مدينة بعمق تاريخي وشهرة عالمية

مدينة مراكش، تعتبر من المدن الإسلامية القليلة الأصيلة التأسيس؛ حيث لم تؤسس كمثيلاتها على أنقاض مدن رومانية أو فينيقية أو بالقرب منها، بل تم اختيار الموقع لينسجم مع ثقافة المرابطين الصحراوية، بحيث بنيت في منطقة تتميز بالقحولة ومجاورة لوادي نفيس وعند أقدام جبل درن (الأطلس الكبير) ومنطقة دكالة الغنية[1]. وحول الموضع الذي اختاره المرابطون لبناء مراكش يقول صاحب الحلل الموشية: “موضع صحراء لا أنيس به، إلا الغزلان و النعام، و لا ينبت إلا السّدر و الحنظل”[2].

ويقع موضعها وسط سهل الحوز عند التقاء خط طول 8 درجة و30 دقيقة ودائرة عرض 31 درجة و19 دقيقة، وتتميز تساقطاته بشحها. ورغم قساوة المحيط الجغرافي للموقع الذي أسست فيه مدينة مراكش، فإنها ازدهرت بشكل كبير، بل وأصبحت من أهم المدن العالمية، وأصبحت على كل لسان لفترات تاريخية طويلة من تاريخ المغرب. وبفضل تاريخيها الطويل وشهرتها فإنها اليوم تعد من المدن السياحية التي باتت تستقطب أفواجا متزايدة من السياح من مختلف أنحاء العالم. فقد شكل ظهور مرّاكش كمدينة كبيرة، ثم كعاصمة للمغرب، الذي يمتد من الأندلس شمالا إلى بلاد السودان جنوبا، و من جزائر مزغنّة شرقا إلى بحر الظلمات غربا، منعطفا كبيرا في مسار الأحداث التاريخية بالغرب الإسلامي، و غدا معها المغرب بكامله يحمل اسم مرّاكش، بحيث جمعت واحتكرت القرار السياسي و استحوذت على كل الأنشطة التجارية[3].

وقبل الدخول في ثنايا موضوع دلالة كلمة “مراكش”، فمن المفيد أن نشير إلى أن المتتبع لقصة كلمة ومدينة مراكش يقف على الإختلاف في نطلق الكلمة، خصوصا في المصادر القديمة. ولكن يبقى الشائع والنطق الأصلي هو: “مراكش” بفتح الميم وتشديد الراء المفتوحة وضم الكاف. مع الإشارة إلى أن هناك من ينطقها بالكاف المكسورة، بغرض إضفاء الصبغة العربية عليها، والبعض الآخر ينطقها ب “مروكش” بفتح الميم وضم الراء المشددة وضم الكاف[4].

ماذا تعني كلمة “مراكش”؟

رأي المؤرخ أحمد التوفيق:

تورد عدد من المصادر التاريخية أن معنى كلمة مراكش هو “مر مسرعا” أو “امش مسرعا” في لغة قبائل المصامدة التي تقع مراكش في مجالهم لأن موضعها في مكان معروف باللصوص. إلا أن هذا الرأي حسب المؤرخ أحمد التوفيق يبقى بعيدا عن المعنى الحقيقي، خصوصا إذا تم تمحيص أصل الكلمة حتى في لغة المصامدة، خاصة وأن الكتابات التي تحدثت عن معنى كلمة مراكش وعن تاريخ تأسيس المدينة كلها متأخرة زمانيا عن تاريخ تأسيس المدينة بأزيد من قرن ونصف، وغالبها ترجع إلى الكتابات المشرقية وتتجاهل كل ما له صلة بالواقع المحلي. والراجح أن اسم مراكش مركب من كلمتين هما كلمة “مر” أو “أمر” وكلمة “كش” أو “أكش”، يمكن أن تربط بينهما أداة وصل وإضافة في اللسان المصمودي أو الصنهاجي، وهي في هذه الحالة واو، فيقتضي تركيب هذه الجملة أن يكون النطق: “أمركش”، ثم صارت “مركش” أو مرواكش”، مع الإشارة إلى أقرب مصدر إلى تاريخ تأسيس مراكش أورد رسم الكلمة كالتالي: “مُرُّوكُش”، والمصدر هو: “التبيان عن الحادثة الكائنة بدولة بني زيري في غرناطة” للأمير عبد الله بن بُلُكين بن باديس الصنهاجي، الذي عزله المرابطون عن عرش غرناطة. ورسم “مروكش” هي التي أخذت منها الصيغة الاسبانية القديمة Marruecos [5].

