مقدمة

مع الأسف الشديد، لازال موضوع تاريخ الصناعة الموسيقية بالمغرب بعيدا عن البحث والدراسة، سواء من طرف المؤرخين أو من طرف المهتمين والمشتغلين بمجال الغناء والموسيقي، وكذلك من طرف المؤسسات الأكاديمية والمهنية المرتبطة بهذا القطاع الفني والثقافي. لذا من الصعب التأريخ  لبداية التسجيل الموسيقي في المغرب، ورصد تطوره، في غياب المصادر، المتمثلة في أرشيفات وسجلات التسجيلات الغنائية والموسيقية لشركات ودور التسجيل القديمة والحديثة منها، والتي لازال الكثير منها مشتّتا بين أرشيفات بعض شركات التسجيل العالمية الكبرى ( كراموفون – باطي – كولومبيا – بيضافون – أوديون – بوليفون – بوليدور – فيليبس – دوكّا ..)، التي كانت تشتغل وتحتكر التسجيل الموسيقي بالمغرب طيلة فترة الاستعمار في ظل جهل تام من طرف الفنانين ( مغنّين و موسيقيين) لحقوقهم الملكية، وفي غياب تام للبحث التاريخي في هذا المجال.

تطور الصناعة الموسيقية في مغرب الإستقلال

في مرحلة الاستقلال، بعد انسحاب معظم شركات التسجيل الأجنبية تاركة وراءها بعضا من أرشيفاتها للمدراء الفنّيين المغاربة الذي كانوا يشرفون على أنشطتها، ولا يعلم أحد مصيرها، ليتشكّل تدريجيا، منذ الإستقلال إلى التسعينيات من القرن الماضي، مشهد الصناعة الموسيقية مما يناهز عشرين دار 360 مقاولة (تشتغل بين التسجيل والانتاج والتوزيع)، وكلها عبارة عن مقاولات خاصة. وكان معظمها يتواجد بالمدن الكبرى وبمدينة الدار البيضاء على وجه الخصوص. كما أن غالبيتها يشتغل على الموسيقى الشعبية. إلى جانب استوديوهات الإذاعة والتلفزة الوطنية مركزيا بالرباط، وجهويا في المدن التي توجد بها الإذاعات الجهوية وكلها تابعة للدولة.

وعرف الصناعة الموسيقية  منذ بداية الإستقلال نموا وتوسعا كبيرين، حيث صارت  تشتغل في قطاع التسجيل الموسيقي بالمغرب العديد من المقاولات المغربية، التي يمكن وصفها نسبيا بالكبيرة، مثل أوريكافون (Orikaphone) وبوسيفون (Boussiphone) وبودروافون (Boudroiphone) وديسك كام (Disques Gam) وموساويفون (Moussaouiphone)، وكواكب فون (Kawakibphone) ومكاويفون (Mekaouiphone) وكتبية فون  (Koutoubiaphone)، وتيشكافون (Tichkaphone)، إلى جانب مقاولات أخرى توجد مقراتها بفرنسا لكنها تشتغل على الموسيقى المغربية و توزع منتوجها بالمغرب مثل: سامي فون (Samiphone) وأطلسيفون (Atlassiphone)، وكازافون (Casaphone) وإفريقيا فون (Ifriquiphone).

أما بالنسبة لمختلف  ومجمل دور التسجيل والإنتاج والتوزيع، فإذا كان عددها في أواخر السبعينيات و الثمانينيات يقارب المائة بين منتج وموزّع، فقد بلغ عددها خلال التسعينيات الماضية  حوالي 350 مقاولة، تشتغل في ما بين التسجيل و الانتاج والتوزيع. فمنذ بداية تراجع استعمال الفنوفون (phonophon)  وقرص الفينيل(Vinyle)، وانتشار المسجّلة و الشريط المغناطسيّي (magnotophone) في أواسط السبعينيات الماضية، ستغيّر العديد من دور التسجيل الموسيقي أسماءها، التي كانت تنتهي بـمقطع: “فون” (phone)، بأسماء جديدة تبدأ في الغالب بـ “صوت” أو تنتهي أحيانا بـ: ” كاسيط (cassete) ”  أو “ديسك”  (disque).

وقد ظلّ مجال الصناعة الموسيقية غير منظم إلى سنة 1965، حيث تمّ إنشاء المكتب المغربي لحقوق المؤلّف، إلا أنّ عمله في توثيق التسجيلات الموسيقية و الغنائية، وفي حماية حقوق المؤلفين من مغنيين وموسيقيين ظل ضعيفا، في الوقت الذي ظل فيه عمل شركات التسجيل (الأستوديوهات) عشوائيا، دون قوائم مضبوطة لأسماء الفنّانين و تسجيلاتهم الموسيقة والغنائية (catalogues)، وهذا ما حال دون توفّرها على أرشيفات منظّمة ومضبوطة، يمكن أن تشكل قاعدة معطيات تمكن الباحثين من الاشتغال عليها.

