صدر عن المركز الثقافي العربي سنة 2014م، كتاب طقس القربان في الأديان السماوية دراسة مقارنة في رصد تطور الوعي الاجتماعي والثقافي من خلال المدخل الديني، في طبعته الأولى، للباحث الحسن حما، وينطلق الكتاب من فكرة تتداخل الرموز والطقوس المختلفة لعبادة القربان، التي تؤكد على حرص الإنسان على التقرب إلى الإله، بالرغم من التطور الذي عرفته من مراحل الديانات غير التوحيدية إلى المرحلة الإسلامية – المحمدية-، التي اكتملت فيها رؤية الإنسان إلى مدلول القربان، ووظائفه الاجتماعية والثقافية بمنهج الوحي الصحيح. وهذا ما يثبت خضوع الفكر الديني للتطور والتحول في الديانات السابقة، بفعل التدخل الإنساني في ماهية الدين، والتحكم في تفسيره وتوجيه، وهذا يفرض دراسة ما تحتويه هذه الديانات من عبادات وعقائد، والنظر في تطورات الوعي الديني والإنساني، سعياً لتقديم رؤية متكاملة عنه، مع إمكانية دراسة هذا الغنى في إطار الحوار الديني والحضاري، وعدم فصل الظاهرة الدينية عن الظاهرة الإنسانية. وبهذا فإن طقس القربان الذي يعتبر تراث الديانات السماوية وغير التوحيدية (المصريين القدامى، والعرب في السلوك الجاهل، والهندوسية) يكشف عمق تجدره في السلوك الإنساني، وشدة ارتباطه بالبعد الديني حتى شكل عند بعض المجتمعات نموذجاً دينياً لتفسير الوجود الكوني، وهو ما تعرض له هذا الكتاب في الديانة المصرية والعرب في المرحلة الجاهلية، و أبرز قدرتها على الفصل بين العالم المدنس والمقدس، انطلاقاً من طقوس قربانية يتوسل بها إلى إبعاد كل مظاهر غضب الإله والطبيعة عن الإنسان، وبالمقابل محاولة الحفاظ على غنى وكرم الطبيعة التي تشكل مصدر الرزق الأساس للإنسان. ومما يستفاد من فلسفة القربان وموقعها في الفكر الديني التوحيدي، ما تكشف عنه الكتب الدينية عن مركزية وأهمية نسك القربان في تجسيد شكر الإله، لذلك سهر العهد القديم على تشريع قرابين لمختلف الخطايا والذنوب التي يرتكبها الفرد اليهودي، فبواسطتها يعبر من جديد إلى فضاء الرب الذي يزيل الخطايا عن طريق رائحة البخور التي تصعد إليه من المذبح، فقد استقر في الوعي الديني اليهودي أن ظاهرة حرق القرابين التي يتم تقديمها تصل رائحتها إلى الرب.

وإذا تقرر أن التدين فطرة ملازمة للإنسان ابتداء إذا لم تصرفه عنها الصوارف. فثمة أكثر من مبرر لتفسير هذا التقرير، وتكفي فيه مظاهر العجز والقصور والنسبية التي تحفه من كل جانب ، والحاجة إلى الغير لاستكمال النقص أو دفع الأذى . واعتقاد الكمال في هذا الغير كما ذهب إلى ذلك ديكارت مثلا ، وكما ذهب أصحاب التفسير التطوري المادي الكسبي لظاهرة التدين عندما ربطوها بعناصر الطبيعة المختلفة واستفزازها الدائم لفكر الإنسان.

ومن هنا ظهور فكرة القربان والطقس والنذر والتضحية … وغيرها من الأسماء التي تكاد تشترك في مسمى واحد. وذلك عند مختلف الشعوب القديمة كالمصريين والهندوس والصينيين والرومان والعرب قبل الإسلام … وغيرهم . حيث كانت تقدم القرابين المختلفة وحيث نشأت مظاهر تقديس وطقوس ملازمة لها على أكثر من صعيد. الأمر الذي رامت هذه الدراسة توضيحية وتقريبية في سياقات مختلفة  من الاعتقادات والعادات المرتبطة بالأديان الوضعية أو السماوية . لكن الأهم في هذه المعالجة هو رصد ارتباط الهرمية الدينية في طقس القربان بهرمية اجتماعية وسياسية كذلك . أو لنقل المقاربة السوسيولوجية من مدخل علم الاجتماع الديني للظاهرة . حيث تبلورت نظريات في التمييز العرقي بين الأمم والشعوب ، وفي الاستعلاء الاستعماري والإستطاني ، وفي حروب كثيرة تؤطرها نبوءات دينية مختلفة .وإذا جاز مثلا أن نتحدث عن ارتباط القربان في عقائد المصريين القدامى بالنيل ، وارتباطه في نصوص العهد القديم بالوعود المتعلقة بالسيادة والبركة وتكثير النسل وامتلاك الأرض. وارتباطه في نصوص العهد الجديد بالخلاص والفداء. فإننا من المنظور التوحيدي في عقيدة المسلمين، نجد معالجة أخرى للظاهرة تقوم على أساس التجريد الكامل ودفع أي اعتقاد في تأثير معين، نفعا أو ضرا، لقربان أو معبود ما.

