مقدمة

شهد المغرب خلال فترة ما بعد وفاة أحمد المنصور الذهبي سنة 1603م/1012ه، فتنة سياسية كبيرة نتجت عن النزاع حول الحكم بين أبناءه الثلاثة: زيدان وأبو فارس والمامون، وهي الفتنة التي سرعت بانفراط عقد الدولة السعدية (الدولة الزيدانية) وانقسام البلد بين أبناء المنصور الذهبي، وظهور عدد من الكيانات السياسية المحلية كالإمارة العلوية بتافيلالت والإمارة الدلائية بالأطلس المتوسط، وإمارة يحيى الحاحي بتارودانت، وحركة ابن أبي محلي في تافيلالت وتوات. وفي ذات السياق التاريخي والسياسي ظهرت “إمارة إليغ” أو “الإمارة السملالية” في منطقة إليغ ببسيط تَزروالت في منطقة سوس- شرق مدينة تزنيت، وهي الإمارة التي قامت على الإرث الفكري والديني والإجتماعي للشيخ أحمد أو موسى وزاويته. وقد استفاد أحد حفدة هذا الأخير، ويتعلق الأمر بأبي حسون السملالي (بوحسون السملالي) المعروف ب”بودميعة”، من إرث زاوية سيدي حماد أو موسى بتازروالت لتأسيس هذه الأمارة، والتي امتد نفوذها على كل منطقة سوس بعد القضاء على “الإمارة الحاحية” بتارودانت بوفاة مؤسسها أبو زكرياء يحيى الحاحي سنة 1626م/1035ه، بالإضافة إلى منطقة درعة ثم سجلماسة ونواحيها بتافيلالت. وقد استمر عمر الإمارة السملالية إلى إن تم القضاء عليها من طرف المولى الرشيد بن الشريف العلوي، وذلك قبل إعادة إحياء الإمارة في نسخة ثانية على يد هاشم بن علي في بداية القرن 19م.

أسس تأسيس الإمارة السملالية

تأسست إمارة إيليغ (الإمارة السملالية) في منطقة احتضنت زاوية من أشهر الزوايا في سوس، وهي زاوية سيدي احمد أو موسى بتزروالت، حيث كان هذا الأخير في زمانه متصدرا باقي أقطاب التصوف في سوس، فتحولت زاويته إلى منطقة جذب ديني واجتماعي واقتصادي، فعزز ذلك المكانة الإستراتيجية لتزروالت ولعائلة الشيخ، الأمر الذي سيكون حاسما خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين في دفع قبائل المنطقة لمحاولة تأسيس سلطة سياسية مركزية.[1] وقد سبق لعلي ابن الشيخ أحمد أو موسى أن ثار على السلطان السعدي القوي أحمد المنصور الذهبي حوالي 1597م/1006، وسيطر على مناطق واسعة من منطقة جزولة، قبل السيطرة على مدينة تارودانت العاصمة الأولى للدولة السعدية، لكن أمره انتهى باعتقاله من طرف المنصور الذهبي وسجنه في المدينة حتى لقي حتفه. فتكون بذلك مبادرة أبي حسون بمثابة إتمام للمشروع السياسي الذي بدأه سيدي علي بن احماد أو موسى قبل بضعة سنوات ولم ينجح.[2]

وقد اختار مؤسس الإمارة أبو الحسن علي بن امحمد بن امحمد ابن الشيخ سيدي احماد أو موسى، المكنى ببودميعة والمشهور بأبي حسون السملالي، منطقة إيليغ لبناء عاصمة إمارته، وذلك بعد انتقال الأسرة من مقرها الأول بحصن تاَجكُجالت المطل على مشارف بسيط تازروالت، ويبعد موضع إليغ عاصمة الإمارة عن مدينة تزنيت في اتجاه الشرق بحوالي 84 كلم، وتحيط بها جبال أمغسو وتوكَال وجبل الإيغشانيين.[3]

مرحل تأسيس إمارة إيليغ

أسس علي بودميعة إمارة إيليغ في فترة طبعها الصراع الدموي الذي انفجر بين أبناء السلطان السعدي أحمد المنصور، وخاصة بسبب ضعف قبضة المولى زيدان في سوس، فبايعه سكان وأعيان وعلماء منطقة جزولة  سنة 1612م/1021، وذلك قبل الاستيلاء على تارودانت قاعدة سوس للمرة الثانية، بعد حروب عدة مع أبو زكرياء يحيى الحاحي. وبعد وفاة هذا الأخير سنة 1626م/1035ه “صفا لأبي حسون قطر السوس ونفذ فيه أمره وسمعت كلمته… ثم مد يده إلى درعة فاستولى عليها، ثم استولى على سجلماسة ونواحيها فاستحكم أمره وتقوى عضده”.[4] وقد مكن هذا التمدد الإمارة السملالية من السيطرة على أهم المحاور التجارية المؤدية إلى الشمال عبر سوس وسجلماسة. وتمكن من احتكار السلع التجارية السودانية (من السودان الغربي)، كما سيطرت على الموارد المتأتية من مراسي منطقة سوس، وسيطر على مناجم المعادن في المنطقة، وفرض مختلف الضرائب على السكان.[5]

