توطئة

بعد أن رَصدنا في المقال السابق جهودَ التضامن الشعبي والحزبي المغربي مع فلسطين في محنتها زَمن الانتداب البريطاني وصولاً إلى الاحتلال الصهيوني؛ نتطرق في مقالنا هذا لأدوار ومَهام الدولة المغربية التي لَـم تَكن في منأى عن الصراع العربي البريطاني ثم الفلسطيني – الصهيوني، فقادت مبادراتٍ رائدة في دعْم القضية وخِدْمَتِـها سياسيا وماديا وعسكريا، ووضَعت إمكانياتها اللوجيستية وخبرتها الأمنية والسياسية لصالح الـفلسطينيين وحركة المقاومة التي تمثِّلهم، وكانت _ وما زالت _ العلائق الرسمية المغربية بالأراضي والقضية والفلسطينية متعاضِدة، متواشِجة، مترابِطة أخويا ودينيا ومعنويا وماديا.

أدوار ومواقف رسمية زمن الحماية الأجنبية

خِلال زيارته الشَّهيرة لمدينة طنجة سنة 1947، أكَّدَ السُّلطان محمد الخامس على الانتماء العربي للمغرب، وتضامُنه مع الشُّعوب العربية مِن منطلق الواجب الدِّيني.

وفي السنة التي جَرَت فيها النكبة؛ احتجَّ محمد الخامس “على رُسُوّ باخرة إسرائيلية في ميناء الدار البيضاء، معتبِراً إياها باخرة عَدو، لقد كان الاستعمار الفرنسي بالنسبة له أهون من الصهيونية وقيام إسرائيل”.[1]

ومن تطوان؛ بَعث الخليفة مولاي الحسن بن المهدي برسالة خاصة إلى مفتي الديار الفلسطينية الحاج أمين الحسيني يؤيّده في كفاحه من أجل التحرير، ويُعلن عن الدّعم الكامل لحقّ الفلسطينيين في التّحرر من الانتداب البريطاني.

وحينَ اشتدَّت الحرب في فلسطين بين الجيوش العربية وجيش الاحتلال الإسرائيلي؛ رَفَضت الدولة المغربية أن يُقيم اليهود المغاربة ارتباطاتٍ مع “الدولة العبرية”، وشَدَّد السلطان على أنَّ “كُنْهَ الصِّراع ليس سياسيا، وإنَّما هو حَلقة إضافية في صراع الحق ضدّ الباطل”.[2]

عمل الملك محمد الخامس على اتِّباع سياسة عامة تَحُولُ دُونَ التَّرويج للأفكار الصَّهيونية، “ففي سنة 1952، رَفض التَّرخيص لإعطاء مجموعة من المحاضرات في موضوع “الشَّهيد اليهودي”، واعْتَبَر أنَّ أنشطةً مِن هذا القبيل تُــمثِّل استفزازا لمشاعر المسلمين، ولا يمكن التَّرخيص لأنشطة دعائية”[3].

مظاهر الدّعم والمساندة زَمن الاستقلال

وفي مَطلع الستينات؛ زار محمد الخامس مدينة القدس وأمَر “بتفريش المسجد الأقصى بالزرابي المغربية”، وصلَّى في بيت المقدس، وأقسَم أنْ يكافِح هو وشعبه في سبيل تحرير فلسطين[4]. ويحكي السيد محمد عواد، مدير ديوان محمد الخامس؛ أنّ الملك لـمّا قام بجولته في القدس الشرقية، واطَّلَع من شُرفةٍ إقامةٍ عالية على أزقة ودروب القدس، ورأى الصهاينة وعناصر الشرطة الإسرائيلية تصول وتَجول في الأزقة؛ استَشاطَ غضبا، وقال: “لما لا يُقاوِمونهم؟ فِينْ الزَّرقطوني ديالهم، فين الزرقطوني؟؟”، إشارةً منه إلى المقاوم البَطل محمد الزرقطوني الذي أذاقَ الاستعمار الفرنسي الويلات، وكان قائداً لخلايا العمل الفدائي التي قادت المواجَهة مع الاحتلال من نقطة الصِّفر.

