توطئة

حظيَ تاريخ الدولة الموحدية بعناية المؤرخين الذين عاصروها، فوصلتنا عنهم مصادر غاية في الأهمية والقيمة التأريخية[1]، وكذا المؤرخين الـمعاصرين في عددٍ من المراجع[2] الـمعتَبَرة، مثلما حظيت هذه الدولة بالمكانة التي ملأت السمع والبَصر في العصر الوسيط، ولا سيما في شمال إفريقيا والأندلس.

قضى محمد بن تومرت، المتلقِّب بالمهدي ما إجماله عشر سنوات من التحصيل العلمي والفقهي في كلٍّ من المشرق والأندلس، ومصر والحجاز وإفريقيةَ والمغرب الأوسط، قبل أن يدلِف إلى مراكش، وهي وقتها حاضرة مُلْك الدولة المرابطية، وأميرها علي بن يوسف، ابن بطل معركة الزلاقة السلطان يوسف بن تاشفين.

البدايات.. تقلباتٌ المهدي ومسارات دعوته

استغرق المهدي بن تومرت[3] في إطار عودته من المشرق إلى المغرب حوالي أربع سنوات، فحلَّ بمراكش سنة 514ه، وبدأ في نشر أفكاره ودعوته، وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فطارَ صِيته في أوساط الفقهاء والعامّة بمراكش، فاستدْعاه ابن تاشفين لمناظَرة علماء حضْرته، فلمّا غَلَبهم على أمرهم، اختَلَوا في طُرُق التعامل معه، فمنهم من اقترَح سَجنه، ومنهم من اقترح قَتْله؛ إلا أنَّ السلطان المرابطي فضَّل إطلاق سراحه مع إبعاده خارج مراكش.

واصل المهدي دعوة القبائل ومن يَلْقَى من الأتباع والأشياع، حتى إذا جَمع حوله نفراً منهم ومن أبناء قبيلته المصمودية؛ انْحاشَ إلى تينمل، وادَّعى الإمامة سنة 515ه، وحول المنطقة إلى رباط دعوة، فمنُطلق جهاد لاحِقاً، بعد أن قسَّم أتباعه إلى أهل العشرة، وأهل الخمسين وأهل السبعين، وعزَّز دَعوته فيهم بتأليف الكُتُب بالأمازيغية والعربية.

وجدَ ابن تومرت في تلميذه وصديقه المخلِص عبد المؤمن بن علي الكَومي حاجته لـلمُريد، فكان أنْ نَشأ عن علاقة الشيخ بالـمريد صُحبة علمية وصداقة إنسانية ستصير تحالُفاً سياسيا وإستراتيجيا قَـلَب موازين الـقُوى في الغرب الإسلامي، وأَسَّس لتجربة سياسية ستُعمِّر إلى مطلع 1292م.

وفي أُولى مواجهته ضد المرابطين؛ أَمَّـــــرَ ابن تومرت على قيادة جيوش الموحّدين في معركة البحيرة الشّـهيرة سنة 524هـ، عبد المؤمن بن علي، ووصفه لخواصّ أصحابه قائلاً: “هذا غَلاّب الدُّول”.

عبد المومن بن علي.. الصولة والجَولة والدّولة

تُـوفِيَ صديق عبد المؤمن، الأب الروحي لحركة الموحِّدين فــ”بَكا عبد المؤمن لفراقه بكاءً شديداً”[4]؛ ثمَّ بايع الأتباع والأشياخ ابن عليٍّ أميرا عليهم ناطقا باسم جماعته، وكانت تلك بيعة صُغرى يوم 31 غشت 1130م، أو بَيعة السرّ كما وصَفها ابن القطّان[5]، ثم اجتمَعت له البيعة الكبرى لاحقا في شهر ربيع الأولّ.

