تقديم

من بين أهم من بصموا الحياة السياسية المغربية، وأحد أعمدة اليسار، رجل واكب جيل الحركة الوطنية وعايش ثلاثة ملوك، دقيق في تعبيراته، منافح عن فكره الاشتراكي، وداع إليه، لم يترك فرصة للتساهل مع خصومه، شرس في خطابه. وكتاب “سيرة وطن مسيرة حزب” لخص جزءا من مسار هذا “الداعية” بوصف عبد الإله بلقزيز في كتابه “نهاية الداعية”، ويقصد به المثقف. هل استطاع الكتاب اﻹحاطة بمسار نضالي من أجل الديموقراطية والتعددية والكرامة؟، أم أنه فتح لنا نافذة نطل من خلالها على بعض التفاعل السياسي والحراك الاجتماعي والتطاحن الإيديولوجي بين الإخوة الأعداء ومخالفيهم من تيارات أخرى، ﻻسيما وأن المغرب هو بلد التفريخ السياسي؟.

هذه الصفحات، من الكتاب، إذا لم تكن، مذكرات إلا أنها، وبالتأكيد ستكون مرجعية لكل باحث أو مهتم بالشأن السياسي المغربي الحديث، لأنها ليست صفحات مراقب أو شاهد، بل صفحات فاعل ومؤثر، لعب دورا متميزا في مسيرة وطنه وحزبه. (ص 4)

واليازغي رجل شغل الساحة السياسية بالمغرب لفترة طويلة ارتبط اسمه باليسار وبحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي قاده فترة من الزمن بعد عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة وعمر بن جلون وعبد الرحمن اليوسفي، انخرط في العمل السياسي منذ ريعان شبابه، فشارك في مقاومة الاستعمار. تقلد عدّة مناصب حكومية رفيعة. تعرض في مساره السياسي للاعتقال أكثر من مرة، ومنحه الملك محمد السادس وسام العرش من درجة “قائد”. وهو من مواليد يوم 28 سبتمبر/أيلول 1935 في مدينة فاس.

محتويات الكتاب

بداية الحكاية:

كتاب “سيرة وطن مسيرة حزب” بسط فيه اليازغي مساره النضالي ﻷكثر من ستين سنة. وكانت بداية حكاية صفحات الكتاب “… من سنوات طويلة، ليس التفكير بها، إنما تسجيلها، حيث كنت طرحت على الأستاذ محمد اليازغي في ربيع 1997 أثناء تواجدنا في مدينة ورزازات ضرورة أن يكتب مذكراته، دون أن تكون هناك ضرورة نشرها، ووافقني، لكن انشغالاته في مهامه الحزبية، ثم مهامه الوزارية بعد مارس 1998، جعل الفكرة تغييب عن أحاديثنا”. (ص 04)

حرص محمود معروف على كشف المستور واستدراج مستوجبه ليبوح بما خفي، وكانت صعوبة كتابة المذكرات بالمعنى المتعارف عليه، واهتدى لتسجيل مسار الرجل باعتباره “… إنسانا، على شكل حوار صحفي مطول، وهكذا كان، وسجلا ما يقارب عشر ساعات، لكن النتيجة كانت فشلا، لأن جوابه على كل سؤال، كان عن كل شيء، إلا عن شخصه و دوره و موقفه” (ص 03). وأعاد الكرة بعد 2003، “ففي صيف 2009 قررنا أن نعيد التجربة وكانت هذه النتيجة التي أستطيع القول أني لم أنجح على الأقل بالنسبة لي في أن “أحفزه للخروج بشكل كامل أو كبير نسبيا من العام نحو الخاص الذي كان يتدفق منه في خارج التسجيل في لقاءات ثنائية أو عائلية أو مع مجموعة من الأصدقاء، بل أكثر من ذلك كان التدفق أحيانا بعيد إنهائنا للتسجيل الذي كان عدة مرات يتحدث همسا أو يطلب إيقاف التسجيل ليشرح أو يفصل أو يروي. هذه الصفحات ليست كل ما سجل، إذ كثيرا ما تذكرنا أحداثا ووقائع أثناء تفريغ الأشرطة أو التصحيح والمراجعة، فأضفناها “. (ص 4)

مغرب الصراع على الحكم:

إذا كان من خلاصة يمكن استنتاجها من دراسة مسار الفاعلين السياسيين هي الصراع على الحكم، والعمل على إرساء الديمقراطية ودولة حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. ولعل سيرة محمد اليازغي شاهدة على هذا المسار، الذي عرف انشقاقات الأحزاب والانقلاب على الملكية، والتدافع من أجل الوحدة الوطنية واسترجاع موريتانيا والصحراء، ومواجهة الليبرالية والاصطفاف إلى القومية والاشتراكية أثناء الحرب البادرة بين القوى الرأسمالية والاشتراكية، والجمهوريات والملكيات.