وعلى عكس الإمارات الأخرى، تميز المشروع السياسي لأبي حسون بوضع أسس وطيدة لبناء دولة مركزية، وتلقب بالسلطان، كما عرف بألقاب أخرى مثل “بودميعة” و”صاحب الساحل”. كما اعترفت بعض الدول الأجنبية بحكمه وفاوضته وعقدت معه المعاهدات التجارية، وهو ما مكنه من جني أرباح طائلة من الصفقات التجارية ومن الحصول على العدة والعتاد فسمح له ذلك بالدفاع عن المجالات الشاسعة التي كنت تحت سيطره.[6]

بعد وفاة أبي حسون السملالي (1659م/1070ه)، وتولي ابنه سيدي محمد أوعلي شؤون الإمارة دخلت الإمارة السملالية مرحلة جديدة في تاريخها، حيث لم تستطع الحفاظ على نفوذها بواحات المناطق الشرقية. ففي سنة 1670م/1081ه دخل المولى الرشيد بن الشريف المنطقة ليثأر لأبيه الشريف بن علي الذي كان مسجونا لدى الإمارة السملالية، فاستولى على مناطق واسعة من سوس كتارودانت ومنطقة هشتوكة، ودمر عاصمة الإمارة إليغ التي فر منها محمد بن أبي حسون وإخوته إلى حيث آوتهم قبيلة أيت أوسا التكنتية،[7] وقيل أيضا، أنهم لجأوا إلى السودان الغربي في ضيافة ملك البامبرا Biton Kouloubali، حيث استقروا في تومبكتو تحت حماية الملك السوداني، الذي ساعد محمد أوعلي على تكوين جيش من آلاف العبيد وتوجه به إلى سوس لاسترجاع إمارته. ورغم حلوله بسوس ودخول للمنطقة في ربيع 1672م فإن الأمير السملالي اضطر إلى تسريح جيشه الذي لم يستطع تلبية حاجياته.[8]

وقد نتج عن انتصار المولى الرشيد العلوي انهيار حكم السملاليين، وتوارى النفوذ السياسي السملالي إلى الظل. وفي المقابل استمر النفوذ الإجتماعي والإقتصادي والديني لحفدة الشيخ أحمد أو موسى رغم التوتر الظاهر في علاقتهم بسلاطين الدولة العلوية الوليدة.

علاقات الإمارة السملالية بالقوى الأخرى

بالإضافة إلى المواجهات العنيفة التي دخلت فيها الإمارة السملالية مع الإمارة الحاحية بتارودانت، فإن دخول أبي حسون وسيطرته على منطقة درعة وتافيلالت جلبت عليه غضب الزاوية الدلائية التي كانت هي الأخرى تطمح إلى السيطرة على ما وراء الأطلس المتوسط في اتجاه الجنوب، وهو ما ظهر في الرسالة الشديدة اللهجة التي وجهها أبو بكر الدلائي إلى أبي حسون عندما دخلت جيوشه منطقة تافيلالت وأسرت المولى الشريف بن علي جد الأسرة العلوية، كما آخذته على تعسفه الضريبي وسوء معاملته للأهالي. وقد دخلت العلاقات بين القوتين مرحلة من التودد فيما بعد، فتبادلوا الهدايا والزيارات، وذلك قبل أن تتوتر مرة أخرى خاصة بعد وفاة محمد بن أبي بكر الدلائي وشروع خلفه محمد الحاج في نشر سلطته في تادلا وبقية المغرب، في مقابل انشغال أبي حسون بحركات التمرد ضده بالصحراء، وهي التمردات التي انتهت بجلائه عن سجلماسة ودرعة.[9]

