توطئة

تَــمَـيّزَتْ طلائع المثقّفين والوطنيين المغاربة في القرن العشرين بتعدّدية المجالات التي أبْدَعت فيها، والواجهات التي ناضلت من خلالها، والقضايا التي اسْتَحْوَذَت على أوقاتها، والـحقول العلمية التي نَهَلت منها ونَبَغت في الكتابة فيها، حتى لَيبدو الواحد من أولئك المثقفين مُؤسَّسة اختُزِلت في رجل، وجَمْعاً في مُـفرَد، وما الأستاذ محمد الـمكّي الناصري إلَّا واحدا من هؤلاء، ورَمْزاً بارزاً في قافِلة نبغاء مغرب القرن العشرين.

النّشأة وطلب العلم

كان مولد محمد المكّي بالرباط سنة 1906 وهي ما تزال وقتئذٍ مدينة لم تُحوَّل لعاصمة المغرب الراهن. التَحَق بالكتاتيب القرآنية، فتعلَّق بالقرآن منذ نعومة أظفاره، فحـفِظه عن ظَهر قَلْبٍ، وعزَّز رصيده الإدراكي للقرآن الكريم بِحفظ المتون والشروح الفقهية وتَلقِّي دروسٍ في الفقه والحديث على يدِ مشاهير علماء المغرب في ذلكم الزمان؛ الشيخ أبي شعيب الدكالي، العَلّامة المدني بن الحسني، الفقيه محمد الناصري، الشيخ محمد بن عبد السلام السائح[1]؛ ثمَّ انتقَل في مراحل تالية من عُمره إلى مصر، فكانَ لِـمَا تَلَقَّاه مِن علوم الشريعة والعربية في القاهرة على يدِ العالِم الأزهَري مصطفى عبد الرزاق والأستاذ عبد الوهاب عزام والشيخ عبد الحميد العيادي دَور كبير في إغناء ثقافته الدينية، وتمكينه من فهْم القرآن وشَرْحه وتفسيره.

كان الرحيل إلى مصر بِرُوح الشباب الوطني الوثَّابة، دور هامٌّ في صَقل شخصية المكي الناصري، الذي اسْتَثمر مقامه هناك في تحصيل العلم، وتوسيع شبكة العلاقات مع الشباب العرب والمغاربيين، وافْتِتاحِ بيت المغرب[2] في القاهرة، ثمَّ رئاسته لاحقا بقرار خَليفي صادِر في تطوان. الذي آوى طلبة الجامعات والمعاهد المغاربة الذي أَتوا للدراسة بعاصمة مصر[3]. وفي القاهرة؛ سيُحلِّيهِ الأديب المصري طه حُسين بلقب “شيخ الـمغاربة”، حينَ ألقى كلمة تَعقـيـبـية على مداخلة للأديب حُسين في إحدى ندواته بالقاهرة، فأُعْجِب عميد الأدب العربي بفصاحة وكلمة المكي الناصري وعلَّق عليه قائلاً: “أنتَ شيخ الـمغاربة”.

وتَطَلُّعا لمزيدٍ من العلم؛ هاجَر إلى باريس لدراسة الفلسفة وعلم الاجتماع بكلياتها، ثمّ انتقل إلى عاصمة سويسرا، لدراسة القانون الدّولي، وهناك التَقى بالأمير شكيب أرسلان ونشأت بينهما علاقة صداقة رَفَعَت الناصري لمرتبة كاتِبٍ خاص لدى الأمير طيلة مدة إقامته بـجنيف. وبذلكَ جَمع إليه علوم الشريعة بعلوم اللغة التي تلقّاها في المعاهد والزوايا العريقة بـمدينة الرِّباط بعِلْمَي الـفلسفة والاجتماع، والقانون؛ فحُقَّ أن يُسمّى الشيخ الـجامع، وعالم المغرب.

 النضال في سبيل الإستقلال

انخْرط الناصري مُبكِّراً في صفوف كتلة العمل الوطني، ومَثَّل جمعية الطلبة المسلمين في شمال إفريقيا سنة 1934، وتَرَأَّسَ مجموعة من البعثات الطلابية إلى المشرق العربي، وكان من بين الزعامات المغربية الـمشارِكة في مؤتمر القدس، وعمِلَ في لجنة تحرير المغرب العربي إلى جانِب خيرة الوطنيين المغاربيين وبقيادة أمير الجهاد محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمه الله. ونَاضَل الأستاذ المكي إلى جانب إخوانه في الحركة الوطنية، وإنْ اخْتُلِفَ في تقدير مواقفه السياسية وطبيعة علاقاته بالأحزاب الوطنية في شمال المغرب وقراره الاندماج في حِزب الشورى والاستقلال؛ إلَّا أنه لا يُكابِرُ أحدٌ في الدّور النّضالي الكبير[4] للشيخ الناصري، كتابةً وتأليفًا ومواقَفَ ودِفاعاً عن وحدة البلاد وحقّها في استِقلالها ورِقِيَّ ونهضة شعبها. خاض ذلكَ بالمهجر وحين عودته للمغرب وقَبْلَ ذلكَ بكثير فيما بين 1920 _ تاريخ تأسيس الرابطة المغربية وأمانتِهِ العامة لها _ و1925.