أما معنى كلمة “أمر” أو “مر” فهو الحماية أو الحمى أو الحرم، أي مكان محاط بهالة من التقديس. أما “اكش” أو “أكوش” فهو الرب عند الأمازيغ الأقدمين. وبناء عليه فإن معنى مراكش في أصله هو “حمى الله”، أو المكان الذي تُرعى فيه عهود الله. فإسم مراكش يدل على أن هذا المكان، قطع به عهد إلهي أو أنه محل نشاط تجاري أو ديني أو هما معا، لزم فيه رعاية المواثيق ودرء العدوان. ويبدو أن طمس معنى مراكش بهذا المعنى قد يكون هو وجود اسم كوش في تركيبه؛ لأنه ينتمي باللفظ أو بالمعنى إلى ما سعى الضمير السني إلى التخلص منه ولو بالنسيان[6].

رأي الباحث محمد أقديم:

وفي مقابل ما ذهب إليه أحمد التوفيق بشأن معنى كلمة مراكش، فإن الباحث محمد أقديم يقدم في بحثه الموسوم ب “التحولات السوسيوتاريخية في منطقة الأطلس الكبير” قراءة أخرى في معنى كلمة مراكش، مؤكدا أن ما ذهب إليه أحمد توفيق فيه كثير من التكلف في التفسير، ويغيب معطيات الطوبونيميا المحلية، التي تعتبر أساسية في فهم السياقات التاريخية والثقافية و الاجتماعية و علاقاتها باللغة المحلية لمنطقة مرّاكش[7]. وبناء على ذلك اعتبر أن “أول خطأ وقعت فيه هذه التأويلات هو اعتبار اسم “مرّاكش” كلمة مركّبة من لفظتين “مر” و ” أكش” في حين أنّ “مراكش” لفظة واحدة، كما سنرى، فلو دقَّق أصحاب هذه القراءات جيدا فيما أوردته بعض الروايات التاريخية، و درسوه في سياق اللغة المحلية للمصامدة (تاشلحيت)، و ليس اللغة العربية ففسّروه ب” مُرّ مُسْرِعا”، كما ذهبت إلى ذلك المصادر القديمة، و لا لغة صنهاجة الوافدة على المنطقة، كما ذهب إلى ذلك الأستاذ أحمد توفيق و المتأخّرين و فهمه ب “حمى الله” و”أرض الله”، لكان فهم دلالة اسم “مرّاكش” سليما و مغايرا لما ذهب إليه الطرفين”[8].

وانطلاقا من اعتبار كلمة مراكش كلمة واحدة وليس كلمة مركبة من لفظتين، يرى أقديم أن “اسم مرّاكش اسم واحد غير قابل للتجزيء، و لا يمكن تفسيره و فهم ما ورد بصدده من معطيات في المصادر التاريخية إلا في إطار أمازيغية مصامدة جبل درن (تاشلحيت). فاسم مرّاكش هو تعديل لكلمة “أمْرْكْسْ” التي تعني المخبأ، فهي مشتقة من فعل “ءيرِكْسْ” الذي يعني اختبأ و يختبأ، و هذا المعنى هو الذي تشير إليه بعض المصادر التاريخية، عندما قدّمت وصفا مقتضبا للموقع الذي أشار به أشياخ المصامدة على باني مراكش لتشييد عاصمته، حيث وصفته ب: خلاء لا أنيس به ، إلا الغزلان و النعام، و لا يُنْبِتُ إلا السدر والحنظل، ممّا جعله مأوى اللصوص. فطبيعة الموقع كخلاء موحش و بُعده النسبي عن العمران بمدن الدير الشمالي للأطلس الكبير (أغمات أوريكةأغمات هيلانة – نفّيس ..) هو الذي جعله مخبأ أي (أمركس) للصوص و قطّاع الطرق، الذين يترصدون القوافل التجارية العابرة للطرق الرابطة بين أغمات و دكالة و نفّيس و كوز.

