صدر عن دار كنوز المعرفة والتوزيع، كتاب:”العَدالة اللغَويَّة والنّظَامة والتَّخطيط”، الذي يقع في 527 صفحة من القطع الكبير، للدكتور عبد القادر الفاسي الفهري المتخصص في اللسانيات التوليدية والمقارنة، والسياسات اللغوية، الطبعة الأولى: 1441 هـ/ 2019 م/ عمان- الأردن.

وفي تصدير الكتاب يشير الخبير اللغوي عبد القادر الفاسي الفهري، أنه يتناول بين دفتي الكتاب أبحاثا ودراسات جديدة عن الأدبيات اللسانية العربية، تتركز حول ثلاث مجموعات من المواضيع الكبرى المتشابكة، والمتعلقة بالأسس والمبادئ والمعايير والآليات التي يحتكم إليها: (أ) في بلورة عدالة لغوية linguistic Justice، قمينة بتحديد توزيع الحقوق (والواجبات) اللغوية، للأفراد والجماعات، والفصل في النزاعات اللغوية، وإقرار الانسجام والتعايش الثقافي والمجتمعي، و(ب) إقامة حكامة لغوية جيدة، أو ما فضلنا تسميته بـ النَّظامة  Regulation، في أشكالها الجديدة المتجددة والمتحولة، ونماذج السياسة والتخطيط، التي لا تنفك عن ترجمة هندسة النظامات الجديدة، تأسيسها على الإنصاف والعدالة، وأخيرا (ج) قضايا الوحدة والتنوع والتعدد Unity, Diversity, Multingualism، وتمثلاتها وإدارتها من منظور العدالة والتوافق السياسي، وعوامل ومؤثرات أخرى، اقتصادية تنموية، ونفسية- مجتمعية.

ويضيف عبد القادر الفاسي الفهري خريج جامعة باريس – السوربون، أن كتاب ”العَدالة اللغَويَّة والنّظَامة والتَّخطيط”، يعد سبقاً في مجاله، جامعا بين السياسة اللغوية والعدالة والأخلاق، وما تثيره من إشكالات، وامتدادا وتطويرا للبرنامج العام الذي خطه جزئيا رديفه السابق كتاب “السياسة اللغوية في البلاد العربية”، القائم على تعدد الأبعاد وتداخل المعارف، بين النفسي والمجتمعي، والاقتصادي والثقافي، في ارتباط بالفلسفة السياسية والقانون. ويعالج الكتاب موضوعات جديدة غير مسبوقة، مثل النّظَامةاللغَويَّة، ويدقق في موضوع العدالة اللغوية، ويتعمق في توضيح المبادئ والمعايير والآليات، وتشابكها وتفاعلها. ويقترح البحث نموذجا لإرساء العدالة اللغوية، يقوم على مبادئ الترابية والشخصانية، من جهة، والاعتراف المتساوي في الاستفادة من الخدمات اللغوية، إضافة إلى إقرار مبدأ الكونية اللغوية.

وبخصوص النموذج المؤسس يضيف الدكتور عبد القادر الفاسي على أن مرتكزات هذا النموذج ترتكز على مبادئ يمكن الاستدلال على أفضليتها، قياسا بمبادئ أخرى، إضافة إلى الهندسة العصرية الدقيقة التي يدافع عنها المؤلف، والمعالجة غير المسبوقة لإشكال التنوعات اللغوية، أو نوعات اللغة الواحدة، والمَعْيَرة، والتعدد اللغوي، إلخ، يجعل الكتاب عملا متفردا في طَرق مثل هذه المواضيع، واقتراح حلول ونماذج لها، يمكن الاستدلال على ملاءمتها وكفايتها، وتجريب نجاعتها، والحكم عليها. وقد أورد الكتاب مجموعة من المرجعيات الغربية المتقدمة، وكيفها لبلورة النقاش والحلول، أبرزُها في باب العدالة أعمال رولز، وفي العدالة اللغوية أعمال فان باريس وباترن ودي شاتر وروبييشو. وهناك مرجعيات أخرى كثيرة في الابواب الأخرى.

