توطئة

ضِمن منشورات سلسلة اخترت لكم، العدد 8 لسنة 2001، صَدَر كتاب الأستاذ والمثقف المغربي أبو زيد المقرئ الإدريسي بعنوان “التطبيع إبادة حضارية”، بتقديم الأستاذ الباحث خالد الرحموني، الذي يشكِّل الجزء الثاني لــــكتاب “فلسطين وصِراع الإرادات”.

يتّضح من سَنة نشر هذا الكتيب أنّه وليد سياق ما بعد انتفاضة الأقصى المباركة، التي خلخلت سياسات الاستيطان وتنامي العدوان بأرض فلسطين، وأربكت إستراتيجيات السياسة الدولية، وبَعثرت أوراق الـمراهنين على التطبيع مع المحتل، والـحالمين بسلام دائم على أرضية اتفاق أوسلو ومدريد ووادي عربة.

فأعيُن المسلمين -كما المنتفضين من أطفال الحجارة وشبابها وكهولها- لم تتطلّع لغير القدس، عاصمةً عربية مستقلة لفلسطين، ولم تتطلّع لغير التحرير بشتى الوسائل، إنهاء للوجود الاستعماري الغاشم، ولم يتأخر مثقفو المغرب[1] وبعض ذوي الضمائر الحية من الكتّاب والمؤلّفين عن التعبير عن مواقفهم ورؤيتهم ودعمهم للنضال الفلسطيني، من بينهم فارس القضية والمنافح عنها منذ أمدٍ بعيد، المفكر أبو زيد الإدريسي المراكشي في كتابه الذي نقدّم جوانب من مضمونه في هذه المادة.

حوار معرفي هادئ حول قضية ساخنة

جزء كبير من مضمون هذا الكتاب عبارة عن حوار، يُجيب فيه الأستاذ أبو زيد باستِفاضة عن كثير من القضايا ذات الصِّلة بالشأن الفلسطيني وطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، ومواقف الدول العربية من الانتفاضة وطرائق دَعْم القضية وفَهْم طبيعة الكيان الصهيوني الذي نواجهه منذ 1948، بحيث يتوجَّب حسب الكاتب أنْ “ندرِك أنّ اليهود لم يأتوا إلى فلسطين من أجل صُنع السّلام أو الصّلح أو بدعوى الرجوع إلى أرضهم؛ اليهود أَتوا لكي يخرّبوا ويخترقوا ويحطّموا (…) فعَلينا مواجهة التطبيع والاختراق الصهيوني دعما لأنفسنا أوَّلا، وحماية لوطننا من الاختراق ثانيا، وإبراء للذمة وإعذارا لله ثالثا، ثم نصرة لفلسطين رابعا، ولا شَك أنّ فلسطين تنتصر معنويا وماديا كلما أُغلِق الطريق على إسرائيل”[2].

ويَتّخذ الكاتب مِن حالة المؤتمر الاقتصادي الأول للشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذي احتضنته الدار البيضاء المغربية تحت رئاسة الحسن الثاني مثالا على مساعي التسرب الاقتصادي والتجاري لإسرائيل في المغرب، وترويجها لمنتجاتها وسِلعها وتوزيع مطبوعات إشهارية للزراعة الإسرائيلية “وإرشاء موظفين في وزارة الفلاحة” (الكتاب ص 22) لكي يساهموا في الدعاية للمنتوج الزراعي الإسرائيلي في البلاد.

يشنّع أبو زيد على من يسميهم “النخبة التجارية” بالمغرب، التي تتزلف إلى إسرائيل خدمة لمصالحها الأنانية ومنطقها في حيازة الامتيازات وإيثار الإثراء السريع، نخبة تُـتاجِر عارية من أي رؤية دينية أو حضارية أو ثقافية أو حتى انتماء أصيل إلى المغرب الأقصى؛ أرض البطولات والمعارك والمقاومين والمواقف القوية من دعم فلسطين على مدار عقود.

وعليه؛ فالمعركة الحقيقية مع الصهاينة تقتضي التحصّن – تصوريا – بالمرجعية الإسلامية، والتحصن –سلوكيا- بالقيم الإسلامية.

دلالات ومرتكزات مفهوم التطبيع إبادة حضارية

بالنظر إلى مآلات الاختراق الصهيوني في بعض دول إفريقيا وفي الهند وإندونيسيا وباكستان، وأطماعه في التوسع أكثر بعد اتفاقية أوسلو وجرّ بلدان أخرى للتطبيع؛ فإنّ التاريخ – حسب الأستاذ أبي زيد- يتكرّر والمكر الصهيوني واحد، من أواخر عهد الدولة العثمانية وإلى انتفاضة الأقصى، ولذا فالتطبيع إبادة حضارية دون مبالغة.

