بين يدي المؤلَّف

لقد اختار الدكتور عبد لله إدالكوس “مدخل إلى الأنسنة الإسلامية” عنوانا لمؤلفه، وقليلون هم الذين سبق لهم أن تعرفوا على هذا المصطلح أو المفهوم الأنسنة، وإن كان يحيلنا إلى الإنسان والإنسانية، ويعرفه كل من قرأ لأركون والمسيري والحبابي ومالك بن نبي.. ولعل اختيار مصطلح “مدخل” سيف ذو حدين؛ فهو مقدمة وبداية مشروع فكري مستقبلي وأبحاث مستقبلية له ما بعده، ومأزق لأنه يقيد المؤلف ويلزمه بإتمام ما بدأه، ويحيلنا العنوان إلى حقل معرفي إسلامي. أما مصطلح ” الأنسنة” فهو مفهوم يربطنا بمفكرين تبنوا المصطلح وانتصروا له ( أؤكد هنا أن أركون رفض مصطلح النزعة الإنسانية وتشبت بالأنسنة يخبرنا صالح هشام) والأنسنة، والنزعة الإنسانية الإسلامية، تفرض علينا التأصيل لها والتساؤل عن إمكانية إنجاز نهضة فكرية إسلامية تنتصر للأبعاد الإنسانية.

وقد حدد المؤلف إشكالية البحث في التساؤل عن إمكانية الفكر الإسلامي المعاصر القيام بنهضة إنسانية، تبشر ببناء إنسان آمن جديد، إنسان يتمتع بجميع حقوقه التي وهبه إياها الخالق؟ وبالتالي قادر على الحوار والانفتاح والتفاعل مع جميع شعوب العالم، واستثمار منجزات المعرفة المعاصرة لتجديد الرؤى والمدركات بما يتوافق مع روح العصر.

في منهجية البحث

نبه الباحث إلى خطورة القطيعة مع التراث والمنجز الإنساني، تحذيرا من الانزواء والضياع،  من هذا المنطلق اعتمد المقاربة النقدية لما  تكتسبه من أهمية قصوى نحو الانعتاق وكسر طوق التبعية للآخر، وبالتالي التأصيل لفكر يحفظ مقومات السياق التداولي الحضاري الخاص بالمجتمعات الإسلامية. ذلك أن الرؤية النقدية في التاريخ المعاصر تشكل رأسمالا رمزيا لا مفر من استيعاب وتمثل مختلف مكوناته أي لا مفر من المركب بنتائجه وأبعاده ومختلف مكاسبه. ودعا إلى استحضار الجانب الإيجابي في عملية النقد، واعتباره ميزة أساسية للعقل المنفتح الذي يسعى إل الإبداع والابتكار، ورفع الواقع، والانتقال من مرحلة الإتباع إلى مرحلة الإبداع.

مضامين الكتاب

جاء الكتاب في حوالي مائتي صفحة، وهو من منشورات مركز ابن غازي للدراسات الاستراتيجية، ودار النشر افريقيا الشرق، ويتضمن بابين وأربعة فصول رئيسة مع تمهيد وخاتمة، تدور في مجملها حول الاحتمالات الممكنة لبناء نزعة إنسانية جديدة تتجاوز النزعة المادية الحداثية، وذلك من خلال البحث في نماذج فكرية عربية ساهمت في التأسيس لهذه النزعة، وفي نفس الوقت تقديم رؤية نقدية للنموذج الإنسي الذي صيغ في إطار الحداثة السائلة.

اهتم الكاتب أولا بتحديد المفاهيم، ففي الفصل الأول اجتهد في تقريب مفهوم النزعة الإنسانية (ص 23)، ومفهوم الإنسان في القرآن الكريم (ص 31 ) ، ومن خلال المصادر الإسلامية والعربية أكد أنها النزعة والميل للإنسان على حساب موضوعات أخرى، والتي تُوجه المعرفة والعلم إلى نشاط الإنسان وغايته.