ويشير المؤلف على أن ميزة العمل أنه يجمع بين الغوص في أحدث النقاشات الفلسفية والنظرية الغربية المرتبطة بالموضوعات المطروحة، وميزة التطبيق، ومحاولة الإفادة في حل الإشكالات اللغوية الملحة المطروحة في مجتمعاتنا. وإذا كان عدد من هذه الموضوعات لم يطرق في الأدبيات العربية إلا نادرا أو عرضا، فإن أهمية العمل تكمن في أنه يبتعد بمنهجه عما هو مألوف، بتحديد الإطار المرجعي للنقاش، وتحديد نموذج المعالجة، والآليات والمعايير، التي تمكن من التطبيق والاستدلال في نفس الآن، في إطار مرجعيات دولية، تمكن من التطبيق والاستدلال في نفس الآن، في إطار مرجعيات دولية، تمكن من المقارنة والتقييم، وهي خطوة منهجية هامة، تبعدنا عن النقاشات الغامضة والمائعة التي تتكاثر في الأدبيات العربية، بمرجعية دولية ضعيفة، وضعف أو انعدام الاستدلال على كفاية التطبيق.

العدالة اللغوية

يقر الدكتور الفاسي الفهري على أن الموطن الأول للغة وبيئتها أرض أو تراب تقطنه الجماعة اللغوية التي تنطق بها وتستعملها، والطبيعة التي تتفاعل فيها الجماعة. فيسمي لسانها أشياءها وأحداثها. وللغة وجود نفسي – ذهني في أذهان متعلميها ومستعمليها (أو جماعاتها)، وتمثلاتهم ومدركاتهم ولأدوارها. وتتحكم البيئة اللغوية الأولى (في البيت أولا، ثم في الروض أو المدرسة) في اكتساب الأطفال للغتهم الأولى، وتوارثهم لها عبر الأجيال. وكلما ابتعدت البيئة اللغوية عن التجانس والنقاء، كلما تذبذب التعلم الأول (أو فشل)، وظهر في نفس الوقت شبح فقدان التماسك الجماعي، بل والسياسي. لقد كان الناس في الماضي، وما يزالون، يرحلون إلى ديار اللغة أو بيئتها الطبيعية (النقية والمتجانسة نسبيا) لكي ينغمسوا فيها، ويتعلموا اللغة بأسمائها وأشيائها وأحداثها، عبر متكلميها الفطريين، وفي محيطها البيئي والبشري الطبيعي. وهناك بيئات افتراضية أو متخيلة، أو أكثر تجردا، يلجأ إليها للاستعاضة عن البيئة الطبيعية، مثل الشابكة والفضائيات، وبيئات اللغة الأجنبية، إلخ.

ويؤكد الخبير اللساني، أن البيئات اللغوية تحولت عبر الأزمان إلى بيئات متعددة الألسن، فاقدة للتجانس (في غالب الأحيان)، بتأثير التحركات السكانية، والتبادل الحر، والاتصال المتزايد بين الجنسيات المختلفة. وتداخل اللغات والثقافات، والعولمة، الخ، ولأن اللغات تختلف في إمكانات جاذبيتها والدفاع عن نفسها بنفسها في السوق الحر للغات، فقد أصبح لزاما قيام سياسة لغوية للدولة تبني بالأساس على إعطاء الأولوية لاستعمال لغة الهوية والبيئة على أرضها أو ترابها، طبقا لما أصبح يسمى مبدأ الترابية Territoriality Principle، حفاظا على حقوق المواطنين في لغتهم الأولى أو اللغة – الأم، وإنصافها وعدلا للغات ومتكلميها.

ويضيف عبد القادر أن معالجة موضوع العدالة قد يوحي بأن الأمر أخلاقي، مادام يتعلق بالإنصاف في تخويل حقوق، ولكن الأمر أعقد من ذلك، ومع ذلك، وما دامت الأقليات اللغوىة غالبا ما توظف هذا البعد لكسب اعتراف ومواقع (قد تكون مشروعة) أو غير مشروعة، فإن الأمر يتطلب تحليلا أدق، لتوضيح حقوق الأغلبية والأقليات على السواء.

النظامة اللغوية العصرية 

يشير الدكتور الفاسي الفهري في هذا القسم أنه يتوخى البحث عن أفضل النظم التي تتوافق وعصرية الدولة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وما يوائمها في أنظمة تدبير الشؤون اللغوية. فالافتراض المحايد هو أن يكون النظامان منسجمين. وأن يبلور كل نظام انسجاما داخليا وآليات عصرية تمكن من ترجمة السياسة اللغوية المتبناة، علما بأن هذه السياسة تقوم على مبادئ العدالة اللغوية التي ناقشناها في القسم الأول، إضافة إلى ما فصلناه في كتاب السياسة اللغوية، وسنعود إليه في القسم الثالث من هذا البحث، فبعد جولة في نماذج الأنظمة السياسية – الاقتصادية العصرية، وهندستها وآليتها. نروم النظر في ترسيخ هذه المبادئ والآليات والمؤسