بين يدي التقديم

عرف المغرب فيما بين الحربين العالميتين (حالة استثناء) شكلت طفرة في الحياة الثقافية والفكرية، فظهرت طبقة من المثقفين حازوا حظا معتبرا من الوعي الثقافي والسياسي والوطني، مكّنهم من الاشتغال على بلورة مشاريع إصلاحية متعددة الأبعاد، لامست شؤون التربية والتعليم والأسرة والمرأة ونظام الحكم…

ومن أبرز الأسماء خلال هذه الفترة العلامة الفقيه الحجوي التعالبي الفاسي، الذي شكل تجليا متميزا للمثقف الحامل لمشروع إصلاحي، والذي اشتغل على مدى أكثر من نصف قرن، لم يكفّ خلالها عن التأليف والخطابة والمحاضرة.

صاحب الكتاب

محمد الحجوي الثعالبي الفاسي (1874م- 1956م) العلامة، الفقيه، السفير، الوزير، نشأ في بيت علم وصلاح، وترعرع في حضن جدته الفقيهة التي قال في حقها: ” أول مدرسة ثقفت عواطفي، ونفثت في أفكاري روح الدين والفضيلة، فلم أشعر إلا وأنا عاشق مغرم بالجد والنشاط، تارك لسفاسف الصبيان، متعود على حفظ الوقت”تلقى الفقيه الحجوي تعليمه العالي بجامع القرويين، وأخذ عن كبار أساتذته وقتئذ، وما أن استكمل تحصيله حتى شرع في إلقاء الدروس بنفس الجامع، فذاع صيته، وشاع في الناس ذكره. عاش الحجوي جريئا في الصدع بآرائه والتعبير عن أفكاره، محاربا شرسا للتقليد، يدعو في حلّه وترحاله إلى تحديث الدولة والمجتمع، على وعي تام بمسؤوليته الثقافية والاجتماعية، وفي هذا الشأن راسل السلطان المولى عبد العزيز، ثم راسل السلطان المولى عبد الحفيظ في شأن محاربة الأمية وتعميم التعليم، وتنظيم وتحديث هياكله ومؤسساته، سعيا للخروج بالبلاد من ربقة التخلف، واللحاق بركب الدول المتقدمة. فلما عيّن نائبا في الصدارة العظمى للعلوم والمعارف، شرع في تنزيل مشروعه الإصلاحي، وبدأ بإصلاح وتنظيم جامعة القرويين، فتدخلت سلطات الحماية وأقيل من منصبه، فلما أعيد تكليفه للمرّة الثانية، بذل جهده، وأفرغ وسعه لتنزيل مشاريعه الإصلاحية في هذا القطاع الحيوي.

ترك الحجوي آثاراً علمية معتبرة ناهزت المائة، بين كتاب، ورسالة، ومحاضرة، ومقالة طبع منها الكثير، نذكر منها:- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي – ثلاث رسائل في الدين – المحاضرة الرباطية في إصلاح تعليم الفتيات في الديار المغربية -التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين – مستقبل تجارة المغرب – الفتح العربيّ لإفريقيا الشمالية – مختصر العروة الوثقى – تفسير الآيات العشر الأولى من سورة قد أفلح – تفسير سورة الإخلاص – حكم ترجمة القرآن – النظام في الإسلام – الرحلة الأوروبية عام 1919. حلّاه العلامة الطاهر بن عاشور فقال: ” الأستاذ الجليل، والعلامة النبيل، وصاحب الرأي الأصيل، الشيخ محمد الحجوي، المستشار الوزيري للعلوم الإسلامية بالدولة المغربية، فلقد مد للعلم بيض الأيادي بتآليفه التي سار ذكرُها في كل نادي”. وقال فيه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: ” العلامة النابه، البارع، الإمام فقيه المغرب الأقصى، الأصولي المتفنن، الشيخ محمد بن الحسن الحجوي المغربي”[1].

سياق تأليف الكتاب

عاش الحجوي دهرا من الزمن يحمل هم تحسين وضع المرأة، مؤلفا ومحاضرا ومناظرا في شأن تعليمها ومشاركتها في الحياة العامة، وكان يؤمن بأن إقلاع الأمم لا يتأتى إلا بحضورها ومساهمتها. ومن السهل اليسير أن يسجل الباحث في تراثه المطبوع والمخطوط عناوين محاضرات عدّة ألقاها داخل المغرب وخارجه، دعا من خلالها إلى (تحرير) المرأة وتعليم الفتاة، ومن أشهر هذه المحاضرات، محاضرة في موضوع تعليم الفتيات ألقاها بمعهد الدروس العليا بالرباط سنة 1925، حضرها جمع من العلماء، فحدَث أن قاطعه الصدر الأعظم (الوزير الأول) محمد بن عبد السلام المقري، ووزير العدلية شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي، اللذان اعتبرا تعليم الفتاة بدعة، ولا يترتب عليه إلا الضرر والفساد، وأن الحجوي – بدعوته تلك – إنما هو تابع لفرنسا، لأن تعليم المرأة حتما يؤدي إلى السفور. مما اضطره إلى قطع المحاضرة، والانسحاب خارج القاعة، ليلقي بعد مدّةمحاضرة “تعليم الفتيات لا سفور المرأة” يوضح فيها حقيقة ما دعا إليه، ويصحح ما فهمه خطأ جمهور واسع ممن انتقدوا أفكاره وآراءه.

