مقدمة

تعتبر إمارة بني صالح النفزية (نسبة إلى قبيلة نفزة ببطونها: بني ورياغل وبني يصليتن وكزناية..) بنكور أول إمارة إسلامية تأسست في المغرب. ويعود تأسيس هذه الإمارة إلى مؤسسها صالح بن منصور “الحميري” المعروف بالعبد الصالح، وهو أحد قواد جيش موسى بن نصير، رافقه في زحفه نحو المغرب الأقصى بعد سنة 86 للهجرة. وفي سنة 92ه/705م عاد مرة أخرى فنزل بميناء تمسمان في منطقة الريف بشمال المغرب، واستخلص منطقة نكور لنفسه (جبال بطيوة)، وأصبح المتحكم الفعلي في شؤونها ومواردها[1]. وكانت تمتد المنطقة التي كانت تحت سيطرته على طول ساحل بحر المغرب (البحر الأبيض المتوسط) من أحواز ملوية إلى مشارف تيكَيساس الممتدة نحو تخوم قبيلة أوربة ومشارف تازة وأمسكور بوادي ملوية، وتبقى هذه الحدود تقريبية بالنظر إلى أنها تتمدد وتتقلص حسب المراحل التي مرت منها الإمارة.

أصول أمراء بني صالح

بسبب جهود صالح ابن منصور في نشر الإسلام برباط نكور وفي أوساط قبائل نفزة وصنهاجة وغمارة (مصمودة) التي أسلم بعضها على يديه، تمكن من تأسيس كيان سياسي تركه لأولاده الثلاثة: المعتصم وصالح وإدريس. وقد بلغ عدد الأمراء الذين حكموا إمارة بنو صالح إثنى عشر أميرا، أغلبهم من أبناء سعيد بين إدريس ابن صالح، إذ بلغ عددهم تسعة أمراء، بينما انحدر الباقون من المعتصم بن صالح (إثنان)، ومن صالح بن صالح (واحد). وهناك عدد آخر لا تعرف أسماؤهم، من نسل جرثم بن أحمد (336ه-360ه)، المرتب في الرتبة الثانية عشرة، حكموا ما بين 360ه و374ه.[2].

ورغم اتفاق عدد من الروايات التاريخية (خاصة ابن خلدون وابن الخطيب) على أن أصول صالح بن منصور من عرب اليمن، فإن ادعاء بعض أمراء نكور (خاصة صالح بن إدريس) النسب الحميري يبرره السياق التاريخي للمرحلة، حيث لم يعد الفكر الإسلامي عموما والفكر السياسي ببلاد المغرب على وجه الخصوص، متحمسا كما كان إلى عهد قريب، للآراء الداعية إلى إمكانية تأمير غير العرب من مسلمي الشعوب الأخرى، خصوصا مع انتشار المقولة العلوية الزيدية منذ القرن الثاني الهجري في أوساط عدد من القبائل المغربية، والتي تؤكد على وجوب الإمامة في آل البيت، مستفيدة من تراجع المذهب الخارجي بمجموع بلاد المغرب[3]. فمن الطبيعي إذن في ظل هذه التحولات أن يبحث أمراء نكور عن بعض الدعم لنظامهم السياسي عن طريق ادعاء النسب العربي الكفيل بجعل قمة السلطة فوق التقسيمات القبلية والعصبية المحلية، الأمر الذي يرجح أن بنو صالح من أهل البلد، وأن أصولهم من نفزة الصنهاجية الأمازيغية[4].

مراحل إزدهار إمارة نكور

نتيجة لنجاحاته في نشر الإسلام في المنطقة اضطرت الخلافة الأموية إلى الإعتراف بجهود صالح ابن منصور ببلاد نكور فأقطعه إياها الوليد بن عبد المالك الأموي سنة 91/710م، فأصبحت المنطقة في استقلال عن الولاة الأمويين في إفريقية والمغرب، بحيث أصبحت الإمارة مرتبطة بشكل مباشر بمركز الدولة الأموية في دمشق في إطار عقد الإقطاع، بحيث لم تكن تابعة لعمالتهم في طنجة أو لولايتهم في تلمسان أو للقيروان، وذلك بعد فترة انقطاع قصيرة انقطع فيها هذا الارتباط على يد داوود النفزي المعروف بالرندي، الذي ألحق نكور بثورة الخوراج بقيادة ميسرة المطغري والتي انطلقت سنة 122ه/739م، وهي المغامرة التي انتهت بمقتل دواوود الرندي وإعادة صالح إلى سدة القيادة في نكور. وهكذا، وفي عهد هذا الأخير تطور شكل كيان نكور من إقطاع إلى إمارة، في أول وأقدم شكل للتنظيم الإقليمي بالمغرب[5]. كما أن عاصمتها مدينة نكور تعتبر حسب العديد من المؤرخين أول وأقدم حاضرة إسلامية أنشئت في المغرب[6].