ولهذا فعندما يمحض أصل التوحيد التقديس لله وحده ، والاتجاه بالشعائر لله وحده، يصبح لمعنى القربان أو الأضحية أوالهدي .. معنى آخر تنتفي عنه كل الزوائد والشوائب الدينية من جهة، والاجتماعية الملازمة لها من جهة ثانية.  كذلك  كما يقول الله تعالى ” قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ” (سورة الأنعام /آية 162 – 163 . وهذا مرتبط بدوره بتصحيح أصل الاعتقاد في الكائنات والمخلوقات التي كانت محل تقديس وطقوس فتحولت إلى مسخرات لخدمة الإنسان المستخلف . ولا يخفى أن للتوحيد أبعاده السياسية والفكرية والعلمية والمعرفية المختلفة ، تلك التي لم يعد لها حضور الآن أو تجل في أي من هذه المجالات، لهيمنة التأثير الخارجي عليها وهيمنة الفهم الحرفي النصوصي الظاهري لها كذلك.

بهذا فإن هذه الدراسة تريد أن تنبه لبعض الجوانب الأخرى، والتي يمكن من خلالها تقديم صورة عن العمل الذي يمكن أن يضطلع به تاريخ الأديان في مجال الظاهرة الإنسانية، لمعرفة مدى إمكانية دراسة الوعي الاجتماعي والثقافي للمجتمعات البشرية، انطلاقاً من الممارسة الدينية، وتمثل النصوص الدينية من قبل الجماعة التي تؤمن بها.

وغاية هذا العمل إدراك الجوانب التي من خلالها يمكن تلمس نجاح المدخل الديني في فهم الظاهرة الإنسانية، ذلك أن البحث في المقارنة الدينية لم يعد الأمر فيها يتوقف عند “إعادة تركيب التطور الزمني لديانة من الديانات، أو استخلاص سياقها المجتمعي أو الاقتصادي أو السياسي، فالظاهرة الدينية شأنها شأن كل ظاهرة بشرية تتصف بشدة التعقيد. لذا يستوجب إدراك كل قيمها وكل دلالاتها أن تعالج من عدة زوايا”.

بناء على هذا فإن مؤرخ الأديان مدعو اليوم إلى تسليط الضوء على عدد كبير من الأوضاع التي تعرفها الحياة الإنسانية في الواقع المعاصر، بفعل التحولات الكبيرة التي طرأت على العقل الإنساني، والحاجة المتزايدة للدين بعد فشل عدد من الإيديولوجيات الفكرية في تقديم حلول مقنعة لما يعتري الحياة والعالم. إنه مدعو للإسهام في تقديم إجابات وطرح أسئلة على الواقع الاجتماعي والثقافي الإنساني، مما يمكنه من إعطاء مقاربة دينية للظاهرة الاجتماعية والثقافية للديانات التوحيدية، سعياً لبلورة رؤية تشاركية تبحث عن نقط الالتقاء لمقاومة الفكر المادي الذي يعمل على إلغاء الفكر الديني من الوجود الإنساني. ويفتح أفاق النظر في المداخل الجديدة للدراسة المقارنة الدينية التي تشتغل في فضاء الديانات الثلاث. وهذا البحث جاء لينضم إلى مثل هذه الأبحاث، بنفس إعادة وظيفة الشهادة والحضور بين الناس، انطلاقاً من المنهج النقدي القرآني، الذي يعبر عنه بالتصديق والهيمنة. ويتم من خلاله طرح قضايا عالجها العهد القديم والجديد، ودراستها وفق منظور القرآن المجيد.