تقديم الكتاب/ المحاضرة

إن كتاب / محاضرة “تعليم الفتيات لا سفور المرأة”، من أهم ماخلّف الفقيه الحجوي، وقد ضمّنه مشروعه الإصلاحي في مجال تعليم المرأة، اعتنى به وحققه الأستاذ محمد بن عزوز، ليخرج في  240 صفحة،صدرت طبعته الأولى سنة 2004 عن مركز التراث الثقافي المغربي- دار ابن حزم  بالدار البيضاء، وهو من مقدمة للمحقق، وترجمة للمؤلف، ونص المحاضرة مع تعليق، وملحق، وفهارس.

ومحاضرة “تعليم الفتيات لا سفور المرأة” سبق إليها- زمنيا – الأستاذ سعيد بن سعيد العلوي في كتابه” الاجتهاد والتحديث دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب”[2]، وبعد ذلك بسنوات سيتولى  الأستاذ محمد بن عزوز تحقيقها لتصبح على ما هي عليه الآن، يقول في المقدمة:  “… ثم عرضت لي مراجعة فيها، فرأيت أنها تحتاج إلى مزيد من التعليق، وتخريج الأحاديث، والتعريف بالأعلام المذكورين فيها، فتحركت همتي من جديد إلى خدمتها، والتعليق عليها بإيجاز في مواضع، وبإسهاب في مواضع، نظرا لمقتضى المقام”[3].

وتأتي هذه المحاضرة في سياق طرح رؤية، وتصحيح فهم، وتوضيح رأي، وإزالة لبس، لذلك لفت منذ مطلع المحاضرة إلى أمرين اثنين:

1– بسط عناصر محاضرته، والإشكالات التي سيجيب عليها.

2– تقديم المرجعية التي سيؤسس عليها أفكاره وآراءه.

أما المرجعية فمحسومة، يفرضها تكوينه وواقعه ومخاطَبوه، يقول: ” سأتحدث لكم عن تعليم الفتيات المغربيات وعن حكمه الشرعي وأدلته” ….”وسأنطق بما هو أوفق بالشريعة الإسلامية العالية”.  ثم ما لبث أن قدّم (دفوعات) نقلية وعقلية من أجل الانتصار لقضية تعليم الفتيات تعليما عربيا إسلاميا موافقا للشريعة، باسطا نماذج من العصور المتقدمة تعضد رأيه وتؤيد فكرته، معتبرا أن ما ترتب عن تعليمها من مفاسد في بعض الأمم الإسلامية، إنما يرجع إلى البرامج السيئة، وفساد التربية الخارجة عن دائرة الشرع الشريف.

وقد بنى الحجوي محاضرته على “ثنائيات” مثل: الحجاب والسفور – العلم والجهل – الشريعة والقوانين الغربية، حال المرأة المسلمة زمن النبوة وحالها في العصر الحديث…عارضا عناصر محاضرته كما يلي:

تعليم الفتيات: حكمُه وحكمته وأدلته الشرعية – ماذا ينبغي أن تتعلم الفتاة؟ – ما هو السن الذي تتوقف فيه الفتاة عن التعلم في المدرسة – مدارس المعلمات – تحرير المرأة في الإسلام دون سفور – نماذج من زمن النبوة – أسباب تأخر المرأة المسلمة وكيف كان تقدمها.

دون أن يفوّت التأكيد كل مرة على فضيلة الحجاب، وخطر السفور، ويعرض خطوط برنامجه التعليمي الذي يدعو إليه في نقاط منها:
تعليم الفتاة القراءة والكتابة والخط والرسم.
تعلم ضروريات الدين.
تعلم الحساب والجغرافيا والتاريخ ومبادئ العلوم.
تعلم الأخلاق الإسلامية الرفيعة.
تعلم تدبير منزلها التدبير الحسن….

على سبيل الختم

إن كتاب ” تعليم الفتيات لا سفور المرأة” يوضح بجلاء المشروع الإصلاحي للحجوي في شقه المتعلق بتحرير المرأة وتعليم الفتاة، وهو نقطة مضيئة في سماء المشاريع النهضوية التي عرفها المغرب منذ مطلع القرن العشرين، ويُحسب للحجوي أنه كان منسجما مع رؤيته الإصلاحية في محاضرته/ نواة هذا الكتاب، واعيا بأشكال التحديات وأنواع المعيقات، رافضا لمداهنة جبهة العلماء التقليديين ممّن شوّشوا على محاضرته الأولى، وروّجوا أن الحجوي “بوق لسلطات الحماية الفرنسية”، لذلك وجدناه مدافعا عن برنامجه، معرّضا بدعوة التونسي الطاهر حداد، مزريا بالمصري قاسم أمين، مؤكدا أن التعليم الذي يدعو إليه يجب ألا يعرقله الحجاب، لأن الحجاب إنما هو” لمحل العورة لا للأحوال كلها”. وأن السفور “ويل وثبور على المرأة نفسها، ذاهب بشرفها…” وأن فيه ” سفالة الأخلاق، وكثرة البذخ الذي يوجبه التبرج”.

رحم الله الفقيه الحجوي وأجزل له الثواب آمين.

المراجع
[1] الحجوي الثعالبي الفاسي، تعليم الفتيات لا سفور المرأة، تحقيق محمد بن عزوز،  دار ابن حزم، ط1، 2002 الدار البيضاء.
[2] سعيد بن سعيد العلوي: الاجتهاد والتحديث دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب، مركز دراسات العالم الإسلامي، 1993.
[3] مقدمة الكتاب، ص 19.