملين في سلك المخزن”، ولا “المصدر الوحيد لتكوين العلماء القادرين على الإفتاء في الأمور الشّرعية”[8] _ تحديثاً يَطالُ هيبتها وشخصيتها الرمزية، ذلكَ أنَّ لَفيفاً من تِقنوقراطِيّي الدَّولة الوطنية الحديثة اقتَرَحوا إلحاقَها بجامعة محمد الخامس بالرباط، الأمر الذي عَنا لنخبة القرويين بَدْءُ فَصْلٍ جديدٍ في تَحييدِ دَورِ علماء القرويين وتجميدِه في مغرب الاستِقلال، ومِنه إعطاءُ رسالةٍ مفادُها الاستِغناء عن الخدمات العلمية والوطنية لجامعة القرويين في الطّور الجديد. ونالَ دِفاعُ العلماء واستِماتتهم تَقدير الـمجتمَع المغربي وخِرّيجي المؤسّسة مِن مختلِف الأجيال. اتَّضَحَ بَعدها أنَّ هناك التحاما عميقا بين الجامعة والمجتمع الكبير دَلَّ عليهِ وجود الوشائج المتينة بين الجامعة والمجتمع في مرحلة الحماية؛ هو التزام الطُّلاب الذين يَدرسون في القرويين وابن يُوسف بتقليد سنوي راسخ هو الاحتفاء ب”سلطان الطَّلبة“، وكذلك الأمر بمنطقة سوس ومنطقة الريف وجبالة شمال المغرب. فحَسَب الباحث الأنثربولوجي (إيكلمان) لم تكن هناك مناسَبَة أخرى في المغرب غير هذا الاحتفال  يُسمح فيها بالسُّخرية من البرتوكول المخزني وسلطته، ولربما كان من بين الأسباب التي دَفَعَت الفرنسيين إلى إلغاء احتفال سلطان الطلبة. هكذا كان الطُّلاب يُعَبِّرون بذكاء عن المسكوت عنه في المجتمع. رغم أنَّ الجامعة (سواء القرويين أو ابن يوسف) تنطوي على مجتمع مُصَغَّر يتواضع أفراده على أفكار متَّفَق حولها وأعراف مشترَكة ويحرصُون على أداء مهام بعينها.

خاتمة

إنّ جامع القرويين بعراقته وقيمته العلمية ودوره في التعليم والتّفقيه والوَقف والأحباس “حظِيَ بدراسات عِدّة، بل إنّ ما كُتِبَ في شأنه مِن مؤلَّفات ودُوِّنَ من وثائق ونُشِرَ من أبحاث قديما وحديثا يفوق بكثير غيره من المعالم التاريخية والمباني الأثرية”[9]، وما يزال يُسيل مداد كثيرٍ من الأبحاث والدراسات، ويَحظى برعاية الدولة واهتمام العلماء والطُّلاب، ويسْتَجْلِبُ استحسان الزوّار والسياح.

المراجع
[1] معلمة المغرب، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنّشر، منشورات مطابع سَلا، 1989، ص: 6625
[2] معلمة المغرب، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنّشر، منشورات مطابع سَلا، 1989، ص: 6625
[3] معلمة المغرب، مرجع سابق ص: 6626.
[4] (العلوي) سعيد بنسعيد: "قول في الحوار والتجديد؛ المسلمون والمستقبل"، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2009، ص: 140.
[5] من حوار أجرته جريدة التجديد المغربية مع الأستاذ عبد الهادي التازي بتاريخ 11/02/2002.
[6] (ابن زيدان) عبد الرحمن: "الدرر الفاخرة"، المطبعة الاقتصادية، الرباط، طبعة 1937.
[7] (ديل) إف. إيكلمان: "المعرفة والسُّلطة في المغرب؛ صور من حياة مثقف من البادية في القرن العشرين"، مركز طارق بن زياد للأبحاث والدِّراسات، الطبعة الأولى، 2000، ص:142.
[8] "قول في الحوار والتجديد..."، مرجع سابق، ص: 151.
[9] موسوعة (معلمة المغرب)، الجزء الأول، ص: 6624.