أما علاقته الإمارة السملالية بالعلويين فقد بدأت عندما دعا الشريف بن علي أبا حسون السملالي سنة 1633م/1043ه إلى سجلماسة لمواجهة الزبيريين من أهل  حصن تابوعصامت الذين استنجدوا بدورهم بالزاوية الدلائية. ولكن العلاقة فسدت بين الطرفين بعد مبايعة أهل المنطقة للشريف بن علي سنة 1631م/1041ه، فأمر أبو حسون باعتقاله وسجنه في سوس سنة 1637م/1047ه، وأثناء هذا الاحتجاز، أهداه أبو حسون إحدى إمائه لخدمته ويتعلق الأمر بإحدى نساء قبيلة المغافرة، والتي أنجبت له هناك ابنه المولى إسماعيل[10]. وقد ظل مسجونا حتى تمكن ولده مَحمد بن الشريف من افتدائه مقابل مبلغ مالي كبير. كما هاجم هذا الأخير قوات أبو حسون في منطقة سجلماسة وما حولها إلى أن طردهم سنة 1640م/1050ه.[11]

الإمارة السملالية الثانية

في سنة 1801م/1216ه انبعثت الإمارة السملالية مع مجيء هاشم بن علي الذي لم يجد صعوبة في تصدر الشؤون المحلية بسوس، فاسترجع ممتلكات عائلته، فأتم بناء إليغ الجديدة غير بعيد عن أنقاض إليغ القديمة. وبعد تولي الحسين ابن هاشم (الحسين أوهاشم) سنة 1824م أمر الإمارة وقيادتها توسع بشكل كبر نفوذ حفدة سيدي احماد أو موسى في منطقة سوس، مستغلين انشغال السلطة المركزية بمقاومة الضغوط الأجنبية المكثفة على البلد خلال تلك الفترة، كما تقوى النفوذ الإقتصادي للعائلة.

وبوفاة الحسين بن هاشم (الحسين أوهاشم) سنة 1886م دخلت الإمارة السملالية الثانية مرحلة جديدة، بعد تعيين ابنه محمد بن الحسين من طرف السلطان الحسن الأول قائدا على قبائل تازروالت وسملالة ورسموكة والمعدر وأين رخا وتانكرت وإدا أو شكَرا، حيث أصبح قائدا مخزنيا.[12] ورغم التحول الذي طرأ على شكل الإمارة السملالية، فإن البعد الأميري استمر لدى العائلة وفي إيليغ وهو ما أثبتته أحداث عدة، منها مبادرة حلفي إكَوزولن وتحكَات الرئيسيين في سوس بقيادة محمد بن محمد بن الحسين بن هشام إلى مجابهة الجيش السلطاني بقيادة الوزير باحماد في عهد السلطان المولى عبد العزيز العلوي، كما أن حفيد الحسين بن هاشم، وهو احماد بن محمد، كان له دور طلائعي إلى جانب أبيه في الدفاع عن بقاء الإمارة حرة أمام تراكم المصاعب وبداية الزحف الفرنسي على المنطقة، وهو ما يفسر أيضا عدم استفادة العائلة من فترة التواجد الفرنسي في المنطقة خلال فترة الحماية الفرنسية بالمغرب.[13]

المراجع
[1] ناعمي مصطفى، معلمة المغرب، ج2، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ودار الأمان، ط2، 2014، ص 659.
[2] حنداين محمد، المخزن وسوس (1672-1822) مساهمة في دراسة تاريخ علاقة الدولة بالجهة، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط2، 2019، الرباط، ص 240.
[3] ناعمي مصطفى، معلمة المغرب، ج2، مرجع سابق، ص 659.
[4] الناصري أحمد بن خالد، الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج6، تحقيق وتعليق جعفر الناصري ومحمد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1997، ص 79.
[5] حنداين محمد، المخزن وسوس (1672-1822) مساهمة في دراسة تاريخ علاقة الدولة بالجهة، مرجع سابق، ص 218.
[6] القبلي محمد (إشراف وتقديم)، تاريخ المغرب تحبين وتركيب، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الرباط، 2011، ص 394.
[7] ناعمي مصطفى، معلمة المغرب، ج2، مرجع سابق، ص 660.
[8] حنداين محمد، المخزن وسوس (1672-1822) مساهمة في دراسة تاريخ علاقة الدولة بالجهة، مرجع سابق، ص 243-244.
[9] القبلي محمد (إشراف وتقديم)، تاريخ المغرب تحبين وتركيب، مرجع سابق، ص 394.
[10] القبلي محمد (إشراف وتقديم)، تاريخ المغرب تحبين وتركيب، مرجع سابق، ص 400.
[11] حركات إبراهيم، المغرب عبر التاريخ، ج3، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، ط2، 1984، ص 19-20.
[12] ناعمي مصطفى، معلمة المغرب، ج2، مرجع سابق، ص 660-661.
[13] ناعمي مصطفى، معلمة المغرب، ج2، مرجع سابق، ص 661.