إذا علمنا أن اليهود المغاربة ينقسمون إلى مجموعتين كبيرتين بناء على أصولهم؛ وهما اليهود الذين وجدوا بالمغرب قبل الفتح الإسلامي، وهم اليهود “الطوشابيم” أو البلديين، وهم اليهود المحليين، أما المجموعة الثانية فهم اليهود “اليغوراشيم”؛ وهم اليهود الذين طردوا من الجزيرة الإيبيرية في أواخر القرن 15م، فإن التعليم الديني لعب دورا أساسيا في اندماج المجموعتين[1]. كما أن المدارس التقليدية اليهودية في المغرب توارثت التقاليد التعليمية اليهودية، كما نص عليها الكتاب المقدس والتلمود. فقد كانت التربية عند اليهود المغاربة كغيرهم في مناطق أخرى من العالم تعني في أغلب الحالات تكيف الفرد اجتماعيا، وإدماجه في الجماعة، فالطفل يتربى في المجتمع اليهودي المغربي بالمعاشرة و المثال والأوامر والنواهي[2].

مؤسسات التعليم اليهودي التقليدي في المغرب

  • “آصلا” أو “الحِدِر”:

وقد أطلق يهود المغرب لفظة “آصلا” على مكان تعليم أطفالهم، لأن أصل التعليم كان يتم بالبيعة، وهذه الأخيرة تسمى عندهم “أصلا” أي مكان الصلاة، وظل هذا الاسم يطلق على التعليم سواء كان بالبيعة أو في دكان أو غرفة. أما كلمة “حدر” فمعناها بالعبرية الغرفة، فهي من أصل أشكنازي، وهي المكان الذي أطلقه يهود أوروبا الشرقية على مكان تعليم أطفالهم ثم انتشرت إلى مناطق أخرى[3]. وفي “الآصلا” يتلقى الأطفال اليهود أسسَ الديانة اليهودية وتعاليمها. كما يقوم بتعليمهم كيفيّة القيام بالعبادة على أحسن وجه، والتقيد بما تفرضه الأوامر والنواهي التوراتية.

ويعاني “الحدر” من العديد من المشاكل كالفوضى والاكتظاظ، مما يربك سير الدراسة فيه، فهذا الفضاء التعليمي ليس إلا غرفة ضيقة، لا تدخلها الشمس إلا لماما ويكتظ بداخلها الأطفال في جو مختنق، حيث أن عددهم قد يصل أحيانا من مائة إلى مائة وخمسين طفلا في بعض المدن الكبيرة[4]. إضافة إلى ما تعانيه من غياب أية سياسة تعليمية واضحة. ويكون غالبية المتعلمين من الذكور، كما لا تتوفر فيه الشروط الأساسية لنجاح التعلم؛ حيث يجلس الأطفال على الحصير، وتتم الدراسة دون انقطاع، فضلاً عن غياب فترات الاستراحة، وغالبية هذا التعليم شفوي، يركّز على الترديد والحفظ. وتقع تكاليف تدريس الأطفال في “الحدر” على عاتق الآباء أو الجماعة عند الضرورة. أما وضعية المعلم فلم تكن تحظى بأي احترام يذكر، فهي مهنة البؤس، فلم يكن يستفيد من أي وضع قانوني بل يعيش بشكل دائم في وضعية هشاشة اجتماعية واقتصادية تضطره إلى القيام بأشغال هامشية أخرى[5].

  • “تَلْمُود تُوراَة”

وهي الترجمة الحرفية لعبارة: “دراسة الشريعة”، وهي بناء عام تسهر عليه الجماعة اليهودية، يضم مجموعة من الغرف، يسير كل غرفة معلم يتقاضى أجرته من الجماعة (الجلية) التي تجمعها من خلال التبرعات والأوقاف، تلاميذ هذه المؤسسة هم عادة من الأوساط الفقيرة ومن الأيتام[6]. وتتميز هذه المدارس بتنظيم أفضل من “الحدر”، وتقام دائمًا إلى جوار المعابد اليهودية، هدفها تطوير التعليم الديني، حيث يتم تصنيف الأطفال حسب أعمارهم وقدراتهم العقلية مع تخصيص معلّم لكل صف دراسي. ويختلف هذا الصنف من المدارس عن “الحدر”، في كونها ليست ملكًا شخصيًّا لأحد، وخضوعها لإدارة القائمين بالتعليم فيه، والانضباط للمناهج التعليمية عبر إدارة مركزية، وقبول الأطفال وفق معايير عمرية وذهنية وعقلية، وليست بصورة عشوائية كحال “الحدر”. وقد استحدثت هذه المدراس خلال القرن العشرين لتحل محل المؤسسات العتيقة آصلا (الحدر) التي كانت تعتمد أساسا على الحفظ والذاكرة. وأدخلت بعض المواد بالفرنسية في برامج هذه المدارس التي أصبحت تشكل نظاما تعليميا وسطا بين تعليم الرابطة الإسرائيلية العالمية-وهو تعليم فرنسي محض- وبين نظام الصلوات الديني المحض. وصارت بعض هذه المدراس يسمى في بعض المدن إم هبانيم بمعنى أم الأطفال. كما كانت تحظى بعطف سلطات الحماية وصار بعضها يسمى مدارس الرابطة الإسرائيلية[7].