جاء الدّور على الكومي ليَبْصُم تاريخ المنطقة ببصمات خالدات، فخاض سلسلة حروب ضد آخِر أمَراء دولة المرابطين، تُوِّجَت بانتصار كاسِح للموحّدين، بضمِّهم وهران وتلمسان شرقا، وإخضاع القبائل الشرقية للدّعوة الموحّدية، ثمّ التوجّه لفاس، ومحاصَرتها سبعة أشهر، في صبر ودهاء عسكري لا يؤتاهما إلا كبار القادة، إلى أنْ خَرجت مِن يَدِ المرابطين، فدَخلها ابن علي الكومي منتصِرا يوم 5 ماي 1145م، كما دَخَل العاصمة التاريخية للمرابطين، حاضرة مراكش في مارس من سنة 1147م بعد حصار لها دام تسع سنين، ثم انضمَّ الشّمال ومدينتي سلا ورباط الفتح لنفوذ الحاكم الموحِّدي الجديد، ثمَّ قضى على الحمّاديين في المغرب الأوسط، واستأنف حملته العسكرية إلى إفريقيةَ، فأنهى حُكْم قادتها الزّيديين، فَـدَشَّنَ بذلك عبد المؤمن بن علي عَهداً جديدا في تاريخ المغرب الأقصى والأندلس تحت راية دولة الموحِّدين، وفي ظِلال وِحدة مغاربية قوية.

وفي الأندلس التي استولى عليها الموحدون ابتداءً من سنة 569 بعد جهادٍ دام 27 عاما؛ فقد أقرَّ ابنَه عُثمان نائبا عنه في غرناطة، وابنه يوسف واليا على إشبيلية، وابنه عبد الله على بْجاية، والوزير عمر إنتي أو الهنتاتي واليا على قُرطبة، فاستتبَّ بذلكَ الأمر للخليفة ولدولة الموحِّدين.

مراحل الضعف والتفكك

يختصر الكاتب امحمد جبرون هذا الكتاب[6] مراحل تراجع وضُعف دولة الموحدين، جاعلاً محطّتها القاصمة خسارة جيش الموحدين في معركة العقاب بالأندلس زمن الخليفة محمد الناصر بن يعقوب المنصور الموحدي، سنة 1212م، وانتشار جيش ألفونسو في كثير من القلاع والحصون والـمُدن الأندلسية، وموت الخليفة مهموماً مكلوما من الهزيمة سنتين بعد المعركة، وتولّي ابنه الأصغر يوسف الحكم، واستبداد أشياخ الموحدين بالأمور.

ووعلى مدار ثمانية وخمسين سنةً لن يتسقِرّ الأمر للموحدين، وستتفشَّى بينهم الصراعات والنزاعات، وستدخُل الدولة طور الضعف في المغرب والأندلس وشمال إفريقيا. ويُجمِل الكاتب ذلك في ثلاث عناصر:

  • صراع الموحدين فيما بينهم وتنافُسهم المذموم على الحُكم؛
  • عجْز الموحدين وأجنادهم عن تحقيق الأمن والقيام بوظائف الدولة؛
  • كَثرة الـمتمرِّدين وبروز الكيانات الـمُستقِلَّة.

تِعداد بعض إنجازات دولة الموحدين

خلَّفت دولة الموحدين إرْثا عظيما، على أكثر من مستوى، وطوّرت في جوانب نظام الحكم والمجتمع والثقافة والصناعات، وظهر على عهْدِهم جهاز المخزن، وكان سلطانهم يوسف أبو يعقوب أوّل من وضع الطابع على الرسائل السلطانية، واهتمَّ عبد المؤمن بن علي وخَلَفه يوسف ثم حفيده يعقوب المنصور بالثغور والتَّحصينات الدفاعية وتجديد الأسوار التاريخية لبعض الـمدن وتجديد الرُّبُـط كرباط تازة عام 520ه[7]، وبِناء وتشييد مدينة الفتْح في جبل طارق سنة 555هـ، وإنشاء الأسطول البَحري ببناء حواليْ 400 قطعة بحرية تَمَّ إيكالُ إنجازها إلى موانئ طنجة وسبتة وبادس والمعمورة في المغرب، ووهران في المغرب الأوسط، والمهدية في المغرب الأدنى (تونس)، وفي الأندلس كذلك.

اعتَمَد الموحِّدون نظام الرّقاصين _ أيْ سُعاة البَريد _ فطوَّروا بهم نظام البريد بين الأقاليم، وفَرَضوا الخراج على القبائل المغربية، وأحْصَوا الأراضي الواقعة تحت نفوذهم في أقصى امتدادٍ لهم (ليبيا) الحالية.

