مقدمة

نسعى من خلال هذه المحاولة الأولية إلى رصد توجهات الكتابة السوسيولوجية العالمة، وتحديد معالمها من خلال الوقوف على بعض نماذج التأليف والكتب والدراسات التي اشتغل عليها باحثون مغاربة في علم الاجتماع وتخصصاته المعرفية الموازية والقريبة منه. من خلال الوقوف على بعض نماذج الكتابة السوسيولوجية في السنتين الأخيرتين (2020-2022).

إن محرك هذه المحاولة هو الدينامية المقدرة التي بات يشهدها مجال التأليف والكتابة والنشر في حقل الدراسات السوسيولوجية المغربية، الأمر الذي يمكن معه الحديث عن بداية تأصيل وتأسيس لتقليد علمي، يتمثل في الانتقال من إعادة التدوير والتكرار لأدبيات معرفية وأطر مرجعية، تنتمي إلى المقولات السوسيولوجية الكلاسيكية، إلى محاولات جادة في التأسيس لسوسيولوجية مغربية تنهل من عصارة الفكر السوسيولوجي العالمي وتنهم وتهتم بدراسة البنيات الاجتماعية للمجتمع المغربين سواء دراسات سوسيولوجية (دراسات حضرية، سوسيولوجية قروية، دراسات حول الهجرة، حول التغير حول الاحتجاج …) أو دراسات أنثروبولوجية وإثنوغرافية، (الطقوس، البنيات الذهنية والثقافية، الثقافات التحتية، التدين الشعبي …) أو دراسات نظرية ومفاهيمية مؤسسة.

في الكتابات النظرية والتأسيسية

لا يختلف الباحثون حول أهمية الأعمال التأسيسية، أو النظرية في مجال علم الاجتماع، والتي تهم بالأساس الاشتغال على مداخل نظرية، أو التأكيد على أطر مرجعية وخلفيات معرفية لا يمكن القفز عنها ونحن بصدد دراسة أحدى مواضيع علم الاجتماع، إذ تظل النظرية معطى غير قابل للتجاوز في فهم واستيعاب الظواهر المدروسة، إذ يمكن التخفف منها لكن يصعب القطع معها.

فهناك العديد من الكتابات السوسيولوجية المغربية، التي آثرت الاشتغال على التأصيل النظري وتحرير مقاله قبل الغوص في دراسات الظواهر المعطاة في المشهد الاجتماعي، كما أن الاشتغال النظري قد يهم كذلك البناء المفاهيمي، وآليات توظيف المفاهيم والوعي بدورها في بناء المعرفة، والقدرة على تمثلها، ومن تم توظيفها في عمليات الدراسة.

كتابات  في التأصيل النظري:

عديدة هي الأعمال التي اهتمت بالسياقات النظرية، ومستجداتها وتقريبها من المتلقي المغربي. على رأسها الكتابات المهمة للباحث المغربي حسن احجيج الذي حاول في كتابه “مدخل إلى علم الاجتماع: نظرياته – مناهجه – قضاياه المعاصرة”  تقريب المادة النظرية والمعرفية لعلم الاجتماع لأوسع شريحة من المتلقين بهذا الصدد يقول إنّ هدف هذا الكتاب هو تقريب علم الاجتماع من الطالب والباحث العربي، وتبديد مخاوفه الناتجة عمّا يصادفه من صعوباتٍ في دراسته وممارسته لهذا التخصص المعرفي. يطمح هذا الكتاب إلى أن ييسر للطلاب فهم علم الاجتماع، موضوعاً ومنهجاً، وأن يعرّفه بالأدبيات السوسيولوجية، الكلاسيكية والمعاصرة. كما يسعى إلى أن يكون مرجعاً في متناول يد الأساتذة من أجل تنشيط دروسهم، وتشجيع طلابهم على التفكير النقدي، ومساعدتهم على تطوير خيالهم السوسيولوجي. كما أنه يحاول أن يمنح لهؤلاء الطلاب والباحثين المبتدئين في علم الاجتماع الفرصة لاستعمال الخيال السوسيولوجي من أجل فهم الأبعاد الجديدة لعالمهم الاجتماعي، مع التركيز على القضايا المعاصرة والمقاربات السوسيولوجية الكفيلة بمعالجتها في ضوء القواعد العلمية للبحث الاجتماعي. إنّها أهداف كبيرة، لكن يمكن بلوغها بالتأكيد. ويمكن لهذا الكتاب أن يساعد على تحقيقها. إنّ القولة المأثورة لعالم الاجتماع بيتر بيرغر: «إن الحكمة الأولى لعلم الاجتماع هي أنّ الأشياء ليست كما تبدو لنا»، تنتصب بمنزلة تَحَدٍّ لطرق تعليمنا وتشكّل إلهاماً للمؤلف لتحرير هذا الكتاب. ولمواجهة هذا التحدي، حاول أن يقدم علم الاجتماع بطريقة تضع مساءلة «أفكار الحس المشترك» و«التفسيرات الرسمية» للقضايا والأحداث في قلب المشروع السوسيولوجي.