ويلج الأولاد إلى المؤسستين في سن ما بين الثالثة والسادسة، وتستمر الدراسة إلى حدود سن الرشد الديني (بار مصواه)، المحدد مبدئيا في الثالثة عشر. ويهدف التعليم على العموم في المؤسستين إلى تعليم الطفل الحروف كتابة وقراءة، والحركات ثم حفظ نصوص التوراة والصلوات المتعددة، فقراءة التوراة فهما وشرحا وترجمته من العبرية إلى الدارجة، وكذا قراءة التفاسير التوراتية. وقد استعمل هذا الاسمان فيما بعد دون تفرقة، خصوصا بعد الحماية، حيث أصبحت مؤسسة التعليم الديني عصرية ومنافسة لمدارس الإتحاد الإسرائيلي[8].

  • “يشفاه” أو المدراس التلمودية

وهو نوع من التعليم العالي، وفيه تعمق دراسات التلمود والتوراة، وتقرأ الكتابات الأخرى، مثل المدرشيم والزهر والتفاسير المتعددة، ويؤمه  الأشخاص الذين يريدون أن يكرسوا حياتهم للدرس والنظر ، ولم تكن الدراسة في “اليشفاه” محددة بسن معين أو بعدد من السنين[9]. وتتجلى مهمة “اليشفاه” في إعداد حاخامات وأحبار مؤهّلين للقيام بمهامّهم. إلاّ أنّه لم يكن بمقدور “اليشفاه”، الارتقاء بمستوى التعليم اليهودي والمستوى الثقافي والفكري لأبناء اليهود، لأنّها كانت ذات مستوى محدود ويعتمد تعليمها على العلوم الدينية، وعلى مفاهيم تربوية تخص “المدرسة التلقينية”، حيث المبالغة في الاعتماد على الذاكرة من خلال التركيز على التعليم الشفوي، وحيث من النادر أن تجد سبورة، لغرض توضيح الدروس عليها، وفي بعض الأحيان يقوم المعلم بكتابة حروف أو كلمات أو جمل قصيرة في اللوح الذي يحمله الأطفال، ويطلب منهم إعادة كتابته عدة مرات، ليقوم بتدقيقها مع اعتماد الإكراه والعقاب البدني. ويكون الأستاذ ربيا معروفا بعلمه وأخلاقه وفضله، ويتميز  وضعه المادي بمستوى أحسن بكثير مما عليه معلم الحدر، وأجرته أعلى. ويسمح له عمله بممارسة وظائف عدة؛ كالمفسر (درشان)، وناظم (بيطان)، والسوفر (نساخ)، كما يتولى الذبح الشرعي للحيوانات والدواجن، ومهمة الختان، وكلها مهن تدر عليه عليه مزيدا من المداخيل[10].

ورغم كون التعليم الديني التقليدي اليهودي بالمغرب كان إجباريا حتى سن البلوغ، فإن أبناء الأسر الموسرة هم يتمكنون من ضمان استمرار أبناءهم فيه، ورغم أن هذا التعليم كان عاما تقريبا فإن التلميذ ما إن يبلغ بداية العقد الثاني من عمره حتى يغادر الفصل الدراسي ليلتحق بالأعمال المهنية التي كان يشتغل فيها أبوه. كما أن الغاية من هذا النوع التعليم تنحصر في إعداد الفرد ليقوم بواجباته الدينية لنفسه أو خدمة أبناء جلدته، فقد “كانت غاية التعليم والدرس البيعة وتقوم بها البيعة من أجل البيعة”[11].

نصيب الفتاة اليهودية من التعليم

بما أن البنت غير ملزمة بالمشاركة في القداس، وهو الموضوع الأساسي في التعليم، فهي معفاة من تعلم التوراة والتلمود اليهوديين. وتتم تربيتها في الوسط العائلي، إلى غاية الزواج المبكر، بين العشرة والثانية عشر من عمرها، ويتم ذلك من خلال العلاقات والتواصل مع النساء الأخريات. فالفتاة في ظل هذه الظروف تنشأ دون أن تعرف القراءة والكتابة، إلا في حالات ناذرة، حيث يبقى دورها منحصرا في السهر على تدبير شؤون البت والاعتناء به، والعمل بد من جل صيانة مختلف العادات والتقاليد الدينية داخل البيت اليهودي. مع لإشارة إلى أن ذلك لم يمنعها من المشاركة بفعالية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع المغربي بصفة عامة، من خلال الأعمال والمهن التي تزاولها[12].

المراجع
[1] شحلان أحمد، محاولة إصلاح التعليم اليهودي في المغرب في القرن 19 ودور مدارس الإتحاد الإسرائيلي في أوضاع ما قبل الحماية، ص208، في: الإصلاح والمجتمع المغربي في القرن 19، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 7، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1986.[2] الزعفراني حاييم، ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب: تاريخ، ثقافة، دين، ترجمة أحمد شحلان وعبد الغني أبو العزم، دار الثقافة، ط1، 1987، الدار البيضاء، ص 59.
[3] الزعفراني حاييم، مرجع سابق، ص 59.
[4] الزعفراني حاييم، مرجع سابق، ص 62.
[5] الزعفراني حاييم، مرجع سابق، ص 63.
[6] شحلان أحمد، مرجع سابق، ص208.
[7] معلمة المغرب، سيمون ليفي، مادة تلمود توراة، الجزء 8، الجمعية المغربية للتأليف والنشر والترجمة، 1989، ص 2529.
[8] شحلان أحمد، مرجع سابق، ص208.
[9] شحلان أحمد، مرجع سابق، ص209.
[10] الزعفراني حاييم، مرجع سابق، ص 68.
[11] شحلان أحمد، مرجع سابق، ص209.
[12] الزعفراني حاييم، مرجع ابق، ص 71.