عايش اليازغي الاستعمار وانخرط في حزب الاستقلال وواجه فرنسا، وكان فاعلا ومناضلا مع رفاق الدرب، عاش طفولته في حضن النضال، وانخرط مبكرا في العمل السياسي. ومن خلال الحوار يتأكد أن الرجل كان مؤهلا للقيام بأدوار طلائعية في مسار المغرب الحديث وكلف بمهام جسام كاستقبال السلطان محمد بن يوسف من طرف المهدي بن بركة، ومواكبته لعقد مؤتمر حزب الاستقلال وتحديد خطه السياسي الجديد، وقرار الحزب المشاركة في حكومة البكاي دون أن يكون رئيسها استقلاليا. كما انشغل إلى جانب المغاربة باستقلال الجزائر، وسعي بمعية علال الفاسي وآخرين لاسترجاع موريتانيا والصحراء.

آلمه التفاف قوى يمينية حول ولي العهد، وعملت على المحافظة على الواقع السياسي بإرثه الاستعماري، بالرغم من حرصه ورغبة محمد الخامس في توحيد صفوف الوطنيين، ومحاولة عبد الله إبراهيم في الحافظ على التوافق الثاني بين المؤسسة الملكية وحزب الاستقلال. وكان من أهم الأحداث انقسام الحزب على مستوى القيادة، ورغبة المهدي بن بركة في مغادرة السياسة والرجوع للتدريس بالجامعة. وقد تم في تلك المرحلة محاولة حزب استقلال فرض نظيمة الحزب الوحيد، ومواجهة حكومة عبد الله إبراهيم بمعارضة غير معلنة من ولي العهد، ومعلنة من حزب الاستقلال والحركة الشعبية. مما دفع اليازغي للتوجه لباريس قصد إتمام دراسته بعد إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، وهيكلته للحزب بالخارج، واتصاله بقادة الثورة الجزائرية. وقد رفض إلى جانب أعضاء حزبه دستور الستينات الذي صيغت مسودته الأولى من طرف موريس دوفيرجيه الفرنسي.

دخل اليازغي إلى البرلمان بعد الاعتقال، والفوز بالمدن الكبرى الأمر الذي أزعج النظام. كما التقى بتشي غيفارة سنة 1964 بالجزائر، وعايش مأساة اختطاف بن بركة، التي مازال رفاقه يحيون ذكراها ويبحثون عن حقيقة الاختطاف والاغتيال. وتعرض للاعتقال سنة 1970م، كما عايش انقلاب الصخيرات واتهام الحزب بالتورط فيه، واغتيال بن جلون؛ الفعل غير المبرر والعصي على الفهم. وأيد مع الحزب العراق في حربه ضد إيران رغم تعاطفه مع الثوار. وأبرز في الحوار/ المذكرات المسار النضالي للاتحاد الوطني بالمغرب، وأسباب شد الحبل بين النقابة والحزب والحكومة، وتوتر الأوضاع في 20 يونيو 1981 م، ورفض بوعبيد الاستفتاء في الصحراء، وما تبعه من اعتقال المكتب السياسي للحزب، ووقف على نتائج الانتخابات البلدية لسنة 1983 وانعكاساتها السلبية على علاقة الحزب مع السلطة.

وحظيت القضية الفلسطينية باهتمام الرجل فكان من بين المؤسسين للجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني سنة 1986م. وتحدث عن حمل بوعبيد رسالة من الفلسطينيين إلى شمعون بيريز، وعن علاقة الحزب بحزب البعث، وكيف تطور التنسيق بين حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، وحكومة التناوب واستقالة اليوسفي وارتياحه لنتائج انتخابات 1997 واقتناعه بنزاهتها، وكيف كان يتعامل اليوسفي مع الحزب باعتباره وزيرا أول وليس كاتبا عاما، وتفاجأ من حضور البصري مؤتمر الكونفدرالية بدعوة من الأموي. وختم حواره بتجربته كوزير وبصمة اليوسفي وتأمينه للانتقال الديموقراطي.

خاتمة

يشار إلى أن الكتاب صدر عن دار النشر المغربية، وهو عبارة عن حوار مطول أنجزه الصحفي محمود معروف، ويقع في 359 صفحة من القطع المتوسط، ختم بألبوم صور لليازغي. وقد صدر في سياق دستور جديد (دستور 2011)، واعتبر الكتاب شهادة تحمل في طياتها 60 سنة من النضال السياسي المغربي الحديث، ينضاف إلى باقي الكتب والدراسات التي أرخت لفترة تمتد من 1950م إلى 2011م.