مقدمة

جامع الكتبيين (الكتبية) بمدينة مراكش، من أهم الجوامع والمساجد التي شيدت في تاريخ المغرب ومن أرقى المآثر الإسلامية وأعظمها في المنطقة، كما يعتبر من الشواهد المميزة على التقدم والرقي وإتقان البناء الذي أنتجته الدولة الموحدية باعتبارها أكبر امبراطورية عرفها تاريخ المغرب خاصة ومنطقة الغرب الإسلامي بصفة عامة، وهي الدولة التي تميزت من بين ما تميزت به طابع العظمة من جميع النواحي بما فيه تشييد المباني الضخمة والفخمة والراقية، كما أنها كانت من الدول التي لها طابع خاص في كل مناحي الحياة بما في ذلك تشييد المباني، “فقد كانوا يريدون أن تكون هذه الحضارة لا شرقية ولا أندلسية محضة، ولكنها حضارة قائمة بنفسها”[1]. وقد تجلى ذلك الطابع الخاص فيما بقي من آثارهم العمرانية من قصور ومساجد…، وهو ما يظهر على سبيل المثال بالتحف المعمارية الثلاثة: مسجد اشبيلية ومسجد حسان ومسجد الكتبيين (الكتبية).

تبلغ مساحة مسجد الكتبية، وهو قريب من المستطيل في شكله، 5300 متر مربع، ويتضمن 17 صفا، وتزينه إحدى عشرة قبة مصنوعة من خشب العرعار. وتقع الصومعة (المنار) في الركن الشمالي الغربي للمسجد، وترتفع حسب أغلب الروايات بمائة وعشرة أقدام، أي تسعة وستين مترا وخمسين سنتمترا، ويبلغ عرضها، عند القاعدة، إثنا عشر مترا وثمانين سنتمترا. ويصل طول الجامور الذي يحمل التفاحات الثلاث إلى سبعة أمتار وثمانين سنتمتران في حين يبلغ قطر التفاحة الكبرى مترين كاملين.[2]

قصة إسم “الكتبيين”

لما دخل الموحدون العاصمة المرابطية مراكش 541ه/1147م، قام الخليفة عبد المومن بن الكومي ببناء المسجد الجامع، خاصة وأنهم رفضوا الصلاة في المساجد التي بناها المرابطون استجابة لوصية المهدي بن تومرت الذي أمر أتباعه بتطهير المدينة، أي بناء مساجد خاصة بهم وترك مساجد المرابطين[3]، وهو الأمر الذي أشار إليه الشريف الإدريسي عندما قال: “وكان بها (أي مراكش) جامع بناه أميرها يوسف بن تاشفين، فلما كان في هذا الوقت تغلب عليها المصامد، وصار الملك لهم تركوا ذلك الجامع عطلا مغلق الأبواب لا يرون الصلاة فيه، وصنعوا لأنفسهم مسجدا جامعا يصلون فيه”.[4]

ورغم كون مسجد الكتبيين (الكتبية) بني في عهد الخليفة عبد المومن الموحدي، فإن المصادر التاريخية لم تذكره باسمه، أي جامع الكتبيين، الذي اشتهر به فيما بعد، فقد أهمل الإسم حتى من لدن المصادر الموحدية، ولم يبدأ تداول الاسم إلا في فترات لاحقة وخاصة في المصادر التي صنفت في العهد المريني وما بعده.[5] حيث لم يذكر إسم “الكتبيين”، لأول مرة إلا في غضون النصف الثاني من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، حين ذكره ابن عبد الملك تحت إسم “الكتبيين”، ثم تتالى بعد ذلك ذكره بهذا الإسم، عند ابن أبي زرع في بداية القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، وعند ابن فضل الله، وعند الرحالة ابن بطوطة[6].

أما عن سبب تسمية الجامع بالكتبيين فقد أوردت المصادر التاريخية، أن سبب ذلك يرجع إلى وجود دكاكين للكتبيين بجانب المسجد، وهو الأمر الذي أكدته الأبحاث الأثرية، إذ تم اكتشاف حي الدكاكين الموجود مقابل واجهة المسجد الشرقية، الذي كان يمتد على قارعة الطريق؛ تحت سقيفة المسجد؛ أي على جانبي الزقاق المفضي إليه.[7] وهذا الأمر أشار إليه بوضوح الحسن الوزان (ليون الافريقي) قائلا: “كان تحت رواقه (أي المسجد) قديم نحو مائة دكان للكتبيين، لم يبق منها اليوم ولو دكان واحد”.[8]

وقد استمر إطلاق إسم “الكتبيين” على الجامع حتى منتصف القرن التاسع عشر على أكبر تقدير، فتحول إلى “كتبية”، فهيمن إسم “كتبية” على الأذهان منذئذ، ثم أضيف إليها “ال” التعريف، فصارت مسجد أو جامع “الكتبية”، وفيما بعد استأثرت الصومعة بهذا الإسم حتى إذا ذكرت “الكتبية” ينصرف الذهن إلى المنار (الصومعة) دون المسجد.[9]