وفي السبعينات، قام الحسن الثاني (تـ 1999) بمنْح الزعيم ياسر عرفات “5000 جَواز سفر مغربي بعدما علِم بتنقُّل وفودٍ رسمية فلسطينية بجوازات سفر مزوّرة”[5]، وزار أيضا مخيَّم اللاجئين الفلسطينيين في أريحا واليرموك وخَطب فيهم قائلا: “إنَّ العدوان الذي وقع على وَطنكم؛ مِن أبشَع النَّكبات وأفظَع الاعتداءات التي يُسجِّلها التاريخ. نُحَـيِّـيكم إخوانَـنا ونُجدِّد تأييدنا وتَضامننا معكم، ونُعلِن لكم أنَّ قضية فلسطين _ التي نُعِدَّها من قضايانا الوطنية _ ستَبقى كما كانت في طَليعة ما نَـهتَمّ به من قضايا العروبة والإسلام”. وحينما شبَّت الحروب بين العرب والإسرائيليين؛ بادرت إدارة الدّولة المغربية إلى إرسال تجريدة عسكرية تَوقّفت بمدينة بنغازي في ليبيا، لأنّ الحرب كانت قد انتهت، وفَرضت على المغاربة ضريبة غير مباشرة لفلسطين (السجائر، قاعات السينما..)[6].

واصَل الملك والدولة المغربية جُهودهما في الدفاع عن فلسطين، ففي العام 1969 وعلى إثْر جريمة محاولة إحراق المسجد الأقصى مِن قِبَل المحتل الصهيوني؛ دعا ملك المغرب إلى عقد قمّة إسلامية بالرِّباط، انعَقَدت بتاريخ الإثنين 9 رجب 1389هـ الموافق لـ 22 شتنبر 1969؛ تُعتَبَر الأولى مِن نوعها في تاريخ الأقطار العربية، كان موضوعها هو فلسطين عموما، والقدس خاصة، و”دَعْم قُدرة الشعب الفلسطيني على الصمود في الأرض الـمحتَلَّة”،[7] رغم الوضع السياسي العَصيب الذي كان عليه المغرب آنذاك فيما عُرِف بحالة الاستثناء (1965 – 1970).

وبتاريخ 24 يوليوز 1970 أَنْشأ المغرب صندوقاً خاصًّا لمساندة الشَّعب الفِلسطيني، وجعَل الملك الحسن الثاني جُزءً من مداخل هذا الصندوق تُجبَى من بَعض السِّلع المغربية، وأوضَح للشَّعب المغربي في خطابٍ له بتاريخ 23 يناير 1970 “أنَّ مَن لا يَستطيع أنْ يَحظى بشَرف الشَّهادة في فلسطين فإنه سيَحْظَى بثواب التبرُّع لصالح شَعبها”، ثمَّ استُحْدِثت لاحقاً، لجنة القُدس (1975)، وترأّسها المغرب في شخص الملك الراحل الحسن الثاني ابتداءً من سنة 1979، وكان من نواتِجها؛ إطلاق وكالة بيت مال القدس الشّريف أواخر القرن المنصرم.

تَوجَّه الحسن الثاني بِنِداءٍ إلى القوات المسلّحة الملكية عبْر خطاب مُتَلْفَز دعاها فيه إلى التطوّع للحرب ضدّ العدوّ الإسرائيلي، فاستجاب الآلاف؛ في حين تمَّ الاكتفاء بتجريدتين عسكريتين قَدَّمتَا صُوراً مُلهِمة من البطولة والفداء والتضحية، وقد كان أكثر مَن فيها من المناطق الناطِقة بالأمازيغية كما ذهب إلى ذلك الدكتور عبد الصمد بلكبير[8]، كما تجاوبَ مع النداء الملكي المجتمع المغربي، الذي سارَع للتبرُّع بأنفس ما يملك ماديا ومعنويا.

وقُبيل انْدلاع المواجهة العربية الإسرائيلية الثالثة؛ عمِل المغاربة على المسَاهمة عن طريق بعض الهيئات الحزبية والنقابية الوطنية على تأسيس تَكتُّل جَبْهوي عربي مُشتَرَك مسانِد للثورة التحررية الفلسطينية، وذلك من بيروت عام 1972.

وخلال القمة التاسعة لمنظّمة الوحدة الإفريقية التي انعقدَت بالرباط سنة 1972؛ لعبِت الدبلوماسية المغربية دورا هاما؛ بحيث حَصلت على دعْم المنظمة الإفريقية رسميا للقضية الفلسطينية، وهكذا أدَّت هذه المكتسبات _ إضافة إلى إرسال قوات من الجيش المغربي إلى الجولان خلال الحرب العربية الإسرائيلية في أكتوبر 1973 _ دوراً مهمّاً على المستوى الداخلي، وزادت مِن سُمعة المغرب في العالم العربي وموقعه المتين في العلاقة بفلسطين.

أيضا؛ ساهمَت المملكة المغربية بفعالية في التّصدي لقرار دولة كندا نقْلَ سفارتها من تل أبيب إلى القدس سنة 1979، واعتبَر الحسن الثاني أنَّ نقْل أيّ سفارة إلى مدينة القدس سيُعدّ اعترافا ضمنيا بأنها عاصمة لدولة “إسرائيل”. وفي سنة 1980؛ هدَّد المغرب بقطع علاقاته مع أيّ دولة تقوم بالاعتراف بالقُدس عاصمة موحَّدة للكيان المحتَل، وتشَبّث بحقّ ممارسة السِّيادة العربية على المدينة.