وبعد وفاة صالح سنة 132ه/750م خلفه ابنه المعتصم، والذي تزامن مع سقوط الدولة الأموية في دمشق، فأصبحت بذلك الإمارة مستقلة عن إي ارتباط بالأمويين. لقد اشتهر المعتصم بن صالح بالشهامة والتعبد والصلاح، بالاقتداء بسياسة الخلفاء الراشدين جامعا بين الإمارة والصلاة والخطبة. وقد أهل ذلك الإمارة لتكون في مواجهة مباشرة مع تيارات الخوارج ومذاهب الشيعة ومقالات المعتزلة. وعندما ظهر مذهب مالك بالحجاز، أخذ به حكام بنو صالح فترسخت قواعده بنكور على يد فقهائها.

وفي عهد إدريس بن صالح (132-143ه/750-760م) تم استكمال أركان الإمارة، فاختط مدينة نكور لتكون حاضرة للبلاد وحولها إلى عاصمة الإمارة.  وقد تم اختطاط المدينة في قرب الوادي المسمى باسمها غير بعيدة عن مدينة الحسيمة الحالية، وأصل كلمة نكور من الكلمة الأمازيغية أنكور التي تعني التيس[7]. وفي عهده وفد على الإمارة عبد الرحمن بن معاوية (المعروف بعبد الرحمن الداخل) هاربا من سيوف العباسيين ومختفيا عن أنظار الخوارج، حيث نزل بتمسمان مستجيرا بأخواله نفزة الأمازيغ. وخلال السنوات الخمس التي قضاها في ضيافة أمراء نكور كان يتهيأ لتأسيس إمارته في الأندلس.

وفي فترة حكم سعيد ابن إدريس (143-180ه/760-796م) استؤنفت الأشغال البناء والتجهيز بحاضرة نكور، كما عرفت توافد جماعات من الحرفيين والتجار اليهود، والعبيد المجلوبين من بلاد الصقالبة، فتحولت على إثر ذلك مدينة نكور إلى مدينة مزدهرة، وغدت قطبا تجاريا كبيرة في شمال المغرب. وخلال فترة حكم سعيد ابن إدريس استمر ازدهار المزمة وغيرها من المدن كبادس ومليلية، وكذا الموانئ مثل كرط وتمسمان وملوية ويلش (أو ياليش) وبقوية، وقواعد القبائل مثل مرجانة وتاوريرت[8]. كما أنه في عهد هذا الأخير كادت إمارة بنو صالح أن تنهار بسبب انفصال قبائل صنهاجة وغمارة عن الإمارة والالتحاق بالإمارة الإدريسية الناشئة، حيث قادوا ثورة انفصالية بقيادة مسكن الصنهاجي. لكن اغتيال إدريس الأكبر مؤسس الإمارة الإدريسية أنقذ الإمارة، بحيث سرعان ما عادت الإمارة أقوى نفوذا وأوسع مجالا وأكثر ازدهارا في عهد صالح ابن إدريس (180-250ه/796-864)[9].

إمارة نكور في مواجهة الأطماع الخارجية

وبسبب موقعها والإزدهار والغنى الذي تمتعت به حاضرة نكور فقد كانت هدفا لسلسلة طويلة من الهجمات والإحتلالات الخارجية، نتج عنها تخريبها عدة مرات. وبسبب العنف المبالغ الذي تعرضت له إمارة بنو صالح وعاصمتها نكور على وجه التحديد، فإن سكانها تفرقوا في البلاد، وساهم الأمر في اندِراس معالم المدينة حتى أنها لم تعمر بعد ذلك قط.

