مقدمة

يعتبر اليهود المغاربة مكونا أصيلا من مكونات النسيج الثقافي والإجتماعي والديني للمغرب، وطبع وجودهم تاريخ البلد في مختلف الأوجه الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، وامتزجوا وتفاعلوا مع ساكنته الأمازيغية والعربية. ورغم عمليات الاجتثاث التي تعرضت لها الجماعة اليهودية المغرب خلال القرن العشرين وهجرة أو تهجير أغلبيتهم خارج البلد، فإن البقية الباقية في البلد تمكنت من الحفاظ على وجود ثقافي وديني معتبر. ومن مظاهر ذلك الوجود الرمزي لليهود المغاربة استمرار ثلة من اليهود المغاربة وأبناءهم في العيش ببلدهم، ومشاركتهم في الحياة الاجتماعية والثقافية للبلد، وحفاظهم على عدد من المؤسسات الأساسية والتي أثرت بدرجات متفاوتة ومتباينة عبر تاريخهم الطويل في البلد في مجريات الأحداث التاريخية، وساهموا بحظ غير يسير في إثراء الرصيد الحضاري المتعدد للبلد. ففي إحصائية للربي يعقوب أبنسور وتعود إلى سنة 1728م كان هناك 26 مكانا (الملاحات) في المغرب الذي أقام فيه اليهود[1].

تتباين المعطيات والمعلومات بشأن أعداد اليهود الذين لا زالوا مستقرين بالمغرب. ولا تعرف الإحصائيات الدقيقة حول أعداد الجماعة اليهودية بالمغرب، فتظل بعض المصادر الأجنبية المصدر الأساسي للمعطيات الخاصة بالأعداد التقريبية للطائفة اليهودية المغربية بعد هجرة أغلبيتهم إلى “إسرائيل” أو إلى دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وإلى بعض دول أمركا اللاتينية. وقد بلغ عدد اليهود في المغرب ذروته في النصف الأول من القرن العشرين، وقبل عملية الهجرة الجماعية، بحوالي 240 ألف نسمة (وهو ما يعادل 2.7 في المائة من سكان المغرب آنذاك)[2]. وكانوا ينتشرون على نطاق مجالي وجغرافي واسع يشمل مجموع خريطة المغرب، وكان عددهم يتجاوز عدد يهود الجزائر وتونس مجتمعتين، بل كانوا يشكلون أهم جالية يهودية في العالم العربي برمته[3]. لكن أعدادهم اليوم حسب التقرير العالمي للحريات الدينية[4] تتراوح بين 3000 و4000 نسمة، ويعيش أغلبهم في مدينة الدار البيضاء (2500 نسمة)، وبضع عشرات في مدن: الرباط ومراكش وفاس والصويرة.

أصول اليهود المغاربة؛ من الجذور إلى الفتح الإسلامي

يعود تواجد الجماعات اليهودية في المغرب إلى فترات قديمة، إذ يعتبر اليهود تاريخيا، أول مجموعة غير أمازيغية وفدت على المغرب وما تزال تعيش فيه إلى يومنا هذا[5]. ترجع حسب بعض المصادر التاريخية إلى لجوء عدد كبير من اليهود لشمال إفريقيا عقب هدم الهيكل الأول المنسوب إلى النبي سليمان عليه السلام سنة 586 قبل الميلاد. وتمركز الحضور اليهودي في تلك الفترة من تاريخ المغرب (أطلق الرومان أنذاك إسم موريطانيا على المغرب) في منطقتي وليلي وشالة على وجه التحديد، نظرا للنشاط الإقتصادي القائم هناك على تجارتي الذهب والملح، وقد كان لهم نصيب وافر في ذلك الرواج التجاري. وقد تميز ذلك الحضور بنشاط ديني مكثف خصوصا في منطقتي سوس ودرعة، وهو ما يفسر ما ذكره بعض المؤرخين من إقبال كثيف لأمازيغ المغرب على اعتناق الديانة اليهودية. وقد دفع ذلك الرومان إلى إصدار قرار يتم بموجبه اعتبار الديانة المسيحية هي الديانة الرسمية في موريطانيا (المغرب حاليا). وفي القرن الخامس قبل الميلاد (430 ق.م تقريبا)، وطرد االرومان من المنطقة عاد اليهود المغاربة إلى ممارسة شعائرهم بكل حرية. ولما هاجم البيزنطيون المغرب سنة 533 ق.م عاقبوا اليهود بتهمة التحالف مع الوندال[6].

الدولة الإدريسية واليهود المغاربة

بعد الفتح الإسلامي للمغرب في أواخر القرن السابع الميلادي، وبعد تأسيس الدعائم الأولى لحكم عربي إسلامي بالمغرب مع المولى إدريس الأول (788م-792م) مؤسس الدولة الإدريسية في المغرب، تم تحديد الوضعية الإجتماعية والدينية لليهود القاطنين في الإمارة الإدريسية. وقد استفاد اليهود من إزدهار مدينة فاس بعد تولي إدريس الثاني مقاليد الحكم، بحيث شكلت فاس المحضن الأول لبروز الإرهاصات الأولى للنحو والشعر العبريين على يد الحاخام إسحق الفاسي (المزداد بقلعة بني حماد سنة 1013م) صاحب كتاب “التلمود الصغير”، ويعتبر هذا الكتاب من بين ثلاثة أهم الدعامات الفقهية الساسية في التشريع الديني اليهودي (الهالاخا)، إلى جانب “تثنية التوراة” للفيلسوف موسى بن ميمون، وكذا كتاب “القرارات التشريعية” للحاخام أشير بن يحيال[7].