ولم يَتردّد المغرب في اعتمادِ سفارة لدولة فلسطين المستقِلة منذ سنة 1988، ورفْع العلم الفلسطيني فوق مبنى السفارة في العاصمة الرباط، وتَوالى الاعتراف الدّولي بها بعد ذلك تِباعاً.

سنتين بعد ذلك؛ سينعقِدُ مؤتمر فاس، بعد قرار الكيان الصهيوني ضمَّ القدس نهائيا كعاصمة موحَّدة وأبدية، فجاءت القمة منتقِلة من مرحلة شجْب الاعتداءات الصهيونية إلى مرحلة الدعوة لقيام دولة فلسطين وعاصمتها القُدس، وأصدَرت القمة سَبْع مواقف أو قرارات. فيما جاءت قمة الدار البيضاء لتؤكِّد على أهمية “الالتزام بالدعم المادي والسياسي والإعلامي لمنظمة التحرير الفلسطينية”[9]، فيما دعَّمت القمة الموالية بالمغرب سنة 1989 الانتفاضة الفلسطينية المجيدة التي انطلقت في دجنبر 1987. وأدانت القمّة جرائم الاحتلال، ودَعَت لعَقد مؤتمر دولي للسّلام في الشرق الأوسط، فأَسْنَد العربُ للمغربِ تشكيل لجنة بقيادة الحسن الثاني “للتحرك وإجراء الاتصالات الدولية باسم جامعة الدول العربية”[10].

وبعد أن عَجَزت دولة الكيان على إخماد انتفاضة 1987؛ وبادَرت منظمة فتْح للإعلان عن الدولة الفلسطينية في السنة الـموالية؛ وجّهَ الملك الحسن الثاني يوم 16 نونبر 1988 دعوة للــ”قيادة الفلسطينية، واحتَفَل معهم في وطنهم الثاني المغرب بهذا الإنجاز التاريخي، مبتَهِـجاً برَفع العلم الفلسطيني إلى جانب العلم المغربي”.[11]

وفي أواخر العام 1998 أوفَدت الدولة المغربية شركة مغربية للإشْراف على بناء مطار غزة الدّولي، وتكفّل الحسن الثاني بمستحقّات المهندسين المغاربة وكبار تقنيي المملكة المغربية لـ”جعْل مَطار غزّة فضاءً يشبه المطار الدولي محمد الخامس في ضواحي الدار البيضاء”.[12]

خاتمة

فهذه شذرات وومضات عن جهود الدولة المغربية في شخص ملوكها وجيشها وأجهزتها التنفيذية والتَّشريعية والأمنية في دعم ومساندة الكفاح الفلسطيني منذ عهد الـحَجْر والحماية، وطوال مرحلة الاستقلال والحرية وصولاً إلى سنة 1999، بما وسِعها من أشكال الدعم، وبما وضَعتْه من قُدرات ومقترحات واستشارات تحت تصرُّف القيادة الفلسطينية؛ تَشهد على عُمْق وأصالة ومَتانة الروابط والعلائق السياسية للدولة المغربية مع شقيقتها الفلسطينية طيلة قرْنٍ من الزمان على وجه التّقريب.

المراجع
[1] بلكبير عبد الصمد: "فلسطين؛ قضية وطنية"، مجلة الملتقى، العدد 33، أبريل 2015، ص: 12.
[2] "خُطَب صاحب الجلالة محمد الخامس"، المجلد الأول، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الطبعة الأولى 1990، ص: 305- 306.
[3]   مقال لـ (محمد حاتمي): مرجع سابق، ص: 177.
[4] (المودن) عبد الرحمن و(محمد) عبد الرحمن مغربي: "الذاكرة التاريخية المشتركة؛ المغربية-الفلسطينية"، الجزء 2، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى 2018، ص: 503
[5] "الذاكرة التاريخية المشتركة.."، الجزء 1، ص: 3.
[6] مجلة "الملتقى"، مرجع سابق، ص: 15.
[7] مقال: "اللقاء الإسلامي الأول من أجل القُدس"، مجلة "دعوة الحق"، العدد 215، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط.
[8] مجلة "الملتقى"، مرجع سابق، ص، 16.
[9] "الذاكرة التاريخية المشتَرَكة.."، الجزء 2، مرجع سابق، ص: 519.
[10] "الذاكرة التاريخية المشتَرَكة.."، الجزء 2، مرجع سابق، ص 521.
[11] "الملتقى"، مرجع ساق، ص: 180.
[12] "الذاكرة التاريخية.."، نفسه، ص: 600.