هكذا يتضح و يتأكد أن اسم مراكش، لا يحتاج تفسيره و فهمه إلى الإغراق في الكثير من التعقيدات اللغوية، و التأويلات اللسنية، إذا ما تمّت قراءة ما أوردته المصادر من معطيات تاريخية في إطار ما تزخر به الطوبونيميا المحلية من معلومات “.[9]

بالإضافة غلى الرأيين السابقين، فهناك معاني أخرى –رغم عدم شهرتها- أوردتها بعض الكتابات التاريخية، خاصة لدى صاحب المعجب، الذي أورد أنها سميت باسم عبد أسود كان يستوطنها يخيف الطريق، إسمه “مراكش”، فيما ذهب بعضها إلى أن مراكش هي إسم بئر يقع وسط البقعة التي شيدت عليها المدينة[10].

وبعيدا عن هذه التباينات بشأن أصل ومعنى كلمة مراكش، فإن هذه الأخيرة وردت في التراث التاريخي والعلمي والأدبي بعدة أسامي؛ ك”الحمراء” لأنها حمراء التربة والأسوار، وقد وردت هذه التسمية في الكتب التاريخية بإسم “حمراء لمتونة والموحدين” و”حمراء الحوز”. كما سميت أيضا باسم ” بلدة سبعة رجال” منذ تنظيم زيارة الرجال السبعة، وباسم “البهجة” لأنها كانت ذات منظر حسن ولاشتمالها على حدائق ذات بهجة، وقيل بل سميت بذلك لأن البرج الذي بنيت به فيه هو برج الغبطة[11].

تاريخ تأسيس مدينة مراكش

وكما اختلف حول معنى ودلالة إسمها رغم شهرته، فقد اختلفت الكتابات التاريخية أيضا حول تاريخ تأسيس المدينة وبالتبع حول مؤسسها الأول. وقد اختير الموضع الذي أسست به المدينة لاستجابته لعدة متطلبات:

  • فهو موقع محايد بين قبيلتي أوريكة وهيلانة المتنافستين؛
  • الطبيعة الشبه الصحراوية للموقع وهو ما يناسب طبيعة معيشتهم؛
  • لموقعها الإستراتيجي الذي يسمح بمراقبة سكان الجبال وسهل الحوز على السواء، كما أنها؛
  • لا تبعد كثيرا عن البحر، وهي قريبة أيضا من أماكن التزود بمواد البناء وبالماء والأخشاب.

وقد كانت سنة 462 ه- 1070م هي السنة التي طلب فيها القائد المرابطي أبو بكر بن عمر اللمتوني من أشياخ قبيلتي أوريكة وهيلانة أن يعينوا له موضعا لبناء مدينة جديدة بعدما كانوا مقيمين بمدينة أغمات وذلك منذ سنة 450ه/1058م، فعينوا له مكانا محايدا لا يتبع لأي من القبيلتين المتنافستين في أغمات، فاشتراه أبو بكر بن عمر من ماله الخاص. وعموما فقد شرع في بناء مراكش في عهد القائد المرابطي أبو بكر بن عمر وليس في عهد يوسف ابن تاشفين كما هو شائع خصوصا عند ابن خلدون وابن أبي زرع[12].

وقد استكمل بنائها عبر مراحل تاريخية ممتدة، وهكذا شيدوا في البداية قصر الحجر لإقامة الأمير المرابطي، ثم شرع الناس في بناء منازلهم، ومع ظهور ابن تومرت والحركة الموحدية وشنهم هجومات على العاصمة المرابطية شرعوا في بناء أسوار المدينة وذلك ابتداء من سنة 520ه/1126م، وقد استغرق بناؤه ثمانية أشهر لحماية المدينة من هجمات حركة المهدي ابن تومرت الوليدة. كما فتحوا للمدينة أبواب عدة استمدت أسماءها إما:

  1. من الجهة التي تؤدي إليها؛ باب أغمات، باب هيلانة (إيلان)، باب فاس، باب مسوفة، باب دكالة، باب نفيس.
  2. أو لسبب خاص؛ باب الدباغين الذي يؤدي إلى دار الدباغة بالمدينة، وباب المخزن القريب من قصر الحجر، وباب الشريعة الذي تنفذ أمامه الأحكام الشرعية، وباب الصالحة المؤدي إلى الحدائق المعروف بهذا الإسم.