وعنون الفصل الثاني بالنزعة الإنسانية في التداول الغربي وتشكلاته، حيث أكد على أن النزعة الإنسانية عرفت التباسا في المفهوم ولم تظهر إلا في أوائل القرن التاسع عشر، وهناك من ذهب إلى بداية القرن العشرين. وهنا نطرح مسألة أرى أنها أساسية: هل هناك مقاربة بين مفهوم النزعة الإنسانية في النظيمة أو المنظومة الإسلامية ومثيلتها الغربية؟ وهل النزعة الإنسانية حركة فلسفية؟ ليجيبنا بأنها أدبية جمالية وأسلوبية وتبحر أكاديمي في أعماق الحضارات السابقة على المسيحية، وقد ارتبطت بفكر عصر النهضة، كما شكلت تحولا في بنية التفكير الأوربي في تلك الفترة إلى جانب الأحداث التي عرفتها المنطقة خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين. وكان أعظم اكتشافات عصر التنوير هو قوة تأثير العقل النقدي حينما يطبق على السلطة والأعراف والتقاليد في كل المجالات.

لقد تناول الباحث النزعة الإنسانية في الفكر الغربي؛ وتتمثل في وجهةَ نظر محددة وصريحة من الكون، ومن طبيعة البشر ومشكلات الإنسان، وتركز على فكرة مفادها أن الإنسان هو القيمة المطلقة ومصدر المعرفة وتعتبره هو الغاية الأولى والأخيرة وترفع من قيمة الفرد، “وكل التصورات والأنساق السياسية والاجتماعية إنما تنطلق من هذا المبدأ وتسعى لتحقيق سعادة الفرد وخدمة مصالحه، وذلك خلافا للتصور اللاهوتي الذي كان سائداً في أوروبا لقرون والذي كان يرى أن الإنسان كائن تابع ولا أهلية له في تقرير مصالحه وعليه الطاعة التامة والتبعية المطلقة للكنيسة.”

كما قدم الباحث ملاحظات نقدية مهمة  (ص 79 إلى 83 )؛ وأهم ما تضمنته: الكتابة التاريخية وسردية الراعي النائم، وهنا تطرح إشكالية التحقيب عند الأوربيين المخالفة لغيرهم (العصر القديم، عصر وسيط، عصر النهضة/ عصر التنوير…)، وكذا غموض المفهوم ومرونته، ونتساءل مع الكاتب هل فعلا استطاع العلم أن يقدم تصورا جديدا للأنسنة يتجاوز التصور التقليدي؟ أم أن مسار العلوم وفلسفتها انتهى إلى نقيض ذلك؟. ويعتمد الباحث فكرة كل من محمد عابر الجابري ومحمد أركون في ضرورة الاستفادة من المنجز الحداثي مع الإبقاء على بعض التراث الإسلامي المتصالح مع النزعة الإنسانية، وذلك في قراءة نقدية مزدوجة للحداثة والتقليد.

وفي الفصل الثاني من الباب الثاني نماذج من الأنسنة في الفكر العربي المعاصر تناول الباحث النزعة الإنسية عند عبد الوهاب المسيري، الذي استطاع عبر مسيرته العلمية أن يبلور أدوات ونماذج منهجية تفسيرية خاصة به، محاولا تقديم فهم صحيح لمأزق الحداثة بتطوير مناهج مساعدة على فهم العلاقة بين الشرق والغرب. كما استطاع أن يقدم نزعة إنسية تتسم بالتركيب الذي يتصف به الإنسان وليس التفسير ذو البعد الواحد، فالتوحيد هو عكس الحلولية لأنه يسمح برؤية الإنسان في كل أبعاده المتعددة المادية والماورائية. فالنموذج التفسيري لدى المسيري “هو بناء يماثل الواقع لكنه افتراضي، أي متخيل ومع هذا تشبه العلاقات بين عناصره العلاقات الموجودة بين عناصر الواقع”.

خاتمة

لقد قدم الباحث دراسة متكاملة لمشروع كبير يهتم بالإنسان الكامل إنسان العبادة، وبين سلبيات الطرح الغربي في مقاربته للإنسان والأنسنة والبحث عن المشترك الإنساني حسب تعبير المسيري. وبقي الباحث وفيا لطرحه وخرج من مأزق المدخل حيث خلص إلى خلاصات واستنتاجات مهمة وقدم وتوصيات. والكتاب، حسب تعبير الكاتب، يُعد مدخلاً إلى الأنسنة الإسلامية ورسماً للمعالم الكبرى وليس إحاطة شاملة بالموضوع، ودعا عموم الباحثين والدارسين إلى تعميق البحث في تجليات الأنسنة في التداول الإسلامي بمجالاته المختلفة.