في السياق ذاته عمل السوسيولوجي المغربي، والباحث المتخصص في الديناميات الحضرية والاجتماعية، محمد ياقين على العودة إلى جدلية مؤسسة للنقاش العمومي المجتمعي، هذه الجدلية الموسومة بالفرد والمجتمع والتي عمرت لعقود واستأثرت بالنقاشات المعرفية العالمة في الجماعة العلمية.

عمل محمد ياقين في كتابه المؤلف من جزئين والمعنون ب: “الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا الكلاسيكية، والفرد والمجتمع في السوسيولوجيا المعاصرة”، عمل على العودة إلى نصوص تأسيسية-سواء في صيغتها الكلاسيكية، أو المعاصرة -والتي انخرطت في مقاربة ومحاولة تفكيك العلاقة الملتبسة بين الفرد والمجتمع، كما يسعى الباحث من خلال الاشتغال على ترجمة وإعداد هذه النصوص إلى تيسير فهم واستيعاب مفاهيم ونظريات وقضايا سوسيولوجية، بغاية الإحاطة بأبعادها التاريخية وخلفياتها الإبستيمولوجية، وذلك من خلال نصوص مختارة ومداخل نظرية تمهيدية وقواميس. وأكد الباحث في تصدير الجزء الأول بأن أهمية الاشتغال على مفهوم المجتمع  تكمن في رصد مسار تطور التفكير السوسيولوجي منذ بروز بواكيره الأولى حتى اليوم بحيث هيمن التفكير في طبيعة علاقة الفرد بالمجتمع على الانشغالات وسجالات العديد من الفلاسفة. كما يضيف محمد يقين على أن الغاية الأسمى من الاشتغال على مفهوم المجتمع تكمن في الإلمام بمختلف دلالاته ارتباطا باستعمالات شبكة المفاهيم المجاورة التي تنفتح عليها علاقته بالفرد.

كتابات في التأصيل المنهجي:

من المتفق عليه أن علم الاجتماع تخلق في رحم الأزمة، وهو علم الأزمة، بل إن التوصيفات الإبستيمولوجية تعتبر على أن مسألة العلمية ترتبط بشكل حميمي مع القدرة على الكشف عن الأزمة الذاتية للتخصص المعرفي بغرض معالجته والخوض فيه بأفق تدقيق معارفه وخلاصاته ونتائجه، كذلك علم الاجتماع عموما وعلم الاجتماع بالمغرب حديدا يحتاج مساءلة دائمة للعدة النظرية والمنهجية كذلك تقربا من الدقة والموضوعية النسبية، لذلك استأثرت مسألة المنهج باهتمام العديد من الباحثين، الذين ركزوا اشتغالهم على منهج الفهم بأفق أعمال أخرى تستهدف منهج التفسير كقطبين منهجيين يتقاسمان البحث في مجال السوسيولوجيا.

من هنا يعد كتاب “الفهم في العلوم الاجتماعية“، وهو -كتاب جماعي من تأليف مجموعة من الباحثين، وتحرير الباحث الدكتور حسن احجيج– من الأعمال التي تسعى إلى إعادة النظر في المقولات المنهجية المؤطرة للعلم الاجتماعي، فعوض الاعتماد على سرديات تبسيطية تعتبر الاستطلاعات والمعطيات الإحصائية، والرياضية، كفيلة بتفسير الواقع الاجتماعي، كما وأن الأخير معطى خارجي مبثوث ببساطة في الوقائع الاجتماعية المباشرة. يمكن تصنيف الكتاب إذا كجهد منهجي وإبستيمي، يقطع مع منطق التبسيط في فهم العالم الاجتماعي، بل يضع مشكلة علم الاجتماع في صلب الاهتمام الإبستيمي وما يستتبعه من نظر في تاريخ العلم ومقولاته وقطائعه.

كتابات في الديناميات الاجتماعية والحضرية

من التوجهات التي باتت حاضرة بقوة في المكتبة السوسيولوجية المغربية، أعمال حول الديناميات الاجتماعية، والحضرية وما يعتمل في الواقع المجتمعي مغربيا، وعلى رأس هذه الأعمال كتابات أستاذ علم الاجتماع الحضري عبد الرحمان رشيق، حول الحركات الاجتماعية والاحتجاجية في كتابه المعنون ب “المجتمع ضد الدولة- الحركات الإجتماعية واستراتيجية الشارع بالمغرب“. ويهدف الكتاب إلى تفكيك وتحليل تطور مختلف أشكال الحركات الاحتجاجية/الاجتماعية التي عرفها المغرب بأفق فهم سماته، واستيعاب تمفصلاته، ورصد معالم خطابه، وتحديد أهم فاعليه.