يُعزِّز هذا المفهوم بالدلالات والمرتكزات الآتية:

  • الأمم لا تنهزم بالهزيمة العسكرية، ولا تنهزم بتحطّم قواتها المسلحة، ولا تنهزم حتى بتحطّم اقتصادها وبنيتها التحتية، فالألمان واليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية خير نموذج للأمم التي تهدَم ثم تبنى من جديد، لأنّ هناك إرادة؛ فالأمم “تنهزم باستسلام نخبها المهزومة”، لأنّ الهزائم قبل أن تكون اقتصادية وتجارية وسياسية؛ فهي فكرية ونفسية، و”اليهود هُم أقدر الناس على اختراق العقول (…) وخطورة الصهيونية كخطورة السيدا والسرطان تكمن في أنّها لا تحارب الأمّة؛ ولكنها تشلّ القدرة على القتال”؛ (الكتاب ص 30)
  • التطبيع يخترق المنظّمات النسائية في العالم الإسلامي والعربي ويقنعها بضرورة دعوة النساء الفلسطينيات إلى تنظيم النسل لإنقاذ أنفسهن من مخيمات البؤس والفقر، ولكنه يطمس حقيقة إبادته المتكررة عبر الحروب لآلاف الأطفال والمواليد الذين يرى فيهم قوة ديموغرافية قد تقضي عليه مستقبلا؛
  • المطبِّع الإسرائيلي يسعى لإقناع النخب السياسية والفكرية لكي تتحدّث عن الخطر الأصولي والخطر الديني والخطر الإسلامي، ولا تتحدّث عن الخطر اليهودي ولا عن الخطر الصهيوني؛
  • التطبيع يَـخترق المجتمعات العربية من البوابة الأمنية والعقارية والإعلامية والثقافية والزراعية ويُوهمها بخطر غير موجود لتتجاهل خطرا حقيقيا هو (الاختراق الصهيوني)؛
  • المطبِّعينَ يُظهِرونَ للمسؤولين المغاربة والعرب أنَّ صَوْغ الاتفاقيات مع إسرائيل عادية وإنسانية ومعقولة، ويُعطونهم الشيء الكثير على الأوراق، وأثناء التطبيق لا يجدون شيئا؛
  • التطبيع يَضع العلاقات مع الكيان الصهيوني شرطا للسلام، فهل اشترط أحد على أحد في تاريخ التدافع البشري وفي تاريخ الدبلوماسية البشرية؛ أنه لا سلام إلا بعد التطبيع؟”. (الكتاب ص 40)

لكلّ ذلك؛ فالتطبيع إبادة حضارية، لأنَّ وراءه اختراقا واحتلالا وتأبيدا للهزيمة وتأبيدا للاحتلال، وإذلالاً حضاريا.

مستويات التطبيع والاختراق الصهيوني بالمغرب

هناك اختراق على المستوى الثقافي أو التطبيع الثقافي، تخدمه وسائل الإعلام العمومية، هدفه تخريب الذاكرة وسلب الوعْي وخطْف اهتمام الإنسان خارج مجاله وإهمال البرامج التي تَبني الذات والوعي وتحصّن الذاكرة التاريخية. في مقابل سعي هذه القنوات في بناء الذّاكرة الصهيونية لدى اليهود المغاربة، لقد عاد اليهود إلى المغرب ليدرسوا تاريخهم ويبحثوا عن أضرحتهم وقبورهم وآثارهم.

ولقد تبيَّـن فيما بعد أوسلو وإلى انتفاضة الأقصى تهافت المطبّعين العرب الذين كانوا يُسوّقون أنّ إسرائيل سوف تذوب في بحر متلاطم الأمواج من الثقافة العربية، وأنّ الإنسان اليهودي سوف يذوب في الجنس العربي، وأنّ اللغة العبرية سوف تذوب في اللغة العربية، وأننا نحن كُثُر وهم قلائل!

