ميلاده، نشأته، والبيئة الحاضنة لنبوغه

جَنُوبَ شَرق مدينة العيون المغربية كان مولِده سنة 1926، نَشَأ في بيتِ والده المقاوِم العالِم الشيخ محمد الأغظف، نائب خَليفة السلطان المغربي على الأقاليم الجنوبية، نَشَّأه على ثقافةِ المقاوَمَةِ وحُبِّ الوطن والتّعلق بشريعة الإسلام، وأَلْزَمه حِفظ القرآن الكريم الذي أَتمَّ قراءتَه وحِفظه في بلدة (تافوردات)، في غُضونِ عَشرِ سنين. ثم طَلَبَ العلم على يد رئيس رابطة علماء شنقيط الشيخ محمد الإمام بن ماء العينين، وأُشْرِبَ من حِياضِ الأدب العربي حتى امتلأ به، فحفِظ كثيرا من الدواوين الشعرية، وتَـمكَّن من النحو والتاريخ، واهتمَّ بسيَر الكبار وتَراجِم الأولياء والصالحين. إنّه المناضل الفذّ، والعالِم الـمتخلِّق الـمتحقِّق، الأستاذ العْـبادلة بن الأغظف، الشخصية الجديرةٌ بوافر التَّعريف وعاطِر التقدير.

انخراطه في العمل الوطني واستكماله لمسار بناء شخصيته

كان نابغا منذ نعومة أظفاره، وجَسوراً منذ شبابه، دائمَ الاتصالِ بأقطاب الجهاد في الجنوب المغربي ومع قادة الحركة الوطنية، لا سيما بعد أنْ أرْسَل به والِده إلى عاصمة المنطقة الخليفية؛ لينفتح ذِهنه على مُجريات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في شمال البلاد، ولِيُعَزِّزَ رصيده من العلاقات مع العلماء والشّرفاء والـمُقاوِمين في تطوان ونواحيها.

سَيكون انتماءه لحزب الاستقلال ونشاطه في صفوفه منذ التَحق سنة 1937 بمدينة تطوان المجاهِدة، التي قضى فيها سنوات عامِرة بالنّشاط الوطني مَعِـية قادة آخرين كالطريس والمكي الناصري وعبد الوهاب بن منصور وعبد الله كنون، وتتلمذَ على أيدي هؤلاء العلماء في المعهد الديني بتطوان، ثم غادَرها سنة 1940.

عَاد مِن الشَّمال متأثِّراً بالفِكر الوطني، ومُشرَئِبّا للعِبِ دَورٍ أكْبَرَ في الصحراء، فتَوَجَّه إلى موريتانيا فور عودته من تطوان، للاتّصال بشيوخ القبائل وتأطير شبابها وفِتيانها، ثمَّ قامَ بزيارة للأستاذ علال الفاسي في منفاه الأول، قبل ترحيله إلى الكونغو. قفَلَ عائداً إلى العيون، لا ليستريح من وعثاء السفر؛ بل لينطلِق في بثِّ العلم ونشر أفكار الحركة الوطنية في صفوف أبناء الجنوب المغربي، فأَشْرَفَ عَلى تأسيس عِدة مكاتِب محلية لحزب الاستقلال في الأقاليم الجنوبية، وصارَ مرجِعاً تنظيميا بارزاً للحركة الوطنية المغربية بالجنوب، وقائدا حِزبيا يجمع بين الفكر والممارسة. وَاجَه ضغوط الاستعمار الإسباني، وناضَل مَعية آل ماء العينين ضدّ الاحتلال واختراقاته الـقيمية والفكرية، وأضاليله عن لا مغربية الصحراء، فكان أنْ نال قِسطه من التّضييق.

ورغم صعوبة الوضع في ظِلّ واقع الاحتلال الإسباني؛ إلّا أنَّ الرّجل أَبَـى أَنْ يَـتَـنَازَل عن حقّ بلاده في الحرية والاستقلال وحقّ أبناء الشّعب في التعليم والتثقيف. فناضَل عن مغربية الصحراء وعن استكمال تحريرها وإرجاعها لحظيرة الوطن، وكانَ مِن أبْرَزِ القادة الصّحراويين الذي حَضَر أَهَمَّ مؤتمر تاريخي في المنطقة؛ مؤتمر “أُمّ الشّكَّاك” سنة 1956 الذي انْتُدِبَ في ختامِ أشغاله ضِمْنَ تَشكيلةِ وفْدِ الأعيان لملاقاة السّلطان محمد الخامس في الرباط وتأكيد بَيعة قبائل الصّحراء له. فانتقل إلى الرباط، عابِراً الحدود من العيون إلى أكادير. وفي العاصمة؛ كانت له على هامش لقيا الملك؛ جلسة خاصة مع الزعيمين علال الفاسي والمهدي بن بركة، وبُـعَـيْد عيد الفطر؛ التَـقى الوفد الصحراوي رئيسَ الحكومة امبارك البكّاي.

