مقدمة

لو كان للعلامة محمد رياض هذا الكتاب وحده لكان كافيا في أن تستقبله الأمة الإسلامية بالترحيب والدراسة والاهتمام، والكتاب جاء بعد “دليل الثقافة الإسلامية” 1991، و”المدخل إلى دراسة الشريعة الإسلامية” 1991/9319، وغيرها من الكتب. وقد أولى العلامة محمد رياض الفتوى أهمية كبرى، ومنزلة عظمى كما جاءت في الشريعة الإسلامية؛ إذ  المفتي مبلغ عن الله عز وجل، وموقع عنه؛ لذلك  أولاها العلماء عناية خاصة حيث أفردوها قديما وحديثا بالتأليف، ويعتبر هذا المؤلف المعاصر من بين أهم المؤلفات في الباب.

والكتاب دراسة شاملة لتاريخ الفتوى في عهود الإسلام الأولى، مبينة لأهمية الفتوى وأركانها، وضوابطها في المذهب المالكي، وموضحة دور هذا المذهب في الفتوى، وكيفية انتشاره، وتطوره، ومصادره، وأدلته العامة والخاصة، ومناهج علمائه في الفتوى.

وقد جعل المؤلف الفتوى والقضاء شيئين متلازمين، بالرغم من أن بينهما بعض الفروق.

قال في مقدمته: “فالفتوى والقضاء أمران متلازمان، وهما في دائرة الأحكام صنوان، وإذا كانت هناك فروق بين القضاء فإنها لا تغض عن مقام الالتقاء بينهما، فهما يسيران جنبا إلى جنب؛ إذ هما مبنيان على المشاورة  والمذاكرة، وتقليب أوجه النظر والتأني، وكلها سمات تلتقي فيها الفتوى والقضاء، ولذلك فإن كان بحثنا لأحكام  الفتوى قد سار على نسق  واحد، فإنه لا مانع من الأخذ بتلك الأحكام والأصول في دائرة القضاء، وخاصة في آداب الفتوى والأدلة المفتى بها سواء كان القاضي مجتهدا داخل المذهب، أو مراعيا ما هو مقيدبهمن  الحكم  بالراجح، أو  المشهور، أو ما جر به العمل. وسيجد الناظر في هذا الكتاب بيان كل ذلك وتأصيله. كما يلتقي المفتي والقاضي في الرجوع إلى الكتب المفتى بها من أجل الاسترشاد ومعرفة الحكم واجب التطبيق في النازلة”.

والكتاب أصله أطروحة علمية  نال بها المؤلف دكتوراه الدولة في العلوم الإسلامية ب”دار الحديث الحسنية” بالرباط سنة 1994م. وقد طبع بمطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء،  الطبعة الأولى: سنة 1996م،  والطبيعة الرابعة :1431هـ- 2010م. عدد صفحاته: 629 صفحة.

لماذا موضوع الفتوى في المذهب المالكي؟

وقد اختار الموضوع نظرا لأهمية الفتوى وفوائدها المتعددة، كما أراد الإسهام في هذا الباب بالتنبيه إلى ضوابطها، وأحكامها، حتى لا يقع في حماها من ليس أهلا لها. ولم يرد تناول الموضوع في حقبة معينة من الزمن لأن من يدرس ذلك، لابد أن يتطرق إلى أحكام الفتوى، وضوابطها بصورة أخرى. ففضل البحث في موضوع الفتوى في حد ذاته اعتمد فيه المنهج التالي: كما بحثها الأصوليون، والفقهاء عامة مبينا مكانة الفتوى في الدين، ودروها في حياة المسلمين.

ومن أجل هذه الغاية المحمودة تقدم باقتراحات واستنتاجات لم تمنعه منها هيبة المذهب المالكي في هذا المجال.

وقد قيد لدراسته في دائرة المذهب المالكي لأسباب منها:

  • أن المذهب المالكي مذهب قائم على أصول الشريعة الغراء، ومنبثق منها.
  • أن لعلماء هذا المذهب من التأصيل والضوابط لموضوع الفتوى، وعلى رأس هؤلاء العلماء إمام المذهب، الجهبذ المبجل مالك بن أنس، وهذا ما شجعه للمضي في البحث فيه.
  • أن هذا المذهب هو المعمول به في المغرب منذ قرون طويلة، فقد نما وترعرع بقيام دولة الأدارسة، واستمر إلى الآن.
  • دراسة الفتوى بناء على أصول وفروع هذا المذهب مما يبعث على فتح باب الاجتهاد المذهبي فيه، ويساعد على الحلول الناجعة للمشاكل الطارئة، ولكن بقلب مفتوح، وعقل مرجح، وذهن متفهم، وكل ذلك يتطلب العلم الواسع، والإطلاع الشامل، ومراجعة المظان باستمرار.