من أسس جامع الكتبيين؟

تورد المصادر التاريخية أن مسجد الكتبيين شيده الخليفة الموحدي عبد المومن بن علي لما سيطر الموحودن على مدينة مراكش، كما ذكرت تلك المصادر أن الخليفة عبد المومن شيد في حقيقة الأمر مسجدين، وليس مسجدا واحدا، متجاورين ومتصلين، أي في نفس الموضع ويتوسطهما منار عظيم. وهو نفس الخليفة الذي شرع في بناء الصومعة التي أكملها الخليفة يوسف إبنه. وهذا عكس ما هو شائع عند البعض، وعكس ما تتداوله بعض المؤلفات من كون جامع الكتبيين وصومعته بناها الخليفة يعقوب المنصور الموحدي. وهذا يعني أن هناك مسجدين: مسجد الكتبيين الأول؛ تقوضت أركانه واندرس، ومسجد الكتبيين الثاني، وهو الذي لا يزال قائما إلى يوم الناس هذا[10]. فبسبب الطابع الإستعجالي لبناء المسجد الأول شاب المسجد انحراف عن القبلة، الأمر الذي دفع الخليفة عبد المومن سنة 553ه/1158م إلى أن يأمر ببناء مسجد آخر ملاصق له، أي أن الدافع هو تصحيح اتجاه القبلة، وذلك رغم أن أمر تصحيح القبلة لم يتحقق لأن مسجد الكتبيين لا يزال يشوبه انحراف عن القبلة.[11] ويطرح استمرار هذا الإنحراف في المسجد الثاني، سؤال حول الدوافع الحقيقية لبناء مسجد ثاني محادي للمسجد الأول من غير دافع تصحيح اتجاه القبلة، من مثل دوافع ديمغرافية وغيرها من الدوافع.

أما مساهمة الخليفة يعقوب المنصور الموحدي في بناء المسجد، فقد أوردت بعض المصادر خطأ أنه هو من بنى صومعة الجامع، وذلك راجع إلى التشابه الكبير بين المنارات الثلاث في كل من مراكش واشبيلية وحسان بالرباط، لكن الثابت أن يعقوب المنصور الموحد بنى صومعة الصومعة –أي العزري أو الفحل. وأضاف بعض الزخارف.[12]

يتضح إذن أن بناء مسجدي الكتبيين والصومعة قد تم على مراحل[13]:

  • المرحلة الأولى: تعود إلى سنة دخول الموحدين إلى مدينة مراكش سنة 1147م/541ه، حيث شرع الخليفة عبد المومن بن علي الكَومي في بناء مسجد الكتبيين، بعدما تركوا مساجد المرابطين.
  • المرحلة الثانية: تميزت بالشروع في بناء المسجد الثاني ابتداء من سنة 553ه/1158م، وهو المسجد الحالي المشهور بجامع الكتبية.
  • المرحلة الثالثة: الشروع في بناء الصومعة (المنار) في نفس سنة بناء المسجد الثاني، أي سنة 553ه/1158م، أو بعدها بقليل، وهي الصومعة الحالية لمسجد الكتبية، أما صومعة المسجد الأول فقد ظلت منتصبة حتى بداية القرن الثالث عشر الهجري (19م). وقد أتم بناء صومعة المسجد الثاني الخليفة أبو يعقوب يوسف بن عبد المومن، أي أنها صارت قائمة في عهده ولكن بدون صومعة الصومعة – بدون عزري على شاكلة صومعة حسان بالرباط اليوم. أما يعقوب المنصور فهو الذي شيد صومعة الصومعة (فحل المنار) وأضاف أعمال الزخرفة والتبليط حتى أصبحت على ما عليها اليوم.

ورغم كون جامع أو مسجد الكتبيين ومناره قد بني خلال مراحل ثلاثة تاريخية وفي ظل حكم ثلاثة خلفاء، فإن ذلك لم يؤثر على الإنسجام والتناسق في بناءه وبناء صومعته المميزة وذلك لأنه وليد رؤية وفكرة موحدة وتوجه متناسق في البناء لا عوج فيه[14].

المراجع
[1] المنوني محمد، حضارة الموحدين، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1989، ص 13.
[2] معلمة المغرب، عمالك أحمد، ج 20، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2004، ص 6745.
[3] عمالك أحمد، مسجد الكتبيين تأملات في الإسم وتاريخ التأسيس والمؤسس، ضمن: متنوعات محمد حجي، درا الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1998، ص 201.
[4] الإدريسي الشريف، نزهة الشتاق في اختراق الآفاق، ص 234.
[5] عمالك أحمد، مسجد الكتبيين تأملات في الإسم وتاريخ التأسيس والمؤسس، مرجع سابق، ص 202-203.
[6] معلمة المغرب، عمالك أحمد، مرجع سابق،  ص 6743.
[7] عمالك أحمد، مسجد الكتبيين تأملات في الإسم وتاريخ التأسيس والمؤسس، مرجع سابق، ص 203.
[8] الوزان الحسن، وصف افريقيا، ج1، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، الرباط، 1982، ص 102.
[9] عمالك أحمد، مسجد الكتبيين تأملات في الإسم وتاريخ التأسيس والمؤسس، مرجع سابق، ص 203.
[10] معلمة المغرب، عمالك أحمد، مرجع سابق، ص 6744.
[11] معلمة المغرب، عمالك أحمد، مرجع سابق، ص 6744.
[12] عمالك أحمد، مسجد الكتبيين تأملات في الإسم وتاريخ التأسيس والمؤسس، مرجع سابق، ص 211.
[13] عمالك أحمد، مسجد الكتبيين تأملات في الإسم وتاريخ التأسيس والمؤسس، مرجع سابق، ص 211-213
[14] معلمة المغرب، عمالك أحمد، مرجع سابق، ص 6744.