مراحل المَنْشَأ والتعلّم.. شيخٌ منذ صِباه 

العلّامة المغربي أبو شعيب بن عبد الرحمن بن عبد العزيز الدّكالي الصديقي (الصديكَي)، محدِّث شهير وفقيه كبير ومُفسِّرٌ غزير، ومتكلِّمٌ خطيبٌ فصيح، كان مولده سنة 1295ه/ 1878م، في بيت عِلم وورع، بقرية الصّدّيقات بقبيلة أولاد عمرو الغربية بمنطقة دكالة، بالمغرب.

تلقى تعليمه الأوّلي في قبيلته بدكّالة على يدِ فقهائها وشُيوخها، وأتمَّ حِفْظ القرآن والمتون في منطقة الريف شمال المغرب برهة من الزمن. ومن العلماء الذين تلقى عليهم العلم نورد: ابن عزوز ومحمد الصديقي ومحمد الطاهر الصديقي قاضي مراكش. ومَــثُــل سنة 1891م/1308ه بين يدي السلطان الحسن الأول (1863م-1894م) تَالِيا محفوظه مِن “مختصر الشيخ خليل” وهو ابن 13 سنة، فأُعِجبَ به وأجزل له العطاء وأمضى له توقيعا مع صلتين وكسوتين، وأوصى بأنْ “يُضاعَفَ لأبي شعيب لصِغَرِ سِنّه وكِـبَرِ فَـنِّه”.[1] ثم هاجر في طلب العلم مدّة ناهزت عشر سنين، فاجتاز امتحان الولوج إلى أزهر مصر الذي أشرف عليه الإمام الأكبر محمد عبده (1849م-1905م)، ومَكث به أعواما بدءً من 1896م/1315ه، فدرس على علماء الأزهر من أمثال سليم البشري ومحمد بخيت المطيعي ومحمد محمود الشنقيطي، واحمد الرفاعي… ثمَّ انتقل إلى أرض الحجاز واستقرَّ بمكة المكرمة في حيّ القشاشية، فتَصَدَّر ميدانَ الإقراء والدرس والإفتاء وهو ابن خمسٍ وعشرين سنة، وذاع صِيته واتسَعت شُهرته، فأحرز على مكانة مرموقة عند أمير مكة الشريف عون الرفيق.[2]

مُجدِّدُ صورة المغرب العلمية في المشرق

جسّد الشيخ النابغة حلقة ربط علمي وروحي وسياسي بين المغرب وبلاد الحجاز، فهو الذي مكَثَ في مكة طويلاً إلى أنْ تبوَّأ مكانة مستشار شريفِ مَكة عون الرفيق أمير مكة، فكانَ لتأثير الإصلاحية المغربية المالِكية نُفوذاً ودوراً كبيراً في الحجاز على عكْسِ ما كان يُرادُ للوهابية الحنبلية أنْ يكونَ لها من تأثير في المغرب، وهْو الذي نُصِّبَ إماماً ومُفْتِيا للمذاهب السنية الأربعة في الحرم المكي، ومُفتيا للمذاهب السُّنية الأربعة في الحرم المكي، ومُدرّسا بمكّة، ثمّ بجامع القيروان لاحقا. وكان يجيز الطَّلبة والقادمين إليه من الأمصار؛ إجازات في الفقه واللّغة والدين، من أمثال الحاج: مسعود الوفقاوي والشيخ محمد العربي الناصري من علماء المغرب، والشيخ عبد الله بن حميد مفتي الحنابلة بمكة المكرمة، والشيخ محمد الشنقيطي من علماء موريتانيا، والشيخ يوسف القناعي من الكويت وغيرهم.[3]

