بين يدي التقديم

على مدار التاريخ وتوالي العصور، ظل النبوغ المغربي يتجدد برجال سجلوا حضورهم اللافت في حقول معرفية مختلفة، فأبدعوا في تجديد تلاوين هذا النبوغ، وأغنوا معالم صرحه الذي لم تغرب شمسه يوماحتى في أحلك الفترات التي توالت فيها النوائب وتكررت فيها النكبات.

وقد حظي تفسير القرآن الكريم بحظ وافر في صرح هذا النبوغ، فكان المغرب كلما تمدد جغرافيا وتوسع سياسيا نحو الشمال أو الشرق أوالجنوب، إلا وتعددت أسماء المفسرين، وتنوعت أعمالهم، وتباينت مناهجهم في التعاطي مع القرآن الكريم (جزئيا أو كليا). وها هي المكتبات المغربية والعربية والإسلامية، تزخر بعناوين تدلّ على هذا الثراء الشاهد على نبوغ المغاربة في هذا العلم، حيث المصنفات النافعة التي تزخر بالإبداع الذي يخبر بعلوّ كعبهم، ورفعة شأنهم.

وقد صنفت كتب ودراسات تؤرخ لنشأة هذا العلم، وتوثق لمراحل تطوره، وتبيّن جهود أعلام مدرسة التفسير في المغرب باتجاهها اللغوي والإشاري الصوفي والأثري السلفي… ولا بأس أن نورد أسماء بعض المغاربة من رجالات تفسير القرآن الكريم (كله أو بعضه) فنذكر على سبيل المثال لا الحصر: أبا بكر بن محمد بن علي المعافري المعروف بابن الجوزي السبتي (ت 483ه)، وعبد الجليل القصري (ت 608هـ)، وأبا موسى عمران بن موسى بن ميمون الهواري السلاوي (ت 640هـ)، وابن أبي الربيع السبتي (ت 688ه)، وأحمد بن محمد بن عثمان بن البناء المراكشي السبتي (ت 723هـ)، وعبد الجبار الفجيجي (ت 918هـ)، وعبد الرحمن الفاسي (ت 1036ه)، وابن عجيبة (ت 1224ه)، ومحمد بن الحسن الحجوي (ت 1376ه)، وعبد الله كنون (ت 1410ه)، والمكي الناصري (ت 1414ه). وستطول اللائحة لو احتسبنا أعلام الأندلس، واحتسبنا – إلى جانب التفسير – ما صنف في علوم القرآن وأحكامه.

وضمن هذه السلسلة المباركة الممتدة في الزمان، نجد أن القرن العشرين شهد تجددا علميا ونهضة فكرية ساهم فيها أعلام جمعوا حظا وافرا من العلم والفكر والوطنية، مكّنهم من الإسهام في انبعاث نهضة أعادت للمغرب حضوره، وألقه، ونبوغه. ومن أبرز هؤلاء الأعلام الشيخ العلامة محمد المكي الناصري، الذي سجل اسمه باقتدار ضمن كوكبة من الأعلام الموسوعيين الذين طرقوا مجالات معرفية شتى ليس تفسير القرآن الكريم إلا واحدا منها.

تعريف لا بد منه

تكوينه العلمي:

الشيخ الأستاذ، الفقيه العلامة، الوزير السفير، الكاتب المفسر، الأديب الصحفي، محمد المكي بن محمد اليمني بن سعيد الناصري، ولد بالرباط يوم 24 شوال 1324ﻫ – 11 دجنبر 1906م، نشأ وترعرع في بيت فضل ودين،أنهى مبكرا دراسته الابتدائية، ثم تنقّل بين عدد من المعاهد الدينية لينهي تعليمه الثانوي وهو في سن العشرين ويشد بعدها الرحال إلى مصر، قبلة طلبة العلم والمستزيدين منه. فالتحق بالأزهر بعد رفض تسجيله بمدرسة دار العلوم أو مدرسة القضاء الشرعي لأنه أجنبي، فلم ترقه الدراسة بالأزهر، واختار الالتحاق بالجامعة قسم الفلسفة وعلم الاجتماع، وهناك تردد على عمالقة الفكر والأدب أمثال: طه حسين وأحمد أمين وزكي مبارك ومصطفى عبد الرازق وآخرين، ثم التحق بسويسرا لدراسة الحقوق، وبها اتصل بالأمير شكيب أرسلان، ثم عاد إلى بلده بعد رحلة دراسية ممزوجة بنشاط وطني لافت في عدد من الدول الأوربية، ليواصل مسيرة حافلة بالأحداث رفقة عدد من زعماء الحركة الوطنية.

