بين يدي التقديم

صنّف ابن منظور (توفي 711ه)[1] معجم (لسان العرب)، و”جمع فيه أمهات كتب اللغة[2]، فكاد يغني عنها جميعا”[3]  وعدّ من أشهر المعاجم ” لضخامة مادته، ولاشتماله على مجموعة كبيرة من الشواهد الصحيحة التي استقاها من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ومن أمثال العرب وأشعارها  وقد صرّح ابن منظور بالهدف من تأليفه هذا العمل الضخم فقال: ” فإنني لم أقصد سوى حفظ أصول هذه اللغة النبويّة وضبط فضلها، إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنّة النبوية، … فجمعت هذا الكتاب في زمنٍ أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوحٌ الفلك وقومه منه يسخرون، وسمّيته لسان العرب [4]“.

وقد كُتب لهذا المعجم القبول والخلود، فصار قبلة للباحثين والدارسين، يغرفون من غزارة مادته العلمية (يقدّرها الدارسون بحوالي ثمانين ألف مادة ) التي جعلته متعدد النفع، عظيم الفائدة، لا في المجال المعجمي فحسب، بل في مجالات علمية كثيرة. ومن حسناته الجارية النافعة: تأليف كتب، وإعداد أطاريح جامعية طرقت فنونا كثيرة وعلوما غزيرة وموضوعات منوّعة[5].

وضمن هذا الفيض من الدراسات يأتي ” كتاب تفسير القرآن الكريم لابن منظور الإفريقي من خلال لسان العرب”، وهو من آخر الدرر التي وفّرتها مادة هذا المعجم الذي لم تنقض ذخائره وعجائبه ودرره.

تقديم الكتاب

الكتاب من جزأين اثنين، صدرا عن مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء، الأول منهما سنة 2018 والثاني سنة 2021. ويتكوّن الجزء الأول من مقدمة وافية حدد فيها صاحب الصنعة الأستاذ رضوان ابن شقرون فضل القرآن الكريم، باعتباره “مرجعا ملاذا، ودستورا حكما”  وأن ” الإنسان في هذا الزمان، وفي كل زمان، أحوج ما يكون إلى منقذ موجه ومرشد مسدد منبه، والوحي برحابته وشموليته، وبربانيته وواقعيته يحقق للإنسان طمأنينة النفس وراحة البال وراشد السلوك”. وتحت عنوان: بين التفسير والتأويل، عرّف صاحب الصنعة بالمصطلحين معا، وأورد أقوال بعض المتقدمين فيهما، ليخلص إلى أن “أُولى مراحل حسن التلقي والتدبر والاستيعاب: معرفة الدلالات اللغوية للألفاظ والعبارات والتراكيب التي هي في القرآن الكريم على أعلى درجات الروعة والبديع والكمال، والبيان والفصاحة والجمال”[6]. ليجيب باستفاضة عن سؤال: (لماذا التفسير اللغوي؟) مستشهدا بأقوال بعض علماء الأمة في أن الشريعة عربية، وأن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، وأن فهمه إنما يكون من هذا الطريق، وأن النظر إلى مقاصد الشريعة يجب أن يكون في ضوء لغتها…. ليختم بالتعريض بدعاة العامية والتحذير من دعواتهم “التي تزكم برائحة الكراهية، وترشح بالحقد المبيت للعربية”. مؤكدا من جديد أن “الحاجة إلى معرفة اللغة العربية تفيد في حسن التبيّن وحسن البيان، وفي فهم القرآن والسنة باعتبارهما المصدرين الرئيسين للدين والشرع والحياة الخاصة والعامة” ثم يسوق أمثلة عن مدى اهتمام عموم المفسرين -عبر الحقب والأزمان- بالجانب اللغوي، وكيف أنهم “غاصوا في تفاسيرهم عن الدلالات اللغوية قبل أن يستخرجوا المعاني، أو يستنبطوا الأحكام، أو يقيموا الحجج”. مع عرض معرفا ببعض التفاسير التي عنيت بالجانب اللغوي.

مداخل عامة

عرض الأستاذ ابن شقرون تحت هذا العنوان ثلاثة مداخل، في الأول: عرّف بابن منظور ومعجمه  لسان العرب، ثم منهج صنعة التفسير. وخصّ المدخل الثاني للاستعاذة “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”. والمدخل الثالث للبسملة “بسم الله الرحمن الرحيم”.

