توطئة

الكتابة عن الأوطان وأماكن الميلاد ومهوى الأفئدة تقليدٌ عريق في حضارة الإسلام، ولم يكن علماء المغرب وقُضاته وأدباءه وأقطاب التصوف فيه بِدْعاً من نُظرائهم بالأقطار الإسلامية الأخرى، فقد خَلّفوا لنا تراجم عن حياتهم، وفهارس عن مساراتهم وإجازاتهم العلمية، وأخباراً عن بواديهم وحواضرهم التي انتمَواْ إليها بالميلاد أو بالسُّكنى أو بالوظِيف أو بالنّفْي[1] والإبعاد، ومن بينهم الإمام الحافظ، العَلّامة المتبحر، الحجّة المحقَق، شيخ الجماعة[2] محمد بن أحمد بن غازي المكناسي داراً واستقرارا، الفاسي إقباراً، من أعلام المغرب في القرنين التاسع والعاشر الـهجريين، الذي خَصّ بلْدَته مكناس بكتاب عنوانه “الرّوض الهَـتون في أخبار مكناسة الزيتون”، من الحجم الصغير، على مألوف عادة الكتابة لدى الإخباريين المغاربة.

مكناس مَسقط الرأس ومَحلّ الأُنْس

من باب الوفاء والبُـرور بمسقط رأسه ومرْتع صباه وشبابه؛ يُفرِد ابن غازي بلْدته مكناس أو مكناسة الزيتون بتعبير القُدامى بمؤَلَّفٍ استحضرَ فيه جانبا من أخبارها السياسية والاجتماعية والثقافية والعمرانية، مراعيا الاختصار، مستنداً إلى الذاكرة الفردية والرواية الشفهية، والـتجربة الـمُعاشَة والمشاهَدَة، بحيث يُعَدّ “القليل من الـمشاهَدة أرسَخ من الكثير من الخبر”[3] في تقدير المؤرّخ.

لم يَستطرد المؤلِّف في ذكْر الكثير من أخبار مكناس في الماضي، وإنما يتعرّضُ لنُتَف من تاريخ المدينة أيام تَبعيتها لوليلي الرومانية، ولم تكن وقْتذاك منطقة “ممدَّنــة”، بل عبارة عن مجموعة من الدواوير يخترقها نهر فلفل. أسلَمت جميعها زَمن الفتح الإسلامي. وحين انتقلت المدينة إلى يد المرابطين أقاموا فيها حصنا منيعا أسموه تاجدارت وأردفوه بشُقة “لادِّخار الأطعمة”[4] ومسجد، يؤكد الكاتب أنه ظل موجوداً لغاية تأليفه لكتابه.

لم تَنْعم المدينة الإسلامية بفترة هناء ورخاء طويلة؛ إذ سُرعان ما سَقَطت فريسة الحصار الدامي الذي فَرَضه أجناد الموحّدين على منطقة مكناسة، وما رافق ذلك من تقتيل لممثلي السلطة المرابطية، ومَن وتعنيف لأنصارها مدة سبع سنين. ويَنْقُل لنا الكاتب الأخبار التي تواتَرت بشأن ما لَـحِقَ الناس من ضَرر بالغٍ قَبل أن تَؤُول أمور الحكم إلى دولة ابن عبد المؤمن الكومي الذي ألحَق مكناسة بـمُلكه بعد أن فَتح فاس سنة 450 هـ، وكان “نزول الموحدين على مكناسة في القول الصحيح آخِر عام أربعين [وخمسمائة]، وصار الناس عُمّارا في أملاكهم، يُؤخَذ منهم نصف الفواكه الصيفية والخريفية، وثُلُثا غِلّة الزيتون” (الكتاب ص 12).

حاضرةُ الغِراس الوارفة والبركة الـمُنيفة

ومكناسة الزيتون هذه بلدة خصيبة ذات عيون وأنهار، وثمار كثيرة وأشجار، اشتَهرت بزراعة وإنتاج نوع من البرقوق “لا يكاد يوجَد مثله في غيرها من البلاد” (الكتاب ص 02). وتُوفّر غراسُها نوعاً من التفاح يُسمى الطرابلسي، ونوعا آخر يُسمى العودة، وصنفاً من الرمان يقال له القابسي “وهو جليل شديد الحلاوة” (الكتاب ص 04). كذلك كانت طيلة عهد المرابطين ثم الموحدين تَشتهر بإنتاج الورد الذي كانت له كلّ سَنَة “غلّة جليلة” (الكتاب ص 05).