اشتغل المكي الناصري على واجهات عدة، وخاصة التدريس والصحافة، وعند حصول المغرب على الاستقلال عُيّن سفيرا بليبيا، ثم عاملا على إقليم أكادير، ثم وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية، ثم رئيسا للمجلس العلمي بالرباط وسلا، وبعد وفاة الشيخ عبد الله كنون ترأس رابطة علماء المغرب.

كفاحه الوطني:

سطّر محمد المكي الناصري سجلا حافلا بالمواقف السياسية والوطنية، ميّزها على الخصوص: حضوره الوازن في عالم الصحافة، وتأسيسه حزب “الوحدة المغربية” بعد توقف كتلة العمل الوطني عام 1937م. وقد تعرض الناصري سنة 1952 للمنع من الدخول إلى طنجة، وأقفلت في وجهه جميع المناطق المغربية، فعاش أربع سنوات في المنفى إلى حين استقلال المغرب وعودة الملك محمد الخامس رحمه الله.

آثاره العلمية:

عرف الشيخ الناصري بغزارة إنتاجه، فقد باشر التأليف والنشر في سنّ مبكرة، واستمر في العطاء إلى ما بعد الاستقلال[1].

وتوفي رحمه الله بعد عمر حافل بالعطاء يوم 10 ماي عام 1994م.

تقديم الكتاب

“التيسير في أحاديث التفسير”، عمل ضخم جُمع في ستة مجلدات، طبع أولا في دار الغرب الإسلامي – بيروت، سنة 1405ﻫ، وهو عمل توّج به الأستاذ محمد المكي الناصري مسيرة اهتمامه بتفسير كتاب الله تعالى التي دامت أكثر من أربعة عقود، يقول رحمه الله: “قمت بإلقاء دروس ومحاضرات في تفسير بعض السور وبعض الآيات بمساجد الرباط ومساجد تطوان” (…) وداومت الإقبال على تفسير القرآن الكريم كل يوم بين العشاءين خلال سنتين متواليتين بالمسجد المحمدي والمسجد العتيق بالدار البيضاء[2]. لينتقل هذا العمل النافع إلى حلقات راتبة تذاع على أمواج الإذاعة الوطنية بالرباط، بعد دعوة يقول عنها: “وذات يوم من أسعد أيام الستينات تلقيت دعوة ملحة من الإذاعة الوطنية بالمغرب للقيام بإلقاء أحاديث يومية في تفسير القرآن لفائدة المواطنين والمواطنات… فوجدَتْ هذه الدعوة النبيلة هوى في النفس، وحنينا في القلب، واستجابة روحية كاملة، لكني أحسست في نفس الوقت بثقل المسؤولية وصعوبة التكليف”[3] وقد كان الشيخ الناصري على بيّنة من مشروعه، وعلى دراية بمهمّته، يقول رحمه الله: “فقد تبيَّن لي بما لا يدع مجالًا للشك أن المهمة الجُلَّى والكبرى التي يجب أن تؤديَها أحاديث التفسير لجمهور المسلمين الكبير بصفتها أحاديثَ يومية عامة – هي وضع أيديهم كلَّ مطلع فجر على الكنوز التي أودعها الله في القرآن، وتذكيرهم بالرسالة الأصلية للقرآن، التي هي رسالة الحياة في كل يوم، رسالة التوجيه الإلهي والتربية الربانية”[4].

إن رسالة القرآن عند الأستاذ الناصري رسالة الحياة، رسالة توجيه رباني تغطي يوم المسلم وليله، وحتى يعطي هذا التوجيهُ أكلَه، حدد له الشيخ منهجا يقوم أساسا على الاختصار، وتقريب المعاني للناس، ولإنجاح المهمّة على الوجه الأكمل، اعتمد على مصادر معتبرة في التفسير، متحريا الصواب، منْتقِيا ما ينفع مخاطبيه، ناقدا ما خالف المشهور، مطيلا الوقوف عند غريب القرآن، ووجوه إعجازه البياني، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، حتى إنك لتعجب من قدرته على سبك عبارات أحاديثه بذلك الإيجاز الملفت، والأسلوب السهل، الممتع الممتنع، دونما توغل أو تعمّق يصرف عن الغاية من وضع هذه الأحاديث.