تشبّثه بقيم الوحدة وبالثوابت الجامعة للوطن

عُرِف السيد العبادلة بالوطنية الصادقة، وحبّ قيمة الوحدة، وحبّ الإسلام، وحبّ بني قومه، واسْتِرْخاصُهُ كلَّ غالٍ ونفيس في الدفاع عن مغربية الصحراء، وعن تلاميذ وطَلبة وساكنة المناطِق الصحراوية، وَصَفه الأستاذ محمد عيناق بــــ”المغربي الـمَالِكي الـوحْدوي”. التَقت في شخصيته رحمه الله خِصلتان شَغَلتا بالَه وطبعتا مساره: نبذهُ النَّـعَرَات القَبَلِية والمشاحَنات العوائلية والرؤى الضيقة، وانحيازه للوحدة، وتثقيفه الناشئة الصحراوية، ومساعيه الحميدة لدَمْجِها في الجسد المغربي الواحد.

ويَتجلّى ذلكَ في مَشاهِد عديدة من حياته، أذكُر منها على وجه الـتقريب مِثالين أو مَشْهَدين؛ أَحَدُهما: مساهمتُه المباشِرة في تدبير وإنجاح المؤتمر الهام الذي تَرَأَّسَهُ ولي العهد آنذاك الحسن الثاني، والمعروف بمؤتمر بوخْشـيبة سنة 1958، ودوره البارِز في رأب الصّدع وتقريب وجهات النّظر بين قادة جيش تحرير الجنوب وأعضائه غَداة الإعلان عن حَلّ جيش التحرير وإلحاق أعضاءه بالقوات المسلّحة الـملكية. وذَكَر قَيْدوم الـمقاومين المغاربة محمد بن سعيد آيت يدّر في كتابه صفحاتٌ مِن مَلْحَمَة جيش التحرير بالجنوب المغربي[1] أنَّ الـمؤتَمر الذي انعقد في الرباط يوم فاتح مارس 1959 لِتَدَارُسِ الوضع في الصّحراء وتَطَوُّر السياسة التحريرية في المغرب العربي؛ تحت الرئاسة الفعلية للأمير الحسن الثاني وقتئذٍ؛ قد اختار الـمؤتمِرون الأستاذ العبادلة الأغظف نائباً لرئيس المؤتَمر، لمكانته وسابِقته النِّضالية وحنكته السياسية ونَزعته الـوحدوية.

ثانيهما: سَعْيُه الـمتواصِل مُذْ عادَ مِن الرباط حامِلاً ظَهيراً سُلطانيا يَقضي بتعيينه مُشرفا تَربويا على كل التعليم الـحُرّ في الصحراء؛ فبادَر بنشاطٍ وهِمّةٍ بإنشاء “مدرسة محمد الخامس الحرة” في مدينة العيون، وأشرَف على مئات التلاميذ، ودَعَا الـمعلِّمين وشيوخ القبائل إلى التعاون على تعليم الأطفال الصحراويين..، وبقِيَ يُواكِب مَسارَهم التّعليمي، ويَنْقُلُ نتائِجَ الناجحين شخصيا إلى وزارة التربية الوطنية في الرباط. ولَـمّا انتشَر هذا النوع من التدريس والمدارس في الجنوب؛ تخوَّف الاستعمار الإسباني مِن تمدُّد الوعي والثقافة والتعليم، الذي تُتيحه المدارس الحرة على غرار ما كانت تَعْرِفه منطقة الحماية الفرنسية؛ فأَوْقَفَ جهود الشيخ العبادلة، وضَغَط بكل جبروته لحرمان التلاميذ من التّـمَدْرُس. إلّا أنَّ المقاوِم الغيور العبادلة أَصَرّ على استِكمال تعليم تلامذة الصحراء، وقامَ بِـرَبْط الاتصالات والتنسيق مع قادة الحركة الوطنية عبر ربوع التراب الوطني، بشأنِ إيجاد حَلِّ لتعليم التلاميذ، فأثْمَرَ هذا الجهد تعاوُناً طيبا محموداً بين الشمال والجنوب المغربي، فعمِل السيد العبادلة مَـعِية أخيه لاراباس ماء العينين ووالِدهما الوَلِيّ المجاهد محمد الأغضف ماء العينين على تَوزيعِ التلاميذ على مجموعة من المدارس، نذكر منها: “ثانوية عبد الكريم الخطابي” في الرباط، و”ثانوية جابر بن حيان” في الدار البيضاء، و”ثانوية مولاي إدريس الأول” في مراكش، و”مَعهد محمد الخامس” في تارودانت.