تَـميّز الرجل بـالمبادَرة واقتحام التجارب رغم قِلة الموارد وضُعف الخِبرة، هكذا سنجِده يُناطِح كِبار رموز العمل الصحفي في شمال المغرب إبّان مرحلة الـحماية، ويُطْلِق تَجارب صحافية تنوّعت بين جرائد ومجلات وعمل إذاعي، كــتأسيسه لــ”جريدة الوحدة المغربية” بدء من سنة 1937، و”جريدة الشعب”، و”منبر الشعب”، ومجلة “المغرب الجديد” الصادرة في تطوان بدء من سنة 1935 ذات المنحى الفكري والثقافي، وسيجْعَل جرائدَه ومجلاته أصواتا صادحة بالنكير على السياسات الاستعمارية في شمال إفريقيا، وسيُضَمِّنها مواقف مشرِّفة من قضية فلسطين والصراع العربي – الإسرائيلي، وسيَنْصَح من خلال مَقالاتها نظام الحكم في المنطقة الخليفية، وسيُناصِر سياسات الخليفة السلطاني، ويُشيد بنِضالية الحركة الوطنية التي نَعَتَها في العدد الثاني من جريدة الوحدة المغربية بــــ”الوطنية التّـعاونية”[5]، وسيُدَعِّم قَضايا الوحدة والاستقلال والتَّحرّر في إفريقيا والعالم العربي، وسيهتَمّ بالمسألة التعليمية والتعريب، وبالقضايا الاجتماعية والثقافية كالفقر والجفاف والأسرة والشباب والهوية والقيم والإصلاح.

وحيثما حَلَّ يُــثْـمِــر؛ هكذا كان الشيخ النّاصري، أرادت الإقامة العامة القضاء على نشاطه ووطنيته في المنطقة السلطانية، فَنَفَتْهُ بِقرار جائر إلى شمال المغرب، فكان أنْ أطلق العنان لمهاراته الصحفية والسياسية والتنظيمية، فَكَـتَبَ وراسَل ونَشر واحْـتَجّ وأزعج سلطات الحماية الإسبانية، وأقام علاقة متينة مع خليفة السلطان؛ فبعث به _ نظيرَ كفاءته وحيويته _ إلى مِصر، للإشراف على مكتب ثقافي تابع للمعهد الخليفي بتطوان، ثم ولّاه بموجب ظهير؛ إدارة بيت المغرب في القاهرة، والبيت كما وصفته قصاصة في جريدة “الوحدة المغربية” في العدد 57 من سنة 1939 “أوّل مؤسسة ثقافية مغربية خارجية في تاريخ المغرب الحديث”.

ثم ضَاقَت الحماية الإسبانية ذَرْعًا بالشيخ الناصري في منطقةِ نُفوذِها؛ فَسَعَت لنفيه إلى غينيا، إلا أنَّ يَقَظَته ساعدته على الفرار إلى طنجة؛ وفيها عَبَّر عن نزوعه الوحدوي، فصاغ وعمّم _ إلى جانب رفاقه في أحزاب الإصلاح الوطني، الاستقلال، الشورى والاستقلال _ ميثاق الجبهة الوطنية.

جِهاد المعرفة وحصاد التأليف

أَسْنَد الأستاذ المكي مسارَه النضالي والوطني والصحافي الحافِل؛ بترسانة علمية وفكرية قوية، تَنَوَّعَت بين المقالة الصحفية والكتاب الإسلامي والـمُصنَّف التاريخي والتُّحفة الأدبية والفكرية، فكَتَبَ “حياة سقراط، زعيم الفلاسفة وأبو الفلسفة القديمة”، الذي طُبع له بالقاهرة سنة 1930، و”صليبية في مراكش، أو مراكش أمام حرب صليبية جديدة”، المطبوع لأوّل مرةٍ سنة 1931، و”إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة”[6]، الذي طُبِع له بالعاصمة تونس، و”فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى” الصادر سنة 1934، وكِتابيه “الأحباس الإسلامية في المملكة المغربية”، و”وصايا دينية من ملوك الدولة العلوية”، المنشورانِ له سنة 1934، وغيرها مِن الكتب الـمُؤَلَّفة في عصْر الحَجْر والاحتلال، أرادَ منها كاتِبُها أنْ تَكونَ في خدمة العقلية المغربية، وتنويرها، وتهذيبها وتوجيهها لما فيه الصالح والنافع لها، وأراد مِن كُـتُـبِه ومقالاته في الصحائف والمجلّات أن تكون “مرآة للنهضة الفكرية المغربية” كما عبّر عن ذلك في الشِّعار الرسمي لمجلته الأثيرة “المغرب الجديد” في أولى أعدادها سنة 1935.