دور الحاج حسن أيت واحمان في تطوير الصناعة الموسيقية بالمغرب

ولد حسن أيت واحمان في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، بقرية تاليوين بقبيلة سكتانة، في السفح الجنوبي للأطلس الكبير الغربي، والتابعة لإقليم تارودانت، حيث تلقى تعليمه بكتّاب الدوار (تيمزيكيدا)، كما هو معتاد خلال تلك الفترة لكل أطفال البوادي. وفي نهاية الاربعينيات الماضية وهو  في 15 سنة من عمره غادر قريته إلى مدينة الدار البيضاء، في سياق موجة الهجرة الكبيرة التي عرفتها بوادي سوس في اتجاه الدار البيضاء، وقاده القدر ليشتغل كخادم ثم كمسيّر في دار الكتاب للنشر والتوزيع التي كانت في ملكية عبد الهادي بوطالب، كما اشتغل كمستخدم في فرع شركة باطي- ماركوني بالدار البيضاء ( Pathé- Marconi)، و عمله في تسيير دار الكتاب للتوزيع والنشر وتجربته في الاشتغال في فرع شركة باطي- ماركوني للصناعة الموسيقية  أكسبه خبرة دفعت به سنة 1957 إلى تأسيس مقاولته الخاصة لتسجيل وإنتاج  وتوزيع الأقراص الموسيقية ثم الأشرطة الغنائية في ما بعد، وسمّاها: “المركز المغربي لتوزيع الاسطوانات” (Le Comptoir Marocain de Distribution de Disques)..

إن غياب المعطيات التاريخية الكافية عن كل دور التسجيل الموسيقي (الاستوديوهات) خلال فترة الاستقلال إلى غاية ظهور الأقراص المدمجة لا يمنع من رصد إحدى تجارب التسجيل المهمة، التي تركت بصماتها على الصناعة الموسيقية بالمغرب، لكونها دار تسجيل وشركة تصنيع وتوزيع، قصد أخص صورة عمّا كان عليه قطاع التسجيل خلال هذه المرحلة. إنه المركز المغربي لتوزيع الأسطوانات (Le Comptoir Marocain de Distribution de Disques)، لصاحبه الحاج حسن أيت وحمان. الذي بدأ مساره المهني بالعمل كمستخدم في دار الكتاب للنشر والتوزيع، ثم كمستخدم في مقر شركة باطي- ماركوني (Pathé-Marconi)، ثم  أحدث محلا تجاريا، لبيع و توزيع كل ما له علاقة بالفنوغراف ومستلزماته في حي درب السلطان بالدار البيضاء. و بعد الاستقلال مباشرة، في سنة 1957، أنشأ “المركز المغربي لتوزيع الاسطوانات”، حيث استفاد من الفراغ الكبير الذي تركته الشركات الأجنبية التي كانت تشتغل في مجال التسجيل الموسيقي، حيث تحوّل المركز في ظرف وجيز إلى إحدى أهم المقاولات في مجال الصناعة الموسيقية، إن لم نقل أكبرها على الإطلاق، بفعل قوة استقطابه لأبرز نجوم الأغنية المغربية العصرية في المغرب. وتعامله مع مختلف أنماط الغناء المغربي الشعبي ( الروايس – أحواش – العيطة – الملحون – الأغنية الشعبية – المجموعات العصرية..)، و  بكل ألسُنِه، من عربية دارجة والأمازيغية (تاشلحيت وتامازيغت وتاريفيت)، وكان شبه محتكر لتسجيل أغاني الرّوايس لما يزيد عن عقدين من الزمن، إلى جانب كون المركز مستوردا وموزّعا للمنتوجات الغنائية و الموسيقية الأجنبية بالمغرب.

وعمل هذا المركز، عبر مسار اشتغاله على إصدار تسجيلاته من خلال أربع ماركات تجارية مسجّلة (أوريكا فون – كتبية فون – تيشكا فون – واحمان كاسيط) وكلها مقاولات قانونية محفوظة الحقوق بقوائم أرصدتها من عنواوين التسجيلات الغنائية والموسيقية ( les catalogues)، بدأ المركز بأوريكا فون (Orikaphone)، واشتغل بها بداية السبعينيات الماضية، ثم انتقل إلى إصدار تسجيلاته بعلامة كتبية فون (Koutoubiaphone)، عندما صار المطرب المغربي أحمد البيضاوي والشاعر محمد أمزال شريكان له في المشروع، واشتغل بهذه العلامة التجارية إلى نهاية السبعينيات الماضية، ليتحوّل إلى علامة جديدة وهي تيشكافون (Tichkaphone)، بعدما انتهت شراكته مع  محمد أمزال وأحمد البيضاوي. وخلال فترة ازدهار تجارة الشريط المغناطيسي واختفاء قرص الميكروسيون، أحدث علامة تجارية جديدة باسم واحمان كاسيط  ( Ouahman Cassette)..