وهذه الغِراس اليانعة نتيجة طبيعية لوفرة ما بمكناسة من عيون وحمامات ونهْر كبير يخترق المدينة، أما الزيتون فهو كثير فيها، لذا انتسبَت إليه فسُمّيت “مكناسة الزيتون”. وحسَب ابن غازي؛ فإنّ تاريخ إقامة مَزارع واسعة للزيتون في مكناسة يَرجع إلى عهد الموحدين، لا سيما زمن والِـيهِم على المنطقة محمد بن عبد الله بن واجاج الذي كانت له عناية خاصة بهذه المسائل الفلاحية والزراعية.

تَمدّنُ مكناسة والمكناسيين زَمن الـمَرينيين

إنّ هذه الحاضرة التي يصفها الوزير الأديب لسان الدين بن الخطيب حين زيارته لها ضمن رحلته الشهيرة إلى المغرب الأقصى؛ في أبيات يتغنى فيها بطِيب هوائها وانْفساح مجالِها واعتدال مِزاج سُكّانها وكَثْرة غراسها وغِلّاتها ويُحَييها بقوله:

حُييتِ يا مكناسة الزيتون *** قد صَح عُذر الناظر الـمفتون

ستشهد فترات ازدهارها العمراني والزراعي والثقافي في عهد الدولة المرينية، بحيث “تَمَـدّنت واكتَسَبت حضارةً، وزِيدَ في جامعها الأكبر زيادة ظاهرة، وجُلِبَ إليها الماء على ستة أميال من عين طَيّبَة الماء”، وأقيمَ بها “حـمّام كبير حفيل مُحكَم جاء في غاية الإتقان” (الكتاب ص 11) ، صُمّمَ وبُنِيَ على يد قَشتاليٍّ أسَلَم واختار الإقامة في مراكش، يُدعى أبا زكريا يحيى المهاجر، ويُلَقّب بابن أخت الفنش (الكتاب ص 12) الذي سبَق وأنْ تولّى قيادة الفرسان لصالح أمراء الموحدين بمدينة مكناس.

وانتَعَشت المدينة بعد سنوات من استقرار أمر المغرب كلّه لبني مَرين، فَبَنى السلطان أبو يوسف المريني بمكناسة قصبة منيعة و”مدرسة الشهود، ويُقال لها مدرسة القاضي” (الكتاب ص 16). وزاد أبو الحسن المريني فيها “مَرافق كثيرة، كزاوية القُرجة وزاوية باب المشاوريين، وغير ذلك من السقايات والقناطير في طُرُقاتها ونحوها. ومن أَجَلّ ذلك؛ المدرسة الجديدة” (الكتاب ص 16) التي فَوّضَ تَشييدها والوقوف على أمرها لقاضيه على مكناس عبد الله بن أبي الغمْر.

وعلى عهد أبي عنانٍ تواصلت العناية بمرافقها الدينية، وبتقريب علمائها وإكرامهم، وتتَبُّعِ سيْر أشغال إصلاح الأبواب التاريخية بها. ويذكُر لنا الكاتبُ أسماء الأبواب التي أدْرَكها قائمة على عهده وهي: باب البراذعيين، باب المشاوريين، باب عيسى، باب القلعة، باب أقورنج، باب دردُورة أو باب الصفا، فضلاً عن دار الدباغ التقليدية.

وخَلّدَ لنا ابن غازي أسامي القبائل والحارات بمكناسة، من بينها: بني زغبوش، بني عيسى، تاورا العليا، الجنان، بني محمد بن أحمد، بني زياد، بني أركاز، بني عبد المنان، بني العريف، وما عرفته هذه القبائل من تمازج العرب بالأمازيغ عبر التاريخ.

التّرجَمة النّفيسة لأعلام مكناسة

لَـم يفُت ابن غازي المكناسي وهو الرجل المنتمي إلى فئة العلماء والإخباريين، والبحّاثة الذي صاحبَ طويلاً نُخبةً من الفقهاء الـمشاركين والـحفّاظ والقُرّاء، وتتلمذ على يد كثير منهم؛ أنْ يجعل لأعلام مكناسة الزيتون نصيباً مفروضا من الاستحضار والإكبار بدَوْرِهم وتَنشيطهم للحياة العلمية والثقافية بالمدينة، مع التركيز على مَن أدْرَكهم من شُيوخه وأساتذته، أو مَن حدّثَه عنهم والِده.