فالكتاب بمثابة تأريخ كرونولوجي وتحقيب زمني للفعل الاحتجاجي مغربيا، منذ مرحلة ما بعد الاستعمار مع الحركة الوطنية، مرورا بالحركات اليسارية الجذرية والمعارضة السياسية، انتهاء بالحركات الاحتجاجية الجديدة، والحركات الفئوية المطلبية والمناطقية، فمثلا يستند الاحتجاج الاجتماعي في المناطق الريفية وفي المدن الصغرى حسب عبد الرحمان رشيق على تضامن مسبق يحدده المنطق القبلي والعرفي والترابي واللغوي، فقد عبر المتظاهرون في إقليم الحسيمة عن مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية، ككتلة وكعشيرة، وليست كذات اجتماعية فقيرة ومحرومة ومهمشة، أو القيمية والهوياتية، أو بعض معالم الاحتجاج الافتراضي على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي “فانخفاض عدد الاحتجاجات في الفضاء العام يعوضه اليوم اللجوء إلى مساحات بديلة والاحتماء وراء الشبكات العنكبوتية”.

إن هذا الكتاب يمكن اعتباره بمثابة وثيقة و تقرير رصدي بمقاربة تحليلية تستعمل الأطر النظرية لمساءلة الظواهر الاحتجاجية من قبيل نظريات السلوك الجماعي، نظرية تعبئة الموارد، نظرية الفرص السياسية وغيرها من البراديغمات التحليلية والمناهج الدراسية الخاصة بتفهم الحركات الاحتجاجية، هذه الأخيرة متميزة بطابع التغير والدينامية، والتحولات الكبرى على مستوى بنيتها وبالقطائع بعض الأحيان على مستوى خطاباتها وسياقاتها، ما يقتضي نوعا من الحذر الإبستيمي في توصيفها وقراءتها وهو ما يشير إليه صاحب الكتاب في مطلع متنه، بحيث أن تسارع وثيرة الاحتجاج بالمغرب وتحول بنيته وفاعليه جعله يتريث في إصداره طلبا للمسافة اللازمة التي تقتضيها دراسة الظواهر الاجتماعية عامة والاحتجاجية على وجه التحديد.

في نفس السياق أصدر الباحث في علم الاجتماع مولود أمغار كتابه/أطروحته المعنونة ب “خطابات المقاومة في الفضاء العام، دراسة ميدانية للخطابات التي أنتجها نشطاء حركة 20 فبراير مابين 2011-2014” والتي اشتغل فيها الباحث على الخطابات الممانعة التي أنتجت على هامش حركة العشرين من فبراير، مبرزا سياقات تشكل الخطاب الاحتجاجي في أبعاده الوطنية والإقليمية وارتباطا بسياق الربيع الديموقراطي، شكل الكتاب كذلك فرصة لمساءلة المضمون الاحتجاجي لخطاب الفاعلين في الحراك العشريني، خاصة عند الفاعلين الشباب، كما شكل ذات العمل فرصة لمساءلة تمثلات الخطاب الاحتجاجي وبنيته الترافعية بالمغرب من خلال الاشتغال الميداني على تمثلات الفاعلين سواء القيادات أو القواعد.

من زاوية اشتغال مغايرة على الديناميات الاحتجاجية والتعبيرات الشبابية الجديدة، صدر للباحث المغربي عبد الرحيم بورقية كتاب « Des ultras dans la ville; Etude sociologique sur un aspect de la violence urbaine»  وهو كتاب يتناول بالدراسة والتحليل تعبيرات شبابية جديدة وهي تعبيرات الألتراس، في ارتباط مباشر مع ظاهرة اجتماعية مهمة تتجلى أساسا في العنف الحضري.

يساءل الباحث في عمله تعبيرات الألتراس في تجارب دولية مختلفة مقارنا إياها بمظاهر الهوليغانز أو العنف بالملاعب، منطلقا من سؤال مركزي، إلى أي حد تعد ظواهر الألتراس مظاهر عنف مديني وحضري، ما هي امتدادات الظاهرة هل هي حكر على الملعب ومدرجاته أم  تتجاوزه إلى فضاءات جديدة تحتضن الفعل الاحتجاجي الممانع للألتراس؟. (يتبع ج2)