المركز المغربي لتوزيع الاسطونات والريادة في صناعة الموسيقى المغربية 

كان المقر المركزي للمركز المغربي لتوزيع الاسطونات قد اتخذ له موقعا استراتيجيا في شارع لالة يقوت بمدينة الدار البيضاء، القلب النابض للتجارة بالمغرب، حيث يقع في منطقة تتركز فيها مختلفة المؤسسات الفندقية الكبرى، ودور السينما والمكاتب الإدارية، بالإضافة إلى كونه قريب للمحطة الطرقية القديمة بالدار البيضاء (بن جدية)، منطلق الشريان الطرقي إلى كل مناطق المغرب. كل هذا أهّل المركز ليكون نقطة استقطاب للكثير من نجوم الغناء بالمغرب وخارجه، حيث يملك حقوق توزيع أغاني الكثير من نجوم الغناء في العالم العربي بالمغرب وفي مقدمتهم أم كلثوم، وبالمقابل يقوم بتسويقها، إلى جانب الأغاني المغربية في العديد من البلدان ( الجزائر – تونس – ليبيا – تركيا – اليونان – فرنسا..)، و قد كان لشبكة علاقاته الواسعة مع الفنّانين من كل المشارب الفنية والأنماط الغنائية دورا كبيرا في نجاحه المهني، حيث استقطب إلى استوديوهاته كبار النجوم، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: أحمد البيضاوي وعبد الهادي بالخياط وعبد الوهاب الدكالي وإبراهيم العلمي  وأحمد الغرباوي، والمعطي بنقاسم والمعطي البيضاوي ومحمد فويتح في الأغنية العصرية، والحسين التولالي في الملحون والحاجة الحمداوية في العيطة، وحميد الزاهر في الأغنية الشعبية، ومحمد رويشة في أغنية تمازيغت الأطلس، وعمر واهروش واحمد أمنتاك ومحمد الدمسيري ومهدي بنمبارك وعبد الله بندريس في أغنية تاشلحيت، دون أن نغفل تسجيلاته لأصوات أهم القرّاء المغاربة في ترتيل وتجويد القرآن الكريم، حيث سجّل للقارئ المغربي المشهور الشيخ  عبد الرّحمان بن موسى، وللقارئ المغربي المعروف الشيخ عبد الحميد حساين وغيرهما، واستطاع أن يجذب كبار نجوم الأغنية في العالم العربي لزيارة مقره، وفي مقدمتهم أم كلثوم وفريد الأطرش، حيث صار المركز المغربي لتوزيع الاسطوانات هو الموزّع المعتمد الوحيد لتوزيغ أغانيهما بالمغرب.

ثم إن المركز يتوفّر على استوديوهاته الخاصة للتسجيل الموسيقي، كما يملك المركز منذ الثمانينيات الماضية مصنعا في منطقة المعاريف بالدار البيضاء يعتمد التقنية الألمانية في تصنيع الأشرطة المغناطيسية، ولا يستورد من الخارج ( ألمانيا) سوى مادة أساسية واحدة في التصنيع. فكان هذا المصنع أكبر مزوّد للسوق المغربية ولدور التسجيل بالمغرب بالشريط المغناطيسي.

المراجع
[1] Marie-France Calas- Chronologie historique de l'enregistrement sonore- in La Gazette des archives - n°111, 1980 . Lepatrimoine audiovisuel (numéro spécial) pp. 281-282
[2] Faiçal Faquihi - Industrie du disque : La lente agonie des maisons de production - le journal " L'Economiste" -[3] Edition N°:2302 Le 21/06/2006
[3] Faiçal Faquihi - Industrie du disque- Op.cit.
[4] التقرير السنوي المجلس الأعلى للحسابات برسم سنة 2014 - ص: 206.
Sana Guessous- Vinyles perdus – article publié sur le [5] site du journal Lavie économique le27 Juiller 2011 : https://www.lavieeco.com/culture/vinyles-perdus-20047.
[6] عزيز الزاهي - مقال تركيبي لحوار طويل لحسن واحمان نشر في مارس سنة 2016 على شكل حلقات في موقع إلكتروني محلي بتاليوين http://www.tali24.com/2016/03/page/6.
[7] -Hadj Mimiani – Présence des musiques arabes en France : Immigration, diasporas et musique du monde –Migrance 32 – 4emetrimestre 2008.