ومِن إصداراته التي ضَمَّنها نَفيس مقالاته التي كَتَبها على مَدى سنواتٍ في جرائد “الوحدة المغربية” و”منبر الشعب”، ومجلة “المغرب الجديد” و”جريدة الشعب” وجَمعها في كتابٍ من جُزئين بعنوان “تحت راية العرش”[7]. كما اهتمَّ بترجمة بعض الأعمال من الفرنسية والإسبانية إلى اللغة العربية، رابِطاً الصِّلة بين الألسن والثقافات المتوسطية.

ونظيرَ نضاليته وجُهوده الاجتماعية وثقافته الموسوعية؛ اختيرَ عضوا بالمجلس الاستشاري الوطني الذي كانَ يرأسه الأستاذ المهدي بن بركة قُبيل الاستقلال، كما تم اختياره عُضوا بمجلس إعداد الدستور، وهو المجلس الذي وُلِدَ ميّتًا، وشهِد انشقاقاتٍ وتأجيلٍ لفكرة الدستور لأجلٍ آخر. ثم عُيِّنَ أستاذً بجامعة محمد الخامس بدءً من سنة 1960، فسفيراً بدولة ليبيا سنة 1961.

إثْرَ عودته؛ عَيَّنه الملك الحسن الثاني عامِلاً على مدينة أكادير بتاريخ 9 نونبر 1963، ووشَّحه بوِسام العَرش تقديراً لجهوده الدبلوماسية والإدارية في كلٍّ من ليبيا وأكادير. وبَعد ذلك بسنةٍ واحدة، وعلى إثْر استِحداث دار الحديث الحسنية؛ عُيِّنَ أستاذاً بها، وفيما بين 1963-1970 اختُير عُضوا بالغرفة الدستورية، وخَطيباً بمجسد السنّة؛ أعرق مساجد العاصمة الرباط، واختيرَ لإلقاء دَرس رمضاني في إطار سلسلة الدروس الحسنية. وبَعد تَـفرُّغه مِن عُضوية الغرفة الدستورية؛ تَـقَلَّد مهمة خَطيبٍ بمسجد حسّان بالرباط سنة 1971، ثمَّ تولَّى وزارة الأوقاف والشُّـؤون الإسلامية في حكومة 1972.

أما في بداية الثمانينات؛ فقد نالَ الشّيخ النّاصري عضوية أهمّ مؤسّسة علمية بالبلاد، أكاديمية المملكة المغربية، وفي نفس الآن؛ رئيساً للمجلس العلمي المحلي لمدينتي سلا والرباط. وسيُتوَّجَ هذا المسار الكبير الزّاخر بالخبرات والتجارب والحابِل بالإنتاج العلمي والفكري للأستاذ المكّي؛ باختيارِه أميناً عاماً لرابِطة علماء المغرب خَلَفاً للعلّامة الأكبَر عبد الله كنّون الذي وافته الـمنية سنة 1989، وقد كانت تجمعهما علاقة مُصاهرة، إذْ كان المكيّ متزوّجاً من أخت السيّد عبد الله كنون رحمه الله.

الحاسّة الإبداعية ومَلكة الكتابة والتأليف لم تَـتعطّل لدى الشيخ الناصري بعد الاستقلال؛ فقد واصل جهاد القلم بتحرير كلٍّ من كتاب: “مبادئ القانون الدولي في الإسلام”، و”مبادئ القانون الإداري في الإسلام”، و”نظام الحقوق في الإسلام”، و”مكانة التشريع في الإسلام”، و”منهاج الحكم في الإسلام”؛ و”مكانة الرياضة في الإسلام”، وجميعُها تَرجمة أَمينة لمراحل التَّعلم الجامعي الأولى في تخصّص القانون، واستثمار هائل في المعارف الـمحصَّلة على مدى السنوات، خبرةً واحتكاكا بأمهات النصوص الشرعية والقانونية والتراثية في العالم الإسلامي.

