توطئة

سيكون للفقيه المغربي المقيم في القيروان لأبي عمران الفاسي (تــ 1038م) دَوْرٌ في تعريف المغاربة وقبائل الصحراء بالعالم النّجيب عبد الله بن ياسين. ذلك؛ أنّه وبَعْد أنْ عَرَّج وفدُ الحجيج المغربي على إفريقيةَ/تونس بعد انتهاء مناسك الحج قاصدا لُقْيا العلّامة أبي عمران للتبرك بعلمه، ولتقديم طلبٍ إليه، موضوعه؛ انتداب شيخٍ عالِـمٍ لتعليم أبناء الصحراء وَسَاداتها دِين الإسلام وسنّة محمد عليه الصلاة والسّلام. فاقترح عليهم الفقيهُ أبو عمرانَ أحدَ أنجب تلامذته المقيمين في المغرب، الشّيخ وجّاج (وكَاكَ) بن زلّو اللّمطي أبرز فقهاء الجنوب الغربي المغربي (سوس)[1]، وكَـتَب إليه برسالةٍ مع رئيس وفد الحجّاج يطلب منه مرافقتَهم إلى الصحراء لتعليمهم أحكام الإسلام، بَعد انصرام أربعة قرون ونصف من إسلام المغاربة.

تَسَلَّم الشيخ وجّاج الرسالة؛ وأَوْكَل بالمهمة الجليلة لنابغة تلامذته وشيخ سوس مِن بعده عبد الله بن ياسين، الذي “كان مِن حُذّاق الطَلبة ومن أهل الفضل والدين والورع والسياسة، مُشارِكا في العلوم”، حسب عبارة أحمد الناصري في “الاستقصا”[2]، فقَـبِل بالأمر، وانتقل مِن بلاد سوس إلى تخوم الصّحراء، ليبدأ رحلةً دعوية ورباطا تربويا أثمر دولةً مِن العيار الثقيل، وأعْطَت لاسمه إشعاعا وطنيا وإفريقيا وعربيا.

المسارات الأولى لانطلاق الحركة المرابطية

بعد أنْ استقامت أحوال القَبيلتين الصنهاجيتين الكبيرتين (جدالة ولمتونة)؛ وصارتا قوّتين تربويتين وجهاديتين، قاد بهما عبد الله بن ياسين أُولى محاولات تبليغ الدعوة وتأسيس الدولة، فكانت سجلماسة ودرعة أولى المناطق التي شملتها حركة المرابطين بقيادة ابن ياسين ابتداءً من سنة 445 هجرية[3]. وفي حوالي العام 450 هـ استولت الحركة على بلاد المصامِـدة بالأطلس الكبير، وانعطفت صوب تامسنا، فـمغراوة وبلاد السوس الأدنى. فالتَّوجه من سوس إلى بلاد شنقيط، ومنها إلى صحراء المغرب، فالعودة إلى سوس، ثم الرجوع إلى الصّحراء.

وبعد عشرين عاما مِن الدّعوة والإصلاح والجهاد ومَساعي التوحيد، وإنهاء الانقسامات والكيانات السياسية الصغيرة؛ استُشْـهِد الشيخ البطل عبد الله بن ياسين في معركة على حدود حاضرة الرباط الحالية، في عِز جهاده لضم بورغواطة إلى نفوذ المرابطين.

تغيير القيادة واستكمال السيادة

اختيار المرابطون بعد استشهاد الشيخ ابن ياسين الأميرَ أبا بكر بن عمر زعيماً عليهم، غير أنه سرعان ما غادر منصبه متّـجها صوب الصحراء الكبرى لإخماد نزاعات وحروب الصّـنهاجيين، فوَلَّى على المرابطين بالمغرب كله ابن عمه يوسف بن تاشفين.

سيصير ابن تاشفين أميرا للمسلمين وحاكما للمغرب باسم المرابطين ابتداءً من سنة 466 هجرية، وفي مدة لا تتجاوز 22 سنة أمْست دولة المرابطين تحت قيادة يوسف بن تاشفين[4] تَبْسط نفوذها من سبتة إلى نهر السينغال، ومن رباط الفتح غَربا إلى شرق مزغانة في المغرب الأوسط.

الجَـواز صـوب الأندلس

كان الجواز الأوّل لابن تاشفين إلى الأندلس سنة 479 هجرية، وفيها حَدَثت معركة الزّلاقة الشهيرة ضدّ ألفونسو السادس ملك قشتالة، ثم تَلاه الجـواز الثاني والثالث لأسباب عديدة، إلى أن كان الجواز الرابع الذي أنهى فيه أمير المرابِطين أمْرَ ملوك الطوائف، وضمّ الأندلس إلى المغرب الأقصى سنة 483 هجرية. وما إن دَخَلت سنة 493 هجرية حتى ضَمَّ المرابطون معظَم التراب الأندلسي الإسلامي إلى نفوذهم عَدا مملكة سرقسطة.

