مقدمة

من الأمور التي لا يمكن لعقل إنكارها، أن حياة البشرية لا تكاد تنقطع عنها وفيها المستجدات التي لم تطرأ على ما قبلها من الأجيال وفي كل الأمصار، وإذا كان الأمر كذلك فإن الحاجة ماسة لتقديم الأجوبة الممكنة عن الأسئلة المستجدة، ولعل أقوم طريق يوصل إلى أحسن الأجوبة الجامعة المانعة، هو كليات الشريعة الإسلامية، والكتاب الذي بين أيدينا، لصاحبه الدكتور أحمد الريسوني، جهد علمي رصين يتناول موضوع الأسس التشريعية الكبرى، التي إليها يكون الاستناد في معالجة تلك المستجدات والجزئيات التي لا قبل للناس بها فيما مضى من حياتهم.

صدر كتاب كتاب “الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية” لمؤلفه الدكتور أحمد الريسوني، (132 صفحة)، عن مطبعة طوب بريس ـ الرباط سنة 2007م، وصدِّر الكتاب بكلمة افتتاحية للدكتور محمد الروكي، وبمقدمة للدكتور جمال الدين عطية.

أما بخصوص هدف الكتاب فغالبا ما يعلن الكاتب عن هدفه من كتابه في البداية، مثل: أن يكون ذلك في المقدمة،إلا أن الحال في هذا الكتاب يختلف إذ تم الإفصاح عن الهدف في وسطه بعدما عرض ومناقشة مباحث منه، يقول الكاتب: ” لقد كنت متجها إلى تحقيق هدف ضروري واحد هو إبراز ” الكليات الأساسية ” من حيث هي كليات، ومن حيث كونها أساسية في الدين وشريعته، ومن حيث كونها قطعيات محكمات، ومن حيث كونها معالمَ كبرى، هاديةً لكل تفكير إسلامي، ولكل تشريع إسلامي، ولكل سياسة إسلامية، ولكل سلوك إسلامي…” (الكتاب ص 105).

محتويات الكتاب

الفصل الأول: الكليات التشريعية ومكانتها في القرآن والكتب السابقة
  • المبحث الأول: الشريعة والتشريع بين التضييق والتوسيع

وفيه إيماءات من المؤلف، ومنها:

ـ من تعريفات الشريعة: “وضع الأحكام”، و”الأحكام الشرعية (عبادات، معاملات، سلوك فردي واجتماعي…)”، و”القوانين وسن القوانين”.

ـ استعمال الشريعة بمعنى سن القوانين، يعد تضييقا كبيرا لمفهوم الشريعة،” ولا شك أن هذا التضييق وهذا القصر، لا أساس له، ولا تحتمله أصول الشريعة…” (الكتاب ص 16).

ـ مفهوم الشريعة مفهوم أوسع يشمل سن القوانين وغيرها “فإن الصلاة تشريع، والتيمم تشريع… وكذا بلا فرق.” (الكتاب ص 16).

ـ هناك فرق بين التشريع الإسلامي مفهومه ووظيفته، وبين القوانين الوضعية.

ـ التشريع الإسلامي يتميز بصعوبة التمييز فيه ـ خاصة على صعيد القواعد والمقاصد ـ بين ما هو شعبي ورسمي، وبين ما هو تشريعات عامة وأخرى خاصة، وما هو عام، وما هو خاص. والمثال على ذلك العدل فهو مطلق في جميع مجالات حياة الإنسان لا يختص بجانب دون غيره من الجوانب الأخرى.

ـ التشريع حسب المؤلف، يعبر عنه بقوله: ” فالتشريع والتشريعي هو ماله مقتضى عملي إذا صدر من جهة لها حق الإلزام، وهذه الجهة في حالتنا هي الشرع وصاحب الشرع. وكلمة الشرع أساسا هي القرآن والسنة.” (الكتاب ص 19).

ـ يستفاد الشرع من جميع أقوال النبي عليه السلام، وفي هذا السياق أورد المؤلف كلاما لابن تيمية يقول فيه:” والمقصود: أن جميع أقواله يستفاد منها الشرع.” (الكتاب ص 19).

ـ تميز الحياة المعاصرة بكثافة قانونية لا مثيل لها، حيث كثرة التشريعات، والمؤسسات التي تعنى بالتشريع وسن القوانين.

ـ التشريع بمعناه الرسمي لا يحكم إلا نسبة ضئيلة في حياة البشرية. بينما بقية مساحات النشاط الإنساني تبقى محكومة ب: ” مقتضيات وسلطات أخرى: من الدين، ومن الثقافة، ومن العرف…” (الكتاب ص 20).

ـ الإسلام يملأ تشريعات الحياة كلها، ولكن ليس بأحكامه المحددة المحدودة، بل بقواعده الكلية ومبادئه ومقاصده.