والعلامة لم يمنعه انتماؤه للمذهب واختياره، الاستفادة من المذاهب الأخرى، وخاصة ما يتعلق بالأحكام العامة، لأن ما لاح على نور الحق يكون مقبولا لدى العقول السليمة، والفطر المستقيمة.

محتويات الكتاب

وقد جعل لهذا المؤلف خطة حيث قسمه إلى ثلاثة أبواب:

– الباب الأول: الأحكام العامة للفتوى، وقسمه إلى فصلين

تناول في الفصل الأول كيف  انطلقت الفتوى في عهود الإسلام الأولى في ظل نزول الوحي، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي زمان الصحابة رضوان الله عليهم، معرجا عن عصر التابعين وذلك من أجل ربط الصلة، بينهم وبين إمام المذهب مالك بن أنس رحمه الله وباعتبار أن هذا البحث في دائرة مذهبه.

وأما الفصل الثاني، فبحث في دور المذهب المالكي في الفتوى. مشيرا إلى معنى كلمة مذهب بصفة عامة، ونشأة المذاهب الإسلامية، وأساس الخلاف بينها، وأهمية هذه المذاهب، لأنها تكون نقطة الانطلاق في فهم الشريعة، والاجتهاد فيها، ومكانة المذهب المالكي من بين هذه المذاهب.

ووقف وقفة خاصة عند منهجية الإمام مالك في الفتوى، لما اتصفت به هذه المنهجية من ضوابط الفتوى، كما تناول دور العلماء المغاربة في الفتوى كصلة وصل بين تراث السلف، وموصول الخلف، واقتصر على علماء المغرب دون غيرهم من الأقطار الأخرى نظرا لما يفرضه المقام، ولأن تتبع ذلك لا يمكن حصره.

– الباب الثاني: تناول فيه أركان الفتوى

وقسمه إلى ثلاثة فصول:

تحدث في الفصل الأول: تعريف الفتوى.

وفي الفصل الثاني : تناول في المستفتي وما يتطلب فيه.

وأما الفصل الثالث: فقد رصده للكلام عن المستفتي.

– الباب الثالث: الأدلة المستفتى بها

وقسمه إلى فصلين:

تناول في الفصل الأول: الأدلة العامة للمذهب ويقصد بها أدلة المذهب إذ لاشك أنه يتفق مع غيره من المذاهب في بعضها، ويختلف في البعض الآخر.

وأما الفصل الثاني فقد خصصه للأدلة الخاصة داخل المذهب.

ثم خاتمة تضمنت نتائج وتوصيات.

خاتمة

وهكذا يكون منهاج دراسته لهذا الموضوع بصفة عامة بعد المقدمة:الباب الأول: أحكام عامة، الباب الثاني : أركان الفتوى، الباب الثالث: الأدلة المفتى بها، ثم خاتمة (الصفحات من 6 إلى 14).

وقال في حقه الشيخ محمد المنوني “وأول ما يلاحظ في مسار الأطروحة، أن المؤلف يسير في تركيز قضاياها على طريقة المؤلفين المحققين، فيوثق كل مسألة يطرحها بالنص الشاهد، كما يقدم مقترحاته الإصلاحية للفتوى والمفتين، في شجاعة فكرية، وجهر بالحقيقة الناصعة …. ومن هذه القراءة السريعة للكتاب يتبين أن الموضوع فرد في بابه، وأنه برز في الوقت المناسب، إضافة لما يشف عنه من مقدرة علمية ، وشجاعة فكرية للمؤلف …” (ص 05).

لقد دعا العلامة محمد رياض إلى فتح باب الاجتهاد المذهبي من أجل القيام بأمر الفتوى على أحسن وجه، وخاصة في القضايا المستجدة، والنوازل الطارئة . وأكد أن الاجتهاد لا يمكن أن يتوفر إلا بعد الحصول على مؤهلاته، والتسلح بعدته… كما يمكن الاجتهاد على ضوء كل ذلك، اجتهادا جماعيا ، من أجل مسايرة فقهنا الإسلامي على مذهب مالك لشؤون الحياة وأحداثها. وطالب بتكوين لجنة منتخبة من جهات الفتوى بالمغرب للقيام بتوحيد الفتوى في مسائل العبادات والمعاملات، وبنظر ثاقب سبق الرجل زمانه، حيث أصبح في أيامنا من يتصدى للفتوى وهو ليس أهلا لها ولم يوت سعة من العلم، بقدر ما أوتي جرأة على الكلام وتطاولا على العلم والعلماء،

ولإنعاش الفتوى وإمدادها وانطلاقها، يرى رحمه الله أنه لا بد من العمل بربطها واتصالها وتلاحمها بالأحكام الشرعية على مذهب مالك بن انس، بناء على الموازن والضوابط التي سنها العلماء والأئمة (ص 602-603).