ثم هناك الاختراق الرسمي/الرمزي، يقدّم الكاتب تذكيرا بجوانب من مسارات الحضور التاريخي لليهود على مستوى السّلطة والقصور السلطانية، بحيث أنه “في عهد المرينيين دخل اليهود إلى البلاط الملكي في خدمة النساء، فقَدَّموا مُنتجاتهم المتميّزة على مستوى الخياطة والملابس الجاهزة والحليّ الفضية والذهبية. زاد تمكّنهم بعد ذلك؛ إذ انتقلوا إلى تقديم خدماتهم في مجال النّقش على الجصّ والخشب والزليج؛ مستفيدين من أنّهم قادمون من الأندلس ومعهم بعض خبرة الحضارة هناك، وسوف نلاحِظُ بأنَّ النَّجمة السداسية تكاد تكون دائما إمّا بشكل ظاهر أو مُلتَوي حتّى في النّقوش. وبَلَغ مِن نفوذ اليهود أنَّهم في فترة مِن الفترات دَخَلوا أيضاً على التّدبير الاقتصادي للقصر الملَكي، ثُـمَّ حِفْظ أسرار الملوك، خصوصاً الأسرار غير الـمُشَرِّفة. حتّى وَصل الأمر بهم إلى أنّه في عَهد الملك السلطان سيدي محمد بن عبد الله الذي كان يُسمّى الملك الصالح والذي حارب البِدعة وأحيا السّنة وكان ملكاً عادِلاً؛ أعطى تفويضاً لليهود بتدبير التجارة الخارجية، وعندما لامَهُ بعض الفقهاء؛ رَدَّ عليهم بأنَّ اليهود عُنصر نشيط دوليا، وتدبير التجارة الخارجية سَوف يَرُدُّ بعض الفوائد على المغرب (…) وقد قامت أمريكا بدَعْمٍ مِن اليهود، وكان المغرب أوّل دولة اعترَفَت بأمريكا، وكان جزاءهُ هو أنَّ أمريكا ضَغَطَت على ملِكِ المغرب للاعتراف باليهود الـجُدُد الذين جاءوا من الأندلس لِكَيْ تَكون لهم الوضعية نفسها التي لليهود الأصِـلّاء الذي كانوا في المغرب قَبل الإسلام”[3].

ولم يكن تعامُل الحسن الثاني مع القضية اليهودية، وبالتالي مع القضية الإسرائيلية نتيجة الْتزام سياسي أو دور مسؤولياتي، أو ما تفرضه ظروف محدّدة، فقد عاشر الحسن الثاني اليهود منذُ صِغره انطلاقا مِن ارتباطهم الأزلي بالدَّولة المغربية، فحتى قبل إعلان الدستور الأول، أُسْنِدَت وزارة البريد في عهد محمد الخامس إلى اليهودي ابن زاكين، وكان نموذجا للحضور اليهودي في أوَّل الحكومات المغربية. كما أُسْنِدَتْ وزارة السِّياحة سنة 1987 إلى سيرج بيرديكو، واختِيرَ الصَّحفي والمستشار الاقتصادي أندري أزولاي مستشارا للملك مُكَلَّفًا بالمهام الأساسية لدى عددٍ من النافذين اليهود والطوائف العبرية وطنيا ودوليا.

أكثر مِن ذلك؛ فإنَّ اليهود كانوا يَعتبرون الحسَن الثاني حاميهم وناصرهم. علما أنّ “النظام المغربي لا يحتاج إلى الشرعية اليهودية، لأنهم ليس لهم شرعية، ولا هم عباقرة، بل هم أناس ماكرون متآمرون يعملون في شكل عصابة المافيا، ولديهم إخلاص لقضيتهم (..) وينظّمون وينسّقون مع بعضهم البعض، ويستطيعون طرْق الباب المناسب واستعمال المفتاح المناسب”. (الكتاب ص 57)

خاتمة

يؤكّد الكاتِب أنَّ خيار المقاومة والصمود هو الأجدر بنا والأقل تكلُفة، ويتوجّب علينا جميعا أن نقاطع دولة الاحتلال و”نخنقها حماية لاقتصادنا، وحماية لصناعتنا، وحماية لحقّنا في الاستقلال الاقتصادي، وحماية لثقافتنا وكياننا، ونتهيّأ ليومٍ _ إذا لم نتمكّن من إسقاط إسرائيل _ تنقلب عليها أمريكا، بعد أن تَـتْـعَبَ مِن تَـحَمُّـلِـها، فينقطع بها حبْل الناس أيضا” (الكتاب ص 40)، بعد أن انقطع عنها حبل الله؛ مصداقا لقوله تعالى عن اليهود: {إلا بحبــل من الله وحبـل من الناس}، الآية 112، سورة آل عمران.[4]

وإذا ما توفّرت إرادة الاستماتة والاستبصار، وتوحَّدت الرؤية حول مَن نواجه، فسيتبدَّد حينها خطر الصهيونية ومكر الصَّهاينة.

المراجع
[1] أنظر: بلقزيز عبد الإله: "زمن الانتفاضة" منشورات الزمن، سلسلة شُرفات، العدد 2، تقديم الدكتور عبد الهادي بوطالب، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2001.
[2] الإدريسي أبو زيد: "التطبيع إبادة حضارية"، سلسلة اخترت لكم، العدد 8، الطبعة الأولى 2001، ص: 20.
[3] الإدريسي أبو زيد: فلسطين وصراع الإرادات، الجزء الثاني، التطبيع إبادة حَضارية، سلسلة اخترتُ لكم، العدد 8 منشورات ألوان مغربية، طبعة 2001، ص: 48 – 49.
[4] القرآن الكريم، الآية 112، سورة آل عمران.