ـ القاسم المشترك بين القوانين والأحكام الشرعية المنصوص عليها بأعيانها وأسمائها، هو عدم القدرة على سد الفراغ في الحياة البشرية.

ـ يتحقق تمدد وتوسع نور القرآن وهداه ورحمته في حياة الناس، انطلاقا من القرآن وكلياته.

  • المبحث الثاني: آيات القرآن بين الإحكام والتفصيل

أهم ما جاء في الكتاب في هذا الشأن:

ـ تعريف الكليات: فمن بين معانيها (المحكمات).

ـ يذهب المؤلف ـ بعد عرض بعض الكليات مثل العدل والإحسان المأمور بهما في القرآن الكريم ـ إلى القول بأن : “هذه الكليات، وغيرها كثير، يمكن الاحتكام إلى والاستمداد منها فيما لا نهاية له من القضايا والحوادث والمشاكل التي تجد وتتكاثر في كل يوم وفي كل مكان، مما ليس له حكم خاص وصريح فيه.” ((الكتاب ص 33).

ـ تعريف الجزئيات: فمن معانيها (المفصلات).

  • المبحث الثالث: الكليات المشتركة بين الكتب المنزلة

يذهب المؤلف إلى أن هذه الكليات (الضروريات الخمس) ذات طبيعة كلية وجزئية في الآن نفسه. فبعد ذكره الأحكام التفصيلية المندرجة ضمن الضروريات الخمس، يقول المؤلف “والحقيقة أن مثل هذه الأحكام التفصيلية المشتركة بين الشرائع، هي أحكام جزئية من وجه وهي كليات من وجه آخر، أو من وجوه أخرى.” (الكتاب ص 41)، ويؤكد على هذا المعنى كذلك بقوله:” فهي جزئية إذا نظرنا إلى كونها تصرفا معينا، له حكم فقهي جزئي، هو الوجوب، أو التحريم. وهي كلية، حين ننظر إلى أهميتها وآثارها وتداعياتها…” (الكتاب ص 42).

وبعدها قدم المؤلف نموذجا من هذه الأحكام (الجزئية الكلية) المشتركة بين الكتب والشرائع المنزلة، ومن ذلك:” تسع آيات بينات.”

“وهذه الأحكام كلها موجودة في مواضع عديدة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية….” ((الكتاب ص 46).

وبعد إيراد المؤلف لحديث رسول الله عليه السلام: “اجتنبوا السبع الموبقات….” قال :”وهي ـ كما لا يخفى ـ أحكام أساسية ومباشرة في حفظ الكليات الخمس التي أجمعت على حفظها جميع الشرائع المنزلة.” (الكتاب ص 47).

الفصل الثاني: كليات القرآن ـ تصنيف وبيان ـ
  • المبحث الأول: الكليات العقدية

وخلاصة الكلام حول هذا المبحث جاءت كما يلي ” المقصود بها الأصول الاعتقادية والإيمانية الكبرى، أي مبادئ الشريعة. وتأتي في أول هذه الأصول الإيمان بالله تعالى، ثم الإيمان بالنبوات، ثم الإيمان باليوم الأخر. كما أن هذه الأسس الاعتقادية تمثل المصدر الأول لكل تشريع إسلامي، فإن السلوك الشرعي ينبثق أيضا من العقيدة. ”

  • المبحث الثاني: الكليات المقاصدية

ومجمل ما جاء حولها: “الكليات المقاصدية هي المعاني الأولية والغايات الأساسية الجامعة التي لأجل تحقيقها خلقت الخلائق ووضعت الشرائع، ولأنها هي مقاصد الرب سبحانه وتعالى فلابد أن يكون التصريح بها صادر في القرآن الكريم.”

وفيما يلي أهم الكليات المقاصدية في القرآن الكريم:”

1) ليبلوكم أيكم أحسن عملا: أن يحسن الإنسان وأن يتصرف بما هو أحسن له ولغيره.

2) التعليم والتزكية: العلم النافع والعمل الصالح هما الوصف الجامع لرسالة الأنبياء ومقاصد إرسالهم.

3) جلب المصالح ودرء المفاسد: تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها. فكل ما يتضمن حفظ الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة.

4) ليقوم الناس بالقسط: طابق القرآن الكريم بين القسط والعدل حتى يزيد في وضوح المعنى ويسر إدراكه.” ، وفي هذا السياق أوضح المؤلف الأسباب الداعية إلى القسط مستقلا عن جلب المصالح ودرء المفاسد الذي كان بالإمكان إدراجه ضمنها. وبين وجه الترابط والتداخل بين القسط والعدل بالرغم من كون الأول عربي والآخر معرب.

  • المبحث الثالث: الكليات الخلقية

من أهم الكليات الأخلاقية:”

التقوى: هي مجمع ومنبع لكل الفضائل والأعمال الصالحة وهي حاجز واق من كل الرذائل والمنكرات، إن التقوى هي الرقابة الداخلية والانضباط الداخلي والارتقاء الإرادي ظاهرا وباطنا.