لقد أذيعت الأحاديث (أصل هذا الكتاب) في حلقات راتبة، كل حلقة تغطي ربع حزب، يحضّرها الشيخ الناصري مكتوبة، ويقرأها على صيغة محدّدة ما زالت راسخة في أذهان وأسماع جمهور واسع من المغاربة، حيث يبدأ الشيخ رحمه الله بتمهيد سلس يكون قبل الوقوف على مضامين الربع موضوع الحلقة، مذكرا بسياق الربع السابق من أجل أن ينتظم الكلام اللاحق بالسابق، شارحا بعض المفردات التي تحتاج إلى تبيين، يقول رحمه الله موضحا طريقة عرض أحاديثه: “ارتأيت أن أقدم بين يدي الآيات التي أنا مقبل على تفسيرها، والتي يكون المستمع مقبلا على سماعها وتدبرها، مدخلا تمهيديا لتلك الآيات، ونظرة عامة عليها، حتى يستعد في يسر وأناة وتدرج لفهمها واستيعابها، ويتبين له المحور الذي تدور عليه من أولها إلى آخرها. وفي هذا المدخل التمهيدي أدرج مسبقا –بطريقة أو بأخرى- ما يصلح أن يكون شرحا لبعض المفردات المستعملة في تلك الآيات، إعانة له على فهمها، مما لا يجده اليوم مستعملا بكثرة، أو لا يجده مستعملا بالمرة، حتى ما إذا ما واجه آيات الحصة واجهها بمنتهى الوعي وكامل الإدراك، وحصل منها على الفائدة المرجوة”[5].

على سبيل الختم

لقد استفاد الشيخ محمد المكي الناصري من تكوينه المزدوج (الشرعي والعصري) في صياغة أحاديث تفسيره، وإخراجها بين دفتي مجلدات ستة، لتحتل باقتدار مكانة معتبرة ضمن قائمة الكتب المعتمدة في مجال تفسير القرآن الكريم المعاصرة، ويسهل على المتتبع الوقوف على آثار هذا التكوين وذلك في اعتماد الشيخ رحمه الله كتبا بالعربية والفرنسية في علوم ومعارف مختلفة… فضلا عن استفادته من كتب المفسرين المتقدمين كابن كثير والزمخشري والطبري والمعافري، وكتب الفقه، والأصول، وعلوم أخرى.

وبذلك يكون “التيسير في أحاديث التفسير”ذخيرة إذاعية وتلفزية كتب الله لها الخلود، لتكون إضافة نوعية إلى مكتبة التفسير المغربية المعاصرة، أبان فيها صاحبها عن رؤية واضحة، ومنهج رصين، وصاغها بأسلوب سهل ممتِع، إنه “أسلوب مبسّط وسط يفهمه الأميّ، ويرتاح إليه المتعلّم، بحيث لا ينزل حتى يبتذل عند الخاصة، ولا يعلو حتى يصعب على العامة”[6] فضلا عن فوائده الجمّة، ومعارفه الغزيرة، وحضور الطابع الدعوي والتربوي والإصلاحي الذي كرّس الشيخ حياته للبذل فيه مدرّسا وكاتبا وخطيبا وصحفيا وإصلاحيا وداعية.رحم الله الشيخ محمد المكي الناصري وأجزل له الثواب.

المراجع
[1] أنظر: محمد القباج، الأدب العربي في المغرب الأقصى، ج 2، صدرت طبعته الأولى في (1347ﻫ/1929م)– أنور الجندي:  الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا،الدار القومية، القاهرة، 1965م - إدريس كرم: علاقة السياسي بالثقافي، عند الشيخ محمد المكي الناصري ضمن دورية الإحياء، رقم 13 - سيرة الشيخ محمد المكي الناصري، عمل جماعي، دار المعارف، الرباط، 1991.
[2]  الناصري محمد المكي: التيسير في أحاديث التفسير، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 1405ﻫ، ج 1، ص5 و6.
[3]  الناصري محمد المكي: التيسير في أحاديث التفسير، مرجع سابق: ج 1، ص 6.
[4] الناصري محمد المكي: التيسير في أحاديث التفسير، مرجع سابق:  ج 1ص 6.
[5] الناصري محمد المكي: التيسير في أحاديث التفسير، مرجع سابق: ج 1، ص 8.
[6] الناصري محمد المكي: التيسير في أحاديث التفسير، مرجع سابق: ج 1 ص 9.