مقدمة

الزاوية الدلائية (أو زاوية الدلاء)، من الزوايا التي لعبت أدوارا كبيرة وحاسمة في تاريخ المغرب، خصوصا في المجال الديني والعلمي والسياسي، وخاصة في القرن السابع عشر الميلادي/11ه، أي في فترة تاريخية انتقالية تميزت بالاضطراب الشديد؛ وهي الفترة التي تتوسط الدولة السعدية والدولة العلوية. ولأن الزاوية الدلائية كانت من القوى السياسية التي حاربت العلويين في بدايتهم، فإن المؤرخين، الذين عاصروا أحداث الصراع بين الدلائيين والعلويين والذي انتهى لصالح العلويين بعد قضاء المولى الرشيد بن الشريف العلوي على زاويتهم، قد أحجموا عن تدوين تلك الأحداث، وخاصة منها ما تعلق بمجد الدلائيين والجوانب الحسنة في حياتهم السياسية.[1]

لقد برزت الزاوية الدلائية في الفترة التي تلت وفاة السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي (1578م-1603م/986ه-1012)، وتفجر الصراع على الحكم بين أبناءه الثلاثة: زيدان، وأبو فارس ومحمد الشيخ المامون، وما صاحب ذلك من انتشار للاضطرابات والفتن على طول أرجاء البلد. ورغم حالة الإضطراب تلك فإن الزاوية الدلائية، بالنظر إلى مناعة موقعها في جبال الأطلس المتوسط ولمكانة رجالها الصالحين، فإنها استطاعت أن تحتضن الثقافة الإسلامية في عصر عصفت فيه الإضطربات بالمراكز العلمية التقليدية كفاس ومراكش. وقد عمرت الزاوية لما يقارب قرن من الزمان ظلت فيه مركز إشعاع للعلم والدين.[2] وفي هذا الجو المضطرب والحالك من تاريخ المغرب ظهرت أيضا عدة زعامات محلية؛ كالمجاهد العياشي السلاوي، وابن أبي محلي السجلماسي، وأبي زكرياء يحي الحاحي بتارودانت، وأبو حسون السملالي بإليغ.

الدلائيون.. الدلالة والأصول

دلالة الإسم:

يرى الأستاذ والمؤرخ محمد حجي أن كلمة الدلاء (أو الدِّلا) تطلق على الأرض التي أسس فيها المجاطيون زاويتهم بالجنوب الغربي للأطلس المتوسط المشرف على سهول تادلا. أما لغويا فلفظ الدلاء لفظ عربي وهو جمع دلو وهو إناء يسقى به الماء. ويقول محمد حجي: “وإذا كان من المستغرب إطلاق هذا اإسم العربي القح على بقعة تقع في وسط  (بربري) صرف فإنَّا لا ندري كذلك لهذه التسمية سببا ولا تاريخا، اللهم إلا ما يبدو من تقارب لفظي بين الدلا وتادلا، الأمر الذي يجعلنا نفترض أن الاسمين كانا مترادفين لمسمى واحد. ويؤيد هذا الإفتراض أن عبد العزيز الفشتالي-وهو معاصر للزاوي الدلائية- أطلق لفظ الدلا على تادلا حينما تحدث عن توزيع المنصور الذهبي لأقاليم المملكة على أبنائه…ولعل الزاوية الدلائية بعد أن اشتهرت خصوصا عندما تزعمت الحركة السياسية بالمغرب اختصت باسم الدلا، بينما بقيت السهول المجاورة لها تسمى تادلا”.[3]

أصول الدلائيين:

ينتسب الدلائيون إلى قبيلة مجاط، أحد فروع صنهاجة، وتعود أصولهم إلى قبيلة لمتونة الصنهاجية التي كانت تستوطن أقصى الصحراء المغربية. وكانت مساكن مجاط قبل انتقالهم إلى الدلاء على ضفاف نهر ملوية العليا فيما بين تونفيت وميدلت. وأول من استوطن من المجاطيين أرض الدلاء الشيخ الصالح أبو حفص عمر المجاطي، ثالث أجداد الشيخ أبي بكر، مؤسس الزاوية الدلائية، وذلك في أواخر القرن الثامن الهجري.[4]