ولبَـيان أهمية وقيمة الأندلس في مشروع وفِكر قادة دولة المرابطين، عمِل أمير المسلمين يوسف على أخْذِ البيعة لولي عهْـده الأمير علي بن يوسف في قرطبة، وبعد أنْ أصبح سلطانا مرابطيا؛ استَأنَف الجاهد في الأندلس، فضمّ سَرقُسطة ومجريط وطُليطلة وقلمرية (سنة 511 هـ) والـجُزُر الشرقية وإقليم الباسك وبرشلونة (سنة 509 هـ). وبذلك بلغت الدولة أوْجها وقوتها السياسية والإستراتيجية والدينية، وواصل عليٌّ جهود والِده بتطوير حاضرة مراكش وبناء المدارس والجوامع وتكريم الفقهاء والعلماء.

من إنجازات دولة الـمرابطين

أهم إنجازات المرابطين تتجلّى في:

– قيادتهم لتجربة سياسية وحدوية قوية وعظيمة في غرب البحر الأبيض المتوسّط، عنوانها “مَلحمة الـمرابِطين”، وهي التجربة “الأولى من دُول المغرب ذات الأهمية العالمية”[5]؛

– بناء مدينة مراكش وتطوير أغمات وتعزيز دور سجلماسة في التجارة البرية الصحراوية؛

– ترسيخ المذهب المالكي والفقه المالكي في المغرب الأقصى؛

– حمايتة الأندلس وتوسيع الحضور الإسلامي فيها؛

– تعزيز تبادل التجارب والخبرات وارتحال العلماء والنبغاء بين المغرب والأندلس؛

– تَشييد القِـلاع والحصون والقصبات، وابتكار الخطارات المائية والمعمار الديني بكلٍّ من المغرب والأندلس، كــ(جامع ابن يوسف، جامع الكتبية، القبة المرابطية، قصر الحجر، قنطرة ابن تاشفين، المسجد الجامع بتلمسان (530هـ)، أسوار مراكش[6] وأسوار ألمرية وأسوار قُرطبة، قلعة منتقوط في مرسية..).

مرحلة الضّعف والتراجع فـالسّقوط

لم يكن في وسع دولة المرابطين مواصلة صناعة الأمجاد وقد بدأ الضعف والخلاف يدبُّ إليها، والتربُّص بكيانها ووجودها داخليا وخارجيا. فبعد سنواتٍ قليلةٍ من توَلّي تاشفين بن علي الحكم، تمددت حركة المعارضة ممـثَّلَةً في الموحدين وزعيمهم محمد/المهدي بن تومرت. وفي مرحلة كُلٍّ من الأمير إبراهيم بن علي وإسحاق بن علي؛ تجرّأ النصارى على كثير من بلاد الأندلس وحازوا كُبريات مُدنها، وواصَل ابن تومرت هجوماته العسكرية على مراكش ونواحيها، وطارَدَ أتْباعُه الأمير إسحاق حتى قتلوه ناحية شرق المغرب.

المراجع
[1] جبرون محمد، الفتح الإسلامي للمغرب، الكتاب الثالث ضمن سلسلة، المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاستعمار، منشورات سليكي أخوين، طنجة، الطبعة الأولى فبراير 2020.
[2] الناصري أبو العباس أحمد، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، القسم الأول، الجزء الأول، تحقيق الأستاذَيْن جعفر الناصري ومحمد الناصري، ، دار الكتاب للطباعة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1955، ص 100.
[3] جبرون امحمد، تاريخ المغرب من الفتح الإسلامي إلى الاستعمار، سلسلة تاريخ المغرب للأطفال واليافعين، الدولة المرابطية (427 هــ/1035م – 541 هــ/1146).
[4] الصلابي محمد علي، تاريخ دولَتَيْ المرابطين والموحّدين في الشمال الإفريقي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثالثة، 2009.
[5] العروي عبد الله ، مجمل تاريخ المغرب، الأعمال الكاملة التاريخية، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2018، ص: 268.
[6] المراكشي عبد الواحد الـحُلل الموشية في ذِكر الأخبار المراكشية، تحقيق الدكتور سهيل زكار والدكتور عبد القادر زمامة، منشورات دار الرَّشاد الحديثة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1996.