وإلى جانب هذا؛ أبدى السلاطين الموحدون رعايتهم الكبيرة للعلم والعلماء، حتى نبغ واشتهر في عصرهم: القاضي عياض اليحصبي السبتي، وابن دِحْية وولَداه النّجيبان، والشيخ أبو محمد حسن ابن عبد الملك الكتامي، ومحمد بن إبراهيم بن خَلف المشهور بــابن الفخّار، والمحدِّث المفسِّر عبد الحق بن عطية المحاربي ويوسف بن سَعادة وعلي بن خُليد الإشبيلي، والكاتب الأديب عَقيل بن عطية وأخاه الوزير جعفر بن عطية، والشاعر محمد بن حبّوس، وأبو بكر بن علي الصنهاجي المؤرخ الكبير، وعبد الواحد المراكشي..، كما انتَعَشت على عهدهم وظيفة التوثيق، واشتهر كثير من الموثِّقين.

وأجْرَى الخلفاء الموحدون المرتَّبات للشعراء، وكان عبد المؤمن الكومي “مؤْثِرا لأهل العلم، مُحْسنا إليهم، يَسْتدعيهم من البلاد إلى الكَوْنِ عنده والـجِوار بحَضْرته، ويُجْري عليهم الأرزاق الواسعة، ويُظْهِر التّنويه بهم والإعظام لهم”[8]، فتنامى نفوذهم في بلاده.

ختاما

امتدَّ حُكم هذه الدولة المركزية القوية في العصر الوسيط على مدار 150 عاما، إلى أن أنهى وجودَهم بنو مرين، الذين تولَّوا حُكم المغرب الأقصى بعد سنة 668م.

المراجع
[1] انظر على سبيل المثال: مؤلِّف مجهول: "الحُلل المراكشية في ذِكر الأخبار المراكشية"- (البيدق) أبو بكر الصنهاجي: "المقتَـبس من كتاب الأنساب في معرفة الأصحاب"- (ابن أبي صاحب الصلاة) عبد الملك: "تاريخ المن بالإمامة على المستضعَفين بأن جَعَلهم الله أئمة وجَعلَهم الوارثين، وظُهور الإمام المهدي بالموحدين على الملثَّـمين، وما في مَساق ذلك من خلافة الإمام الخليفة أمير المؤمنين وآخِـر الخلفاء الراشدين"- (المراكشي) عبد الواحد: "الـمُعجِب في تلخيص أخبار المغرب من لَدُن فتْح الأندلس إلى آخِر عصر الموحّدين"- (ابن عُذاري) محمد أبو عبد الله المراكشي: "البيان الـمُغرِب في تلخيص أخبار الأندلس والمغرب"...
[2] انظر على سبيل المثال: (المنوني) محمد: "العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين"- (الناصري) أبو العباس أحمد: "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"– (العروي) عبد الله: "مُجمَل تاريخ المغرب"، الأعمال الكاملة، عن المركز الثقافي للكتاب، الجزء الثاني...
[3] البيدق أبو بكر الصنهاجي، أخبار المهدي وبداية دولة الـموحّدين، دار المنصور للطباعة والوِراقة، الرباط، طبعة 1971.
[4] ابن أبي زرع عبد الله، الأنيس الـمُطرِب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، دار المنصور للطباعة والوِراقة، طبعة 1972، ص 180.
[5] ابن القطان، نُـظُم الـجُمان في ترتيب ما سَلَف من أخبار الزّمان، دراسة وتحقيق محمود علي مكّي، الطبعة الثانية 1990، عن دار الغرب الإسلامي، ص 170.
[6] جبرون امحمد، سلسلة تاريخ المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاستعمار؛ الدولة الموحدية 1120 – 1269، سليكي أخوين، طنجة، الطبعة الأولى 2020.
[7] ابن أبي زرع عبد الله، الأنيس الـمُطرِب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، مرجع سابق، ص 187.
[8] المراكشي عبد الواحد، الـمُعجِب في تلخيص أخبار المغرب من لَدُن فتْح الأندلس إلى آخِر عصر الموحّدين، ضبط وتصحيح وتعليق محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، منشورات المكتبة التجارية الكبرى الطبعة الأولى 1949، ص 200.