ونظرا لأهمية بيان منهج الصنعة في هذا التفسير نورد أهم سماته كما أثبتها مقتضبة في مقدمة الجزء الثاني:

  • جرد كل ما له علاقة بالآيات موضوع التفسير من جميع أجزاء لسان العرب بدون استثناء، ونقلها نقلا حرفيا خاليا من أي إضافة أو حذف.
  • التقديم لكل سورة بمقدمة تعريفية موجزة مركزة.
  • عرض آيات السورة متتابعة مرقمة في أعالي الصفحات، سواء منها ما ورد للمؤلف فيه قول وما لم يرد فيه له شيء، تحقيقا لوصل الآيات ومتابعة سياقاتها.
  •  إظهار المضمر في بعض عبارات ابن منظور أو ما ينقل من المنقولات إن كان قطعي المقصد، عونا على الفهم وتسهيلا لإدراك القصد، واجتنابا للغموض أو التعقيد.
  • حذف كلمة “قال” عند كل المقولات المستشهد بها أوالمعروضة في سياق التفسير، لورودها بكثرة مفرطة، والاكتفاء بذكر اسم القائل، وعدم وضع الأقوال المنقولة أو المستشهد بها، وما أكثرها، بين علامات التنصيص.
  •  إضافة حواشي في بعض الأحيان لتوضيح وتبيين أو تعليق وتنبيه إن اقتضى ذلك مقتض.
  •  تخريج الشواهد والآثار، وبخاصة الآيات والأحاديث، وباستثناء الأشعار والأشطار.
  •  في تخريج الآيات اعتماد روايه ورش عن نافع بطريق الأزرق على الرغم من أن عمل ابن منظور والطبعات المختلفة لـ “للسان العرب ” تسير على وفق رواية حفص عن عاصم.
  •  إهمال الإحالة على “لسان العرب” في جميع الآيات تخفيفا على القارئ، واعتمادا على أن الرجوع إلى القاموس في كل مادة أمر سهل من جهه أصل البحث، قد يعقّده الإحالة على طبعة معينة من الطبعات المختلفة التي طبع عليها القاموس كما أشرنا إلى ذلك في مقدمة الجزء الأول.
  •  إرجاء مسرد الأعلام إلى نهاية تفسير القرآن كله، فتجمع وترتب أبجديا، ويترجم لها، وكذا المسارد المفصلة للمصادر والمراجع، والأشعار والأشطار والمصطلحات، أخرناها أيضا إلى نهاية التفسير كله بإذن الله عز وجل.

وعلى ضوء هذا المنهج تبرعم جزءان من عمل واعد نافع بإذن الله، نسأل الله أن يمد في عمر الأستاذ ابن شقرون إلى أن يتمّ هذا العمل الذي سيكون فرعا مثمرا من شجرة وارفة الظلال.

على سبيل الختم

في هذا الكتاب نجد أنفسنا أمام صنعتين اثنتيْن:

  • الأولى: صناعة ابن منظور لمعجم لسان العرب، أوائل القرن الثامن الهجري، جمع فيه مادته من خمسة معاجم، فصارت المادة غزيرة كثيفة نافعة.
  • الثانية: صنعة الأستاذ ابن شقرون لتفسير استلّه بمهارة وحدق من مادة معجم لسان العرب في القرن الخامس عشر الهجري؛ وبين التاريخين مسافة امتدت على مدى سبعة قرون، أجمل ما فيها أن المادة الأولى لم تخلق ولم يطوها النسيان، وأن الثانية جاءت متجددة مفيدة نافعة بإذن الله.

لقد اهتم صاحب هذه الصنعة بجانب التفسير في لسان العرب، ولعل هذا العمل يغري بالعودة إلى هذا المعجم من أجل التنقيب في ذخائره، والغوص على درره، فقد أثبتت التجارب أن هذه الأعمال الضخمة ومثيلاتها لا تنقضي عجائبها، ولا يغور نفعها، فإلى جانب معجم لسان العرب، يذكر الجميع أن مادة أعمال أخرى خالدة مثل “فتح الباري” وتفسير الرازي” وفي ظلال القرآن” و”التحرير والتنوير”… كانت –وما تزال- أرضية لأعمال مفيدة، تفخر المكتبة العربية بعناوينها النافعة التي طرقت فنونا وعلوما في الشريعة واللغة والأدب.

المراجع
[1]  محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (ت 711هـ).
[2]  "تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري (ت 370 هـ) -  المحكم» لابن سِيْدَه  (ت 458 هـ) -  الصحاح للجوهري (ت 393 هـ) - حواشي ابن برّي (ت 582 هـ) على الصحاح - النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الجزري (ت 606 هـ).
[3]  خير الدين الزركلي  (2002)، الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين (ط. 15)، بيروت: دار العلم للملايين، ج 7، ص 108.
[4]  أرشيف منتدى الفصيح - سبب تأليف ابن منظور لكتابه المبارك لسان العرب - المكتبة الشاملة الحديثة
[5]  أذكر على سبيل المثال العناوين التالية دون ذكر مؤلفيها: المجاز المرسل في لسان العرب -  أدوات التشبيه في لسان العرب – الشواهد النحوية القرآنية في لسان العرب: دراسة نحوية وصفية  – الأمثال العربية في معجم لسان العرب: إحصاء ودراسة......
[6] مقدمة الجزء الأول من الكتاب، ص 14.