عاد إلى المغرب بطلب من السلطان المولى عبد الحفيظ سنة 1908م/1325م، وقِيلَ سنة 1910، فاستقرّ بمدينة فاس[4]، مانِحاً وهَجًا علميا للمدينة، ورابطا علاقات متينة بين النخبة العلمية المغربية ونظيرتها المشرقية، فتهافت عليه العلماء والطلبة في الوقت الذي أخذ على نفسه مهمة محاربة البدع ونصر السنة ومقاومة الخرافات والأباطيل السائدة في ذلك الوقت. وفي سنة 1328ه/1910 انتدبه السلطان المولى عبد لحفيظ إلى الحجاز ليشتري أملاكا تحبّس على الحرمين الشريفين، ولما عاد ولاه المولى عبد الحفيظ مهمة القضاء بمدينة مراكش.[5] كما تولّى سنة 1912م/1330ه زمَن السلطان يوسف بن الحسن (1881-1927) وزارة العدل والمعارف وبقي في منصبه 12 سنة، كما أضيفت له مهمة رئاسة المجلس الأعلى الاستئنافي. وعرف بمواقفه خلال مدة توليه المسؤولية بمواقفه الصارمة تجاه بعض أعضاء المخون أو ضد سلطات الحماية الفرنسية، وكان اعتراضه على التوقيع على قرار وزاري يرخص بإحداث مكان للبغاء بمدينة القنيطرة سببا في فصله عن مهمته.[6] كما عُهِدَت إليه مهمة الدروس العلمية السلطانية على عهد السلطانين عبد الحفيظ ويوسف وشطرا من عهد الملك محمد الخامس (1909-1961)، مُغْنِيا الحياة العلمية والدينية بالمغرب الراهن. وقد استمر في إلقاء دروسه في الرباط لمدة 25 سنة، في الزاوية الناصرية وفي المسجد الأعظم وضريح سيدي فاتح ومسجد القبة.[7]

وانتدبه المقيم العام الفرنسي ليوطي لإعطاء دروس في الفقه والحديث لفئة من الطلبة النجباء الذين تكونوا في اللغة الفرنسية كجعفر ومحمد الناصري وأحمد بن عبد الرحمان بركَاش وإدريس بن الجيلالي.[8]

ملهم الحركة الوطنية وباعث اليَقظة السلفية الإصلاحية

لقد كان الشّيخ الدكالي صاحِب حياةِ عريضة عنوانها الإنكباب الصَّـبور على العلم؛ تحصيلاً وتوصيلاً وإنتاجاً، ومقْصودة دروسه وخُطبه من قِبَل العامة والخاصة، كما كان لخاصية سَعة العلم هاته دور هام في جذب ثلة نشيطة مِن قادة وأعضاء الحركة الوطنية الذين تتلمذوا على يَديه، وكم من صاحب مذكرات شخصية وسياسية نُشرت في مغرب الاستقلال[9] يَشهد ويؤكّد أنه كان محظوظا لتلقيه العلم والوطنية على الشيخ الكبير أبي شعيب. وقد تقوى تأثير أفكاره السلفية على الحركة الوطنية بظهور شخصية سلفية أخرى، وهي شخصية محمد بلعربي العلوي.

ومن آثاره العِـلمية؛ إحياؤه تدريس تفسير القرآن الكريم بالمغرب، وتدريس السنة النبوية وعلومها، والفقه بالدّليل، والقراءات والنحو، “على طريقة أئمة الاجتهاد” بتعبير الباحث عبد السلام الطاهري في “موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب”[10].

أما إسهامه الإصلاحي؛ فيكفي ذِكْر ما كان من جهوده القيِّمة في حمايةِ كثير مِن المصالح الشرعية والوطنية للمغاربة، وتثبيت الأراضي المغربية دون استيلاء الفرنسيين عليها، إذ كان يُوَقِّع العقود والبُـيوع يوم كان وزيرا للعدل، وتَصَدِّيه لمحاولات المستشرقين والمتفرنسين ضرب اللغة العربية، ويُحرِّك بخطبه وأجوبته ودروسه “النفوس تُجاه الوطنية الصادقة والنضال المستمر من أجل التحرير والاستقلال” بتعبير الدكتور محمد رياض في مرجعه الضَّخم “أبو شعيب الدكالي وجهوده في العلم والإصلاح والوطنية”[11].