وعلى كثْرَة مَن ذكَر؛ فإنّا مُقتصرون على نماذج منهم هنا، أمثال: أبي الخطاب سهْل بن القاسم بن عبد الله الذي زاول مهنة القضاء في مكناس، ومحمد بن حماد القُرطبي الأصْل نزيل مكناسة، والفقيه أبي عبد الله بن ورياش، والعالم  الكبير أبي موسى عمران الجاناتي، والشاعر الـمُفلِق محمد بن جابر الغسّاني صاحب “نُزهة الناظر” وهي أرجوزة بديعة ساقَ ابن غازي أبياتاً كثيرةً منها هنا في كتابه “الروض الهَـتون..”، والولي الصالح أبي زكرياء الصبّان، والأديب الأريب عبد الرحمن بن ثابت، والشيخ موسى بن الحاج الذي كان “إماما في علم العربية” (الكتاب ص 24) ومُدرّسا لألفية ابن مالك بالجامع الأعظم لمكناس. إضافةً إلى ثناءه المتكرّر على العلّامة محمد بن أبي الفضل بن الصَباغ الحائز “قَصَب السبق في المعقول والمنقول” (الكتاب ص 18)، العالِم المكناسي الوحيد الذي اصطَحبه معه السلطان أبو الحسن المريني في موكبه الرسمي إلى إفريقيةَ/تونس حاليا.

وأيْضا؛ هناك ذكْرٌ للعلّامة إبراهيم بن عبد الكريم الجروز أحْفَظ أهل عصره، وأبو عبد الله القطراني، وأبو العباس الغماري الذي “كان شديد الحفظ للقرآن الكريم (..) وأستاذ الإقراء” (الكتاب ص 23) ، والحاج الشريف أبو البركات الحسني، وعبد الحق بن سعيد الذي يَشْهَد له ابن غازي بأنه كان من أهل المعرفة والفصاحة. والفقيه العدْل أبو علي الحسن بن عثمان بن عطية “من أهل الحساب والقيام على الفرائض والعناية بفروع الفقه”(الكتاب ص 20)، والأديب الإخباري المشارك أبو جعفر أحمد الأوسي، والشيخ الحافظ أبو عبد الله القُوري، وأبو زيد عبد الرحمن النيار مؤقِّت المسجد الأعظم بالمدينة على عهد بني مرين، وأبو المطرّف بن عُمرة من قُضاة الطّور الأول من عمر الدولة المرينية وهو الذي كَتَب بيعة أهل مكناسة. وعبد الله بن موسى بن معطى العبدوسي شيخ الشيوخ من “بيتٍ كبير من بيوت العلم أقام فيهم العلم ورياسته دهرا طويلا حتى في نسائهم” (الكتاب ص 15)، والشيخ أحمد اللحياني الذي أضاف حمَّاما بديعا في المدينة في العهد المريني، وهو العهد الذي تعدّدت فيه السقايات قُرب المساجد.

ومع هذه القائمة التي أوْردَها _ وأسماء أخرى عديدة عَدْلنا عن ذِكْرها – في كتابه؛ فإنه لم يَـفُتْه أن يعتذر للقارئ عن عدم تطرّقه لذكْر باقي علماء الحاضرة المكناسية، قائلا: “ولو تَـتَـبَّـعـنا مَن كان فيها مَن الأعيان والسّادات؛ ما طمِعْنا بالإحاطة بعُشُرِ عَشَرَهْ”(الكتاب ص 18).

ختاما

يحتفظ ابن غازي لمدينته مكناسة بنصيب وافر من الحب والـمَعَزّة، ولمشايخها وساداتها من أقطاب العلم والتصوف وافر التقدير، ويَنقل عن صاحب “ريحانة الكتاب ونُجعَة الـمُنْتاب” نَصًّا يُباهي به مكناسَةَ على نظيراتها من حواضر المغرب، يتمَـثّل مضمونَه ويُبدي إعجابه به ويَجعله خاتمة كتابه، يقول: “مكناسة مَدينة أصيلة، وشُعَبٌ للمحاسن وفَصيلة، فضَّلها الله تعالى ورعاها وأخرج منها ماءها ومَرعاها، فجانِبُها مَريع وخيرها سَريع (..) عَدَل فيها الزمان وانْسَدَل الأمان” (الكتاب ص 30). وقد ظَلّ هذا الوفاء لمسقط الرأس ثابتا في نفْس ابن غازي إلى أن وافته المنية يوم 9 جمادى الأولى 919 هـ بمدينة فاس.

المراجع
[1] انظر: (السوسي) محمد المختار: "معـتَـقَل الصحراء"، الجزء الأول والثاني، ضبط وتعليق وتقديم رضا الله عبد الوافي السوسي، طبعة دون تاريخ. وأيضا: "الإلغيات"، الجزء الثاني، مطبعة النجاح، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1963
[2] (عكلي) مصطفى: "ابن غازي المكناسي"، الرابطة المحمدية للعلماء، تاريخ النشر 02 يناير 2009.
[3] (المقريزي) تقي الدين: "إغاثة الأمة بكشف الغُمة"، دراسة وتحقيق كرم حلمي فرحات، مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى 2007، ص 31.
[4] (ابن غازي) محمد بن أحمد المكناسي: "الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون"، مطبعة الأمنية، الرباط، الطبعة الأولى 1952، ص 8.