تَلاها بكتبه الأخرى: “وحدة المغرب العربي؛ بنتُ الطبيعة والتاريخ والمصير الـمشترك”، “عِلم الكلام؛ فلسفة إسلامية مبتَكَرَة”، “دراسات تاريخية عن سبتة والجديدة والصويرة“.

الإتقان في تفسير وشرْح القرآن

أطْلَق الشيخ الناصري أَوَّل برنامج إذاعي لتفسير القرآن الكريم في الوطن العربي، تابَعَه الصغار والكبار والقَرَأة والأميون والمثقّفين؛ وظلَّ لسنواتٍ يُذاعَ صباحاً ومساءً على أثير الإذاعة الوطنية، ثمَّ لاحِقاً أعادت إذاعة وقناة محمد السادس للقرآن الكريم بَثَّ تفسير الشيخ المكي الناصري للقرآن الكريم. وقد وَصَف العلماء تفسير الشيخ المكي الناصري بأنّه “نهج جديد، فيه تقريب القرآن من عامة المسلمين، وذلك بتبسيط العبارة ووضوحها، وتَـجَنُّبِ حَشو الألفاظ وغريـبها (..) وعَدَم إقحام المصطلحات النحوية والبلاغية والأصولية الكلامية، وكل ما يَستعصي فهْمه على السّواد الأعظم مِن مُسْـتَـمِـعـيه. وإلى جانب هذا؛ فإنَّه اضْطَلع بِدور مُهم في مجال التّوعية بكتاب الله العزيز”، ووصَفوا منْهجه التفسيري بأنّه “مَنهجٌ فريدٌ في تفسيره، يَجمع بين الطريقتين الموضوعية والتحليلية، وإنْ كانت الأولى هي التي تَغلب على تفسيره”.

ثم خَتَم بأهمِّ إنجاز علمي له على الإطلاق؛ موسوعة “التّـيسير في أحاديث التّـفسير“، الواقعة في ستّ مجلّدات، الصادرة سنة 1985. فحُقَّ له أنْ يُوصَف بــ”العالِـم الـمفسِّر، والمحدِّث الحافظ، والفقيه الـمتضلِّع، والخطيب الـمِصقاع.. عَظيمُ الوفاء لوطنه”، بتعبير الباحث ابن عزوز الجزنائي في مقالٍ له بمجلة “دعوة الحق”، لسنة 1998.

ولا غرْوَ أنْ يحظى هذا التّفسير بمتابعة واسعة من الجماهير، وإلى يوم الناس هذا؛ فـــالمكي الناصري ارتَبطَ بالقرآن صبيّا، ورافقَه شابا وراشداً، وكَتب عنه وفسَّره شيخاً.

إنَّ هذا الـمشوار الطويل العريض الذي هيْمَنت فيه القراءة والمطالَعة والكتابة على حياةِ الشيخ الناصري، ارتَقَتْ باسمهِ وشَخصه عالِياً بين ألْمع وطنِيّي وصحَفيي وعلماء وكُتّاب المغرب المعاصِر.

ويُدْرِكُ المتأمِّل في هذه السيرة وهذا المسار؛ أنّ الرجل أدْرَك كلَّ ذَلك بما كان يمتاز به من موسوعية وعِلْم وذاكرة متوهّجة، وبما كان يحمله مِن شَرَف النضال ضد الاستعمار وخِبرة السّنين في العمل الوطني والسّياسي والصّحافي.

توفي إلى رحمة الله وسَعة رضوانه سنة 1994.

المراجع
[1] مجلة دعوة الحق، العدد 74، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب.
[2] كرم إدريس: "بيت المغرب في القاهرة 1938"، هوية بريس، منشور بتاريخ 18 مارس 2019.
[3] الزاهري سلوى: "أربع رسائل دفينة حول بيت المغرب بالقاهرة"، مجلة "أسطُور"، العدد رقم 10، يوليوز، 2019، بتصرُّفٍ شديد.
[4] "الزعيم المراكشي السيد محمد المكي الناصري"، /انظر: جريدة "الوحدة المغربية"، العدد 59، ص: 2.
[5] المرابط عادل: "إسهامات الشيخ المكي الناصري في التأسيس للعمل الصحفي بشمال المغرب من خلال جريدة الوحدة المغربية"، الطبعة الأولى 2017، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
[6] الناصري محمد المكي: "إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة؛ من مُناهضة الطرقية إلى مقاومة الاحتلال"، منشورات السبيل، رقم 12، دراسة وإعداد الدكتور إدريس كَرم، تحقيق وتَخريج محمد برعيش الصَّفريوي، الطبعة الثانية 2010.
[7] الناصري محمد المكي: "تحت راية العرش؛ الشعب بالعرش والعرش بالشعب"، طبعة 1993.