ورغم صعوبة تحديد تاريخ محدد لتأسيس الزاوية الدلائية، فإن يمكن القول بأن ذلك كان في الثلث الأخير من القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، حوالي 974ه/1566م، وأسسها أبو بكر بن محمد بن سعيد بن أحمد بن عمر الدلائي بإشارة من شيخه أبي عمر القسطلي بمراكش، والذي أمر الشيخ أبي بكر الدلائي باتخاذ زاوية له في أرض الدلا، وهو الأمر الذي استجاب له فبنى الزاوية الدلائية.[5] وتسمى أيضا بالزاوية الدلائية البكرية نسبة إلى مؤسسها. وقد أسس أبو بكر الدلائي زاويته على ربوة في سفح جبل بوثور بينه وبين جبل تاغوليت، وتنحدر في شرقيها أقا إزم أي شِعب الأسد، بالسفح الجنوبي الغربي للأطلس المتوسط. وتنفجر بالقرب منها عين جارية تخترق المسجد وتضيع في الشعاب.[6]

مراحل تشكل الزاوية الدلائية

كانت النواة الأولى للزاوية الدلائية تتمثل في المسجد الخاص الذي أسسه أبو بكر الدلائي في منطقة الدلا، ثم القرية القائمة حول المسجد، والتي تشمل الدور والأسواق والمساجد وسائر المرافق الأخرى. وهذا يعني أن بناء الزاوية الدلائية استمرت طيلة حياة الشيخ أبو بكر الدلائي. وقد تفرعت عنها مدينة أخرى تقع جنوبيها على بعد نحو 12 كلم، أنشأها في سفح الجبل حفيد الشيخ أبي بكر، السلطان محمد الحاج بن محمد الدلائي عام 1048ه/1638م لما ضاقت رحاب الزاوية القديمة بالوفود، فورثت عن قرية الدلاء القديمة اسم الزاوية الدلائية البكرية. وسماها بعض المؤرخين مدينة الدلاء زاوية محمد الحاج أو مدينة أزغار (أزغار: الأرض المنبسطة بالأمازيغية).[7] وهذه الأخيرة هي التي تقوم على أنقاضها زاوية أيت اسحاق الحالية، في الطريق التي تربط بين مدينتي خنيفرة وقصبة تادلا.

وبناء على ذلك، فإن هناك زاويتين دلائيتين، قديمة وحديثة ما تزال أطلالهما قائمة الذات ماثلة للعيان حتى اليوم. ويعرف سكان ناحية خنيفرة الزاوية القديمة باسم: أيت إيدلا، أي أهل الدلاء. وفيها بقايا المسجد الذي أسسه أبو بكر الدلائي، وبقايا ضريحي الشيخين أبي بكر وإبنه محمد. أما الزاوية الدلائية الحديثة، فقد كانت عاصمة إمارة الدلائيين، وما تزال آثار الأسوار العظيمة التي كانت تحيط بهذه المدين ممتدة على مسافات شاسعة.[8]

تأسيس الإمارة الدلائية

كان الهدف الأول لتأسيس الزاوية الدلائية القديمة من طرف أبو بكر الدلائي هو نشر الطريقة الشاذلية ولإطعام الفقراء بشكل لم يسبقهم إليه أحد، وقد توفق كثيرا الشيخ أبو بكر الدلائي لأزيد من ثلث قرن في القيام بهذا الدور على أكمل وجه. وقد ساعده على ذلك أن أسرته كانت أسرة موسرة جدا، وكانت تملك ثروة واسعة، حيث كان الدلائيون يملكون حقول شاسعة في سفوح الأطلس المتوسط الشرقية والغربية وبلاد غريس ومنطقة الدير، بالإضافة إلى قطعان الماشية في ملوية العليا ومنحدرات جبال تادلا، فكانوا يخصصونها لإطعام ساكنة زاويتهم من علماء وطلبة ومريدين وعامة الناس، وهي ظاهرة لم يعرف لها نظير في تاريخ المغرب، حيث لم ينقطع الإطعام بالزاوية الدلائية طوال المائة سنة التي عاشتها[9]