الاستقامة: وهي كل ما خلا من الاعوجاج، فالدين هو الاستقامة في الأمور كلها.

أخلاق الشريعة وشريعة الأخلاق: المتأمل في القرآن في هديه يجد مبدأ الأخلاق في كل تشريع فيه، حتى في العبادات.”

  • المبحث الرابع: الكليات التشريعية

مما ورد به الكتاب في هذا الباب:

ـ “التشريع هو كل ما يقتضي فعلا أو تركا بشكل مباشر أو غير مباشر، فالكليات العقدية لا يظهر مضمونها ومقتضاها التشريعي العملي إلا بنوع من التسلسل والتنزل المنطقي. أما الكليات المقاصدية والخلقية فهي أكثر التصاقا بالتشريع بل هي تشريعات كلية أو أحكام تشريعية هامة.”

ـ الكليات العقدية، والمقاصدية، والخلقية، هي:” كليات تشريعية، ولكن بعضها ألصق من بعض بالتشريع وتجلياته العملية.” ثم بين وجوه التصاق تلك الكليات بالتشريع.

ـ يعبر المؤلف بالأسس التشريعية الكبرى، عن الكليات التشريعية.

ـ من بين أهم الكليات التشريعية:

1- الأصل الإباحة و التسخير،

2- لا دين إلا ما شرعه الله ولا تحريم إلا ما حرمه الله،

3- تحليل الطيبات وتحريم الخبائث،

4- التكليف بحسب الوسع،

5- الوفاء بالعهود والأمانات،

6- التصرف في الأموال منوط بالحق و النفع،

7- وتعاونوا على البر والتقوى.

الفصل الثالث: الكليات التشريعية قضايا أصولية فقهية
  • المبحث الأول: الكليات بين النسخ والتخصيص:

انتهى الريسوني في هذا الصدد إلى أن” القضايا والمبادئ والأحكام الكلية، لا يقع فيها نسخ؛ فهي متكررة مستقرة مستمرة في جميع الشرائع. ومثل في نقاشه بالرد على من يقول بأن قوله تعالى {لا إكراه في الدين} منسوخ، وخلص إلى أن الاستسهال والاسترسال في القول بنسخ كثير من الآيات أو تخصيصها، يشكل ضررًا كبيرًا على الشريعة وأحكامها، وخاصة حين يمتد هذا إلى قواعد الشريعة وكلياتها.”

  • المبحث الثاني: التشريع الإسلامي بين الكليات والجزئيات:

انتقد الريسوني في هذا المبحث الثاني مجموعة من المسائل منها القول بـــــ :” أن المكي ليس فيه أحكام وتشريعات، أو أنها نادرة فيه إن وجدت. ” (الكتاب ص 117)، وكذا “غفلة العديد من العلماء عن الكليات، ليس فقط من جهة حصر آيات الأحكام وإسقاط ما ليس منها مباشرًا في جزئيات مخصوصة، وإنما أيضا في عدم إعطائها حقها في التفسير والتفصيل، بخلاف صنيعهم مع آيات الأحكام في قضايا مباشرة بعينها.”

يمكن اختصار القول في هذا المبحث بأن ما يرمي إليه الريسوني في هذا الباب هو أن: “مسلك الاستدلال بالكليات هو المسلك الذي يغني كل الغناء، وبدون التواء ولا عناء، فإذا نظر الفقيه إلى المسألة من باب الكليات ظهرت له أحكامها ومقتضياتها ومتطلباتها جلية ساطعة قاطعة فلا يجوز ولا يصح الوقوف عند ظواهر الأدلة الجزئية وحرفيتها. فحينما يقع نوع من التعارض بين الدليل الكلي والدليل الجزئي فلابد من اعتبار الدليل الكلي لأنه هو الأصل”.

خاتمة

لقد رسم الكتاب معالم كبرى حول موضوع الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، تأصيلا وتفصيلا. ثم إنه قدم بين يدي الباحثين والدراسين مقدمة أولية في باب الأسس التشريعية الكبرى، الأمر الذي يلقي على المهتمين بهذا الفن من فنون الشريعة مسؤولية بذل الجهد واستفراع الوسعلمزيد بيان مختلف قضايا الكتاب، ومن ذلك ما أشارت إليه إحدى المقدمات السالفة الذكر من وجود الحاجة إلى مواصلة البحث في موضوع ” الاستدلال بالكليات وآلية تطبيقها” ، وكذا يمكن تطوير وتوسيع البحث في مجمل الكليات المرسومة في هذا الكتاب بما يسهم في معالجة كثير من جزئيات الحياة التي تعرض للمكلفين من الأمة أفرادا وجماعات، بغية تحقيق مزيد من بيان صدقية صلاحية الشريعة للزمان والمكان.