اليهود المغاربة خلال فترة حكم الأمبراطوريتين المرابطية والموحددية

في العهد المرابطي والموحدي تأزمت حالة اليهود المغاربة. فقد أسس مثلا المرابطون مدينة مراكش سنة 1062م وظلت ممنوعة على اليهود الذين كانوا يسكنون مدينة أغمات (تقع على بعد 30 كلم جنوب شرق مراكش)، وكان مسموحا لهم فقط بقضاء اليوم بها للحصول على أغراضهم التجارية[8]. لكن سرعان ما تحسنت في عهد الدولة المرينية، وإن كانت بعض المصادر التاريخية تشير إلى مقتل السلطان عبد الحق المريني ووزيره الأكبر اليهودي أهارون بطاش سنة 1465م، والتي حاولت ربط هذا الحادث بخرق اليهود لقانون جرى ترسيمه منذ عهد الأدراسة، وهو قانون “أهل الذمة” الذي يمنع اليهود المغاربة من مزاولة وظائف عمومية في سلك الدولة المغربية[9] .

اليهود المغاربة والتحول الكبير في عهدد الدولتين الوطاسية والزيدانية

في عهد الودلة الوطاسية، وخاصة في فترة حكم محمد الشيخ الوطاسي (1472-1505)، سقطت آخر قلاع المسلمين في الأندلس، مما نتج عنه فرار أفواج غفيرة من المسلمين واليهود إلى بلام المغرب، وقد أحسن الحاكم الوطاسي استقبالهم وأكرم ضيافتهم. ومنذ تلك اللحظة ظهرت تسمية اليهود التوشافيم أو البلديين (اليهود الأصليين)، وتسمية اليهود الميكَوراشيم (المهاجرين) القادمين من الأندلس بعد سقوطها. لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ الوجود اليهودي في المغرب.

وفي ظل الدولة السعدية (الزيدانية) برز دور بعض كبار التجار اليهود المغاربة في توطيد العلاقات التجارية الخارجية للمغرب (نموذج عائلة “بالاش” اليهودية). وعموما فاليهود المغاربة يحتفظون بذكرى طيبة جدا عن السعديين، خصوصا المولى عبد الملك الذي دحر البرتغال سنة 1578م وقضى على الملك “سيباستيان” في معركة وادي المخازن (أو معركة الملوك الثلاثة). وقد اشتهر هذا الملك البرتغالي بسعيه إلى فرض الديانة المسيحية الكاثوليكية على المغاربة، مسلمين ويهود.

الدولة العلوية وازدهار اليهودية المغربية

وفي عهد الدولة العلوية تذكر كثير من المصادر التاريخية المكانة المتميزة التي حظي بها اليهود المغاربة. فقد لقب مثلا المولى الرشيد (1664م-1672م) ب”صديق اليهود”. وقد أحاط المولى إسماعيل ديوان حكمه بكثير من اليهود المغاربة، مثل يوسف ميمران وموسى بن عطار. كما ظهر خلال نفس الفترة عدد كبير من الأحبار والحخامات؛ كيهودا بن عطار (1655م-1733م)، ويعقوب بن صور (1673م-1753م)، وموسى طوليداني (1643م-1729م)، وموسى برديغو (ت 1731م)، وحاييم بن عطار (1696م-1743م). وبرز في عهد السلطان أحمد الذهبي (1727م-1728م) إليعازار بن كيكي الذي عينه مبعوثه الخاص إلى هولندا. وتحت حكم السلطان مولاي عبد الله (1729م-1757م) حظي كل من صمويل ليفي بن يولي، وصمويل سومبال بثقة ومكانة لدى السلطان. ويبقى السلطان مولاي اليزيد (1790م-1792م) السلطان العلوي الوحيد الذي نسجت حوله كثير من المصادر التاريخية روايات فيها كثير  من المبالغة فيما يخص سوء معاملته لليهود[10]. فقد احتفظ اليهود بذكرى مريرة عن فترة حكمه القصيرة، وكانوا يسمونه “مزيد” (وتعني في اللغة العربية المسيء عن قصد) نظرا لما كانوا يكنون له من كراهية[11]،  وبعد وفاته عادت الأمور إلى نصابها مع السلاطين الذي جاؤوا بعده. ويبقى وقوف محمد الخامس ضد إجراءات حكومة فيشي في المغرب في حق اليهود المغاربة أهم حدث يمكن تسجيله في التاريخ المعاصر لليهود المغاربة.

المراجع
[1] حاييم الزعفراني، مرجع سابق، ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب: تاريخ ثقافة دين، ترجمة أحمد شحلان وعبد الغني أبو العزم، دار الثقافة، ط1، 1987، الدار البيضاء، ص 27.
[2] بوم عمر، يهود المغرب وحديث الذاكرة، ترجمة خالد الصغير، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة1، 2015، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، ص19.
[3] كنبيب محمد، يهود المغرب 1948-1912، ترجمة إدريس بنسعيد، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1998، ص 15.
[4] تقرير تصدره وزارة الخارجية الأمريكية، أنظر (www.state.gov) و (www.humanrights.gov).
[5] الزعفراني حاييم، ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب: تاريخ ثقافة دين، مرجع سابق، ص 9.
[6] بوفرة عبد الكريم، معلمة المغرب، الجزء 22، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2005، ص 7679.
[7] بوفرة عبد الكريم، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 7679.
[8] حاييم الزعفراني، ألف سنة من حياة اليهود بالمغر: تاريخ ثقافة دين، مرجع سابق، ص  11.
[9] بوفرة عبد الكريم، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 7679.
[10] بوفرة عبد الكريم، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 7680.
[11] حاييم الزعفراني، ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب: تاريخ ثقافة دين، مرجع سابق، ص 15.