وقد كانت أولى هذه الهجمات  غارات النورمان الإسكندنافيين (النورمانديون) الذين فاجأوها بغارة عسكرية نتج عنها احتلالها سنة 244ه/858م فخربوا كثيرا من معالمها وسبوا نسائها ونهبوا ممتلكات أهلها، مع العلم أنهم لم يكمثوا فيها سوى ثمانية أيام[10]. ونتج عن ذلك دخول الإمارة في فترة من الإضطربات الداخلية بين المكونات القبلية ثم بين الجند والعامة والمماليك الصقالبة إلى أن استقرت أمورها في ظل حكم سعيد بن صالح (250-305ه/864-917م). لكن الإمارة تعرضت لهجوم الفاطميين (العبيديين) الذين احتلوها وقتلوا أميرها بقيادة عاملهم على تاهرت مصالة بن حبوس سنة 304ه/916م، ثم أعادوا هجومهم مرة أخرى في سنة 308ه/920م، وكذا في سنة 323ه/935م وذلك في عهد الأمير أبو أيوب إسماعيل (320-323ه/932-934م).

وفي فترة الأمير عبد السميع المؤيد (317-319ه/929-931م) تعرضت إمارة نكور لهجوم قبائل مكناسة سنوات 317ه/929م و 320ه/932م بقيادة موسى بن أبي العافية الذي حاصرها قبل أن يقتحمها ويهدم أسوارها ويخربها. وفي سنة 324ه/935 جربت الخلافة الأموية في الأندلس حظها في الهجوم على الإمارة واحتلالها. وفي سنة 386/996م، عاودت الحجابة العامرية المستبدة بالحكم في قرطبة احتلال الإمارة[11]. كما تمكنت قبائل ازداجة وهران البدوية من السيطرة على النكور سنة 410ه/1019م و460ه/1069م. وفي 473ه/1080م تعرضت مرة أخرى مدينة نكور للتخريب من طرف المرابطين بقيادة يوسف ابن تاشفين وذلك في إطار حملاته العسكرية لفتح المناطق الشرقية من المغرب، فأنهى بذلك حكم أسرة بني صالح وإمارة نكور[12].

وكان من نتائج هذه الهجمات والإحتلالات الأجنبية المتتالية أن تخربت مدن الإمارة وانحسار عمرانها، وجنوح الإمارة إلى إقامة المنشآت الدفاعية في مختلف أنحاء الإمارة مثل قلعة الصقالبة وحصن تسافت فضلا عن قلعة كرط وقلعة جراوة، كما تراجعت أهمية نكور بعدما تغيرت معالمها بتوالي عمليات التخريب، فتم تحصينها وإعلاء أسوارها، كما أصبحت مليلية محصنة أيضا[13].

المراجع
[1] الفكيكي حسن، معلمة المغرب، ج 5، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والنشر والترجمة والنشر، 1992، ص 1539-1540.
[2] الفكيكي حسن، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 1539-1540.
[3] الطاهري أحمد، فصول منسية من تاريخ المغرب: إمارة بني صالح في بلاد نكور، مرجع سابق، ص 25-26.
[4] الطاهري أحمد، فصول منسية من تاريخ المغرب: إمارة بني صالح في بلاد نكور، مرجع سابق، ص  27-29.
[5] تاريخ المغرب تحيين وتركيب، إشراف وتقديم محمد القبلي، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، ص 151.
[6] الطاهري أحمد، فصول منسية من تاريخ المغرب: إمارة بني صالح في بلاد نكور، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، ط1، 1989، ص 5.
[7] معلمة المغرب، السلامي رشيد، مادة نكور، الجزء 22، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، 2005، ص 7468.
[8] تاريخ المغرب تحيين وتركيب، إشراف وتقديم محمد القبلي محمد القبلي، مرجع سابق، ص 152.
[9] تاريخ المغرب تحيين وتركيب، إشراف وتقديم محمد القبلي محمد القبلي، مرجع سابق، ص 152.
[10] معلمة المغرب، السلامي رشيد، الجزء 22، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، 2005، ص 7468.
[11] تاريخ المغرب تحيين وتركيب، إشراف وتقديم محمد القبلي محمد القبلي، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، ص 153.
[12] معلمة المغرب، السلامي رشيد، مرجع سابق، ص 7468.
[13] تاريخ المغرب تحيين وتركيب، إشراف وتقديم محمد القبلي محمد القبلي، ص 153.