ومن آثاره السَّلفية وتأثيراته في السَّلفية الوطنية المعاصِرة؛ ترسيخه لمنهج محاربة البِدع والشِّرك والخرافات ورفْض التَّـقليد، واعتماده جانِب اللين والتبسيط والوضوح في الدعوة، وصرْف الجهدِ في التَّعليم والتدريس المباشر بَدل تحرير الكتب وتأليف التصانيف، وربط قنوات التواصل مع علماء ودعاة الوقت. وكان بسببٍ من علمه الواسع ومعرفته بالشريعة، سلفيا معتدِلاً، مُقدِّما الاجتهاد والعقل ومُوليهما الاعتبار اللازم، وعامِلاً بالثوابت الدينية والمذهبية للمغرب، مما أعطاه شرعية التأطير والتأثير في الأوساط السلفية، وفي النخبة العلمية والدينية الوطنية التي كانت في طَور الظهور والصعود على الساحة المغربية آنذاك. حتى لقَّبه الفيلسوف والفقيه امحمد الرافعي بــ”شيخ الإسلام وإمام المسلمين (..) الأستاذ الـحُجَّة (..) نادِرة العُصور في الحفظ الواسع الباهر الخارِق للـمُعتاد”[12]. فقد كانت دروسه تشهد على طاقة وإطلاع نادرين، وانعكس ذلك على قوة انتشار أفكاره السلفية سواء في المغرب أو في الحجاز والجزائر ومصر والكويت وغيرها من البلدان.[13]

لم يُخلّف شيخ الإسلام الدكّالي تآليف بخط يده، وإنما قام تلامذته بنشر أفكاره السَّلفية الإصلاحية، وتَمثُّلِ عِلمه ومنهجه الدّعوي. فكان ممن تأثّر وواصَل دعوة العلّامة الإصلاحية؛ الشيخ محمد بن المختار الشنقيطي الموريتاني، والشيخ يوسف القناعي الكويتي (1879م-1973م)، والعالم محمد بلعربي العلوي (1880م- 1964م)، والمؤرِّخ والعلامة محمد المختار السوسي (1900م– 1963م)، والزعيم الأستاذ علال الفاسي (1910م-1974م)، والفقيه الأديب عبد الله كنون (1908م- 1989م). وخلف تلامذةً كُثُرا في المغرب والمشرق، وذِكْرا حَسنا في أوساط العلماء والعامّة، حتّى “عَدَّه الكثيرُون مجدِّداً لرُسوم الدين في المغرب الأقصى”[14]،

وفاته

بَعد حياةٍ عامرة بالنّفع للعباد والبلاد، والدّفاع عن الشريعة والدعوة للاجتهاد والتجديد، والإشعاع الديني والثقافي الكبير؛ وافتِ المنية العلَّامة أباَ شعيب الدكالي 8 جمادى الأولى 1356 الموافق لـ 17 يوليوز 1937م، بعد معاناة طويلة مع مرض شديد، ودفن بضريح مولاي المكي.

المراجع
[1] العثماني سعد الدين، شخصيات مغربية مسارات وذكريات، الدار المغربية للنشر والتوزيع، ط1، 2022، ص16.
[2] الفاسي عبد الإله، معلمة المغرب، ج12، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2000، ص 4063.
[3] العثماني سعد الدين، شخصيات مغربية مسارات وذكريات، مرجع سابق، ص 17.
[4] مؤلَّف جماعي، موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب، المجلد الثاني، الجزء الأول، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير 2008.
[5] الفاسي عبد الإله، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 4063.
[6] الفاسي عبد الإله، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 4063.
[7] الفاسي عبد الإله، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 4063.
[8] الفاسي عبد الإله، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 4063.
[9] الفاسي علال، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى 2009.
[10] مؤلَّف جماعي، موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب، مرجع سابق، ص: 134.
[11] رياض محمد، أبو شعيب الدكالي وجهوده في العلم والإصلاح والوطنية، ص: 11.
[12] زيادي أحمد، شيخ فلاسفة المغرب؛ العلامة محمد بن أحمد الرافعي.
[13] الفاسي عبد الإله، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 4063.
[14] الجزولي محمد علي العلّامة المحدِّث أبو شعيب الدكالي الصِّديقي وجهوده في الحديث، منشورات الرابطة الـمحمدية للعلماء.