وعلى نهج أبو بكر الدلائي سار أبناؤه حتى بلغت الزاوية الدلائية في عهدهم شأوا بعيدا في الشهرة والمجد لم تبلغه زاوية من قبل أو بعد. وفي عهد حفيد مؤسس الزاوية الشيخ محمد الحاج الدلائي بدأت ملامح التغير تظهر على نهج الزاوية الدلائية، وهي فترة تميزت باضطراب أحوال البلاد بعد وفاة السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي ونشوب النزاع والحروب بين أبناءه، حيث انقطعت السبل وكثر النهب والسلب وتعطلت الدروس أو كادت في فاس ومراكش وسائر الحواضر، فكانت الدلاء المنطقة الآمنة التي يأوي إليها العلماء والطلبة من مختلف أنحاء البلاد فينالون من التعظيم والإكرام الكثير. فقد حاول محمد الحاج الدلائي، لما آل إليه أمر الزاوية، أن يستأثر بحكم المغرب بعد أن انحلت الدولة السعدية وقام أمراء الزوايا في عدة مناطق من المغرب باقتطاع السلطة في مناطقهم.[10]

وقد امتد نفوذ إمارة الدلائيين على شمال المغرب وثغوره، من وادي أم الربيع إلى تطوان، وكان عبد الله ينوب عن والده محمد الحاج في قيادة مدن سلا (سلا والرباط والقصبة) والتواصل بأسطول الجهاد البحري (لقرصنة) وممثلي الدول الأوربية التي تتردد أساطيلها التجارية والحربية على مرسى العدوتين (سلا والرباط) كفرنسا وانجلترا وهولندا. وقد استمرت الإمارة والزاوية الدلائية إلى أن كانت نهايتها على يد السلطان الرشيد بن الشريف العلوي الذي هزم الدلائيين في معركة بطن الرمان واقتحم عليهم زاويتهم الحديثة وعاصمتهم فخربها ثم خرب الزاوية القديمة ونفى ساكنتهما إلى فاس وتلمسان سنة 1079ه/1669م.[11]

الإرث العلمي والفكري للزاوية الدلائية

تعتبر الزاوية الدلائية من أهم المراكز العلمية التي قامت بدور كبير في احتضان العلوم الإسلامية والحفاظ على اللغة العربية وقواعدها وآدابها. فقد حرص أبو بكر الدلائي على تربية أبنائه وتعليمهم في الدلاء، فنشأوا علماء وصلحاء انقطعوا بعد تكوينهم للتدريس في زاويتهم. وقد تكاثر عدد الدلائيين بعد مؤسس الزاوية والتي أصبحت مدينة كبيرة واستمرت طوال ثلاثة أجيال. وبعد تخريبها انتقلوا إلى فاس ومراكش وتلمسان فازداد إشعاع الدلائيين الفكري، وشغلوا وظائف دينية سامية من قضاء وإمامة وخطابة وتدريس، وبقي العلم والأدب والصلاح متوارثا فيهم حتى أواخر القرن الثالث عشر الهجري (19م). وألفوا عشرات الكتب في مخلف الفنون، وألف الناس كتبا في فضائلهم ومناقبهم وتراجم أعيانهم وأسانيدهم العلمية والصوفية. وقد اعتبرت الأسرة الدلائية من أكبر الأسر العلمية بالمغرب في القرون الأربعة الأخيرة وأكثرها إنتاجا فكريا. وقد اشتهر منهم نحو أربعين عالما وأديبا، لكن لم يبق منها اليوم إلا أسر قليلة في فاس والرباط لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة[12]. ومن أشهر علماء الدلائيين الذين قاموا بالتدريس في زاويتهم: عبد الرحمن بن أبي بكر الدلائي (ت1020/1611)، ومحمد بن أبي بكر الدلائي (ت1046/1636)، ومحمد المرابط بن محمد الدلائي، والشاذلي بن محمد الدلائين وغيرهم كثير.[13]

المراجع
[1] حجي محمد، الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، ط2، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1988، ص 9
[2] حجي محمد، الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، مرجع سابق، ص 21.
[3] حجي محمد، الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، مرجع سابق، ص 27.
[4] حجي محمد، الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، مرجع سابق، ص 28.
[5] حجي محمد، الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، مرجع سابق، ص 31-32.
[6] حجي محمد ، معلمة المغرب، ج12، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2000، ص 4066.
[7] حجي محمد، الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، مرجع سابق، ص 32.
[8] حجي محمد، الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، مرجع سابق، ص 36-39.
[9] حجي محمد، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، ج2، منشورات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، مطبعة فضالة، 1978،ص 500.
[10] حجي محمد، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 4067.
[11] حجي محمد، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 4067.
[12] حجي محمد، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 4067.
[13] حجي محمد، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، مرجع سابق، ص 501-502.