كما فتحت أبواب أخرى فيما بعد، كباب أكناو، وباب الرب على عهد الموحدين وباب إغلي، وباب احمر، وباب القصيبة على عهد العلويين، كما فتحت أبواب أخرى خلال العقود الأخيرة لتسهيل حركة المواصلات بين المدينتين القديمة والحديثة[13].

وقد ساهمت عوامل عدة في إزدهار العاصمة المرابطية مراكش وتوسعها؛ خاصة ما تعلق منها بخبرة المصامدة في فنون البناء ووفرة مواد البناء في المنطقة، وكذا تحول الصنهاجيين من سكنى الخيام إلى سكنى الدور بعد تفتحهم على الحضارة الأندلسية أثناء جوازاتهم إلى الأندلس. وقد تحولت مراكش على إثر ذلك إلى مركز تجاري –بدل أغمات– تربط تجارة الجنوب بتجارة الشمال: من السودان الغربي وأوداغشت وسوس، إلى مراكش ثم فاس والأندلس. وأيضا مركز لتجارة الشرق والغرب: من طرابلس وإفريقية والمغرب الأوسط عبر سجلماسة إلى مراكش، فرباطي كوز وماسة، حيث تصدر البضائع عبر البحر.

وعلى عادة المدن الإسلامية تأسس المسجد أولا ثم دار الأمير فالأسواق وحولها الدور السكنية. وبعد قصر الحجر ومسجد يوسف ابن تاشفين، شيد على عهد علي بن يوسف مجسد آخر وبجانبه الأسواق وحولهما الأحياء السكنية. كما أن هجمات وحصار الموحدين أثرا على تطورها، بحيث أصبح تنظيمها السكني يتكون من مجموعة من الوحدات (الحومات). وتشتمل كل حومة على دروب ومرافق عمومية من مسجد وفرن ومطحنة وحمام وسقايات يحميها سور داخلي[14].

المراجع
[1] حسن جلاب، معلمة المغرب، جزء 21، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا ومطبعة النجاح الجديدة، 2005، ص 7074.
[2] مؤلف مجهول، الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، تحقيق سهيل زكار و عبد القادر زمامة، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، الطبعة 1، 1979، ص: 15-16 .
[3] أقديم محمد، التحولات السوسيوتاريخية في منطقة الأطلس الكبير، منشورات دار الأمان، الرباط، 2016، ص 97.
[4] جلاب حسن، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 7077.
[5] التوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط 1، 2019، ص 130-131.
[6] التوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، مرجع سابق، ص 132-133.
[7] أقديم محمد، التحولات السوسيوتاريخية في منطقة الأطلس الكبير، مرجع سابق، ص 93.
[8] أقديم محمد، التحولات السوسيوتاريخية في منطقة الأطلس الكبير، مرجع سابق، ص 94.
[9] أقديم محمد، التحولات السوسيوتاريخية في منطقة الأطلس الكبير، مرجع سابق، ص 95-96.
[10] جلاب حسن، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 7077.
[11] معلمة المغرب، حسن جلاب، مرجع سابق، ص 7077.
[12] ليفي بروفنصال، تأسيس مراكش (462-1071)، ترجمة أحمد توفيق، ص 21-25، ضمن: مراكش من التأسيس إلى آخر العصر الموحدي أشغال الملتقى الأول 1988، مركز الدراسات والأبحاث حول مراكش، ط 1، الدرا البيضاء، 1989.
[13] معلمة المغرب، حسن جلاب، مرجع سابق، ص 7778-7779.
[14] معلمة المغرب، حسن جلاب، مرجع سابق، ص 7778-7779.