هكذا عاش الرجل مُعبِّئا للعمل الوطني الوحدوي بكل ما أُوتِي من قوة، في ميدان المقاومة، والسياسة، والتعليم، في نَخوة ومروءةٍ مغربية صحراوية أثارَت إعجاب مُجايِليه، ومَن قَرئوا عنه وسِمعوا سيرته من أفواه الرجال لاحِقاً.

ارتباطه بالقانون ورسوخ ثقافته الحقوقية

مَرحلةٌ مهمة أخرى مِن حياة الشيخ العبادلة بعد استقلال المغرب، ستَظهَر فيها أماراتُ نُبوغه، وأصالةُ أخلاقه، وشغفه الذي لا يَـخبُو إلى العلم والتزوّد بالمعارِف، ذلكَ أنّه انتقل إلى جامعة محمد الخامس بالرباط بعد تأسيسها، لدراسة الحقوق، فكانَ أَوَّل مَن حَصَل على شهادة الإجازة في الحقوق من أبناء ونخبة الصحراء المغربية. التَحَق بوظيفة رسمية في وزارة الداخلية، وسُرعان ما غادرها، لِيَدْخُل تجربة مُزاولة مهنة الـمُحاماة سنينَ طويلة.

حِسُّه الحقوقي دفاعا عن البلاد وترابها كما رجالها وأبنائها؛ وَظَّـفَهُ الرجل توظيفاً نبيلاً، ولم يَغِب يوما، فقد كان الشخصَ الوحيد الذي طَلب حكومَةَ الأستاذ أحمد عُصمان الإفراجَ عن جميع المعتقلين الصّحراويين، ومِن ضِمْنِهم أعضاء وقادة جيش تحرير الجنوب. كما تَقَدَّمَ بطلبٍ إلى عضو ديوان الملك الراحل الأستاذ أحمد بن سودة لإطلاق سراح الطلبة المعتقَلين سنة 1973. ولم يقِف مَنْزَعُه الـحقوقي والقانوني عند هذا الحدّ؛ بل نَافَر به عن قضية الصَّحراء في محطات سياسية وحزبية ودبلوماسية وحقوقية عَديدة.

استَقَر رَدْحاً من الزمن في العاصمة الرّباط بَدْءً من سنة 1959، وكان منزله مفتوحاً للتلاميذ والطلبة والمثقَّفين ورجالات العلم من أهل الصحراء، أَشْبَهَ بخيرية نشِطَة. كما واصل جهوده لتوفير الـمِنَح للتلاميذ والطلبة الصّحراويين، وشهِدَ له هؤلاءِ ومَن عايَشوه وَزَارُوهُ ونَشِطوا إلى جانبه في كُلٍّ من العيون والرباط وتطوان؛ بـأنَّه كان سَمْحاً كريماً خَلوقاً طَيِّب الـمَعْشَر، ولا يَغضب إلّا إذا سمعَ أو تناهى إليه كلامٌ لا يخدم الوحدة المغربية، كثيرَ الإنفاقِ سَخِيا بماله، وعاشقاً للشِّعر العربي والشِّعر الحَسّاني، ويُنشِدُ أبياتاً في بعض الـمناسَبات، مواكِباً لمُستجدات الحياة السياسية بالمغرب، وَفِــيّا لأصحابه في الـمقاوَمة وجيش التَّحرير، يَفْدِيهم وبِلادَه بمالِه ونفسه. وقد جَمع هذه الأوصاف الشَّاعر محمد الإمام سِيداتي في أبياتٍ مَدَحه فيها قائلاً:

يُديرُ الأمْرَ في العَمل السِّياسي

بحُــسِنِ الرَّأي والنَّـــــــــظَرِ البعيـــــــــدِ

يُوظِّفُ في السياسةِ كُـلَّ فــــــــــــــنٍّ

لتَرْسيخِ الهوية مِـن جَـــــــــديــــــــــــــــدِ

فَيَرْفَع مَعــنوياتٍ تَــــــــــــــلاشَــــــــــــتْ

لـِجِيلِ العَـــصْــــرِ بالعَـــزْمِ الوَطـيـدِ

وأَفْــنى عُــــمْـــــــرَهُ يَـــبْـــنـِي رجـــــــــــــالاً

بإحْـــساسِ المواطَــــــنَــةِ الشَّـــــديـــدِ

يُساعِــــدُ صـــــادِقاً طُــلّابَ عِلْـــمٍ

يُؤَطِّـــرُهُــم بِعَـــقْلِــــــــية الرَّشــيـــــــــــــــدِ

ترافُعه الدبلوماسي عن مغربية الصحراء

كان للأستاذ العبادلة دور دبلوماسي- تَرافُعي مُفيد للقضية الوطنية حينَ شارك في دورة الأمم المتّحدة فيما بين شتنبر – دجنبر من العام 1966، عضوا ضِمن الوفدِ الـمُبتَعَثِ من قِبَلِ وزارة الدولة الـمُكلَّفة بموريتانيا والصّحراء _ التي كان يرأسها آنذاك الأمير الحسن بن إدريس العلوي _ ، إذ آتَت مداخلاته أمام اللجنة الرابعة المكلّفة بتصفية الاستعمار في الأمم المتحدة أُكْلَها، وسَرَّعَت بإرجاع سيدي إفني إلى السيادة المغربية[2]. كما وَظَّف مخزونه من إتقان اللغة الإسبانية، مع ما وهبه الله من فصاحة اللسان العربي، وصِدْق اللهجة؛ في الدفاع عن مغربية الصحراء، ومحاوَرة الاحتلال الإسباني وممثِّلي الدّول في هيئة الأمم المتحدة، وفي تأطير الـمواطِنين على معرفة الجوانب التاريخية والشرعية والقانونية للصحراء المغربية، وتَوَّج هذا الجهد الحقوقي والعلمي والنضالي؛ بالإسهام في التعبئة والتحضير للمسيرة الـخضراء الـمُظَفَّرة سنة 1975، التي شاركَ فيها مُبتَهِجا بتحقيق بعضِ أحلامه وآماله في مغرب وحدوي مُستقِل من سبتة إلى الكْويرة.

وفاته ونَعيُه

وبعد رحلةٍ حياتية نافعة للوطن والناس، أبى القَدَر إلّا أنْ يَختاره إلى جوار الرحمن، في العقد الخامس من عمره. وكانت وفاته يوم الثلاثاء 26 أبريل 1976 إثر حادثة سير تَعَرَّضَ لها في الطريق إلى مدينة تارودانت، بَعْدَ فَراغِه مِن حضور المؤتمر الأوّل للشّبيبة الصحراوية الذي انعقد بمدينة طنجة.

وصفه الزّعيم _ قيدَ حياته _ علال الفاسي بــ”الأخ الأجَلّ الأبَرّ، الأمثَل الكامِل، الأمجد الشَّريف ذو الحَسَب الـمُنيف”، ونَعاه أخوه ماء العينين ببيتين:

فَيرحَـــــمكَ الإلـــــه عـلى فِــــــــــعَـــــــالٍ

أَتَاها شخصُكَ الأقْسى رَحـيلُــــهْ

وَعَظّمَ أَجْرَنا فيكَ امْــــــتِــــثَــــــــــــــــــــالًا

وأَصْلَح فَـــــرْعَــــكَ الأَسْــنَـــا جَــمِيلُهْ

فإلى الله في الخالدين الشيخ العبادلة بن الشيخ الأغضف بن الشيخ ماء العينين.

المراجع
[1] (آيت يدر) محمد بن سعيد: "صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي"، منشورات المواطنة، الطبعة الأولى 2001.
[2]"وقائع الحفل التكريمي للمجاهد المرحوم الشيخ العبادلة بن الشيخ محمد الأغضف بن الشيخ ماء العينين"، أعمال ندوة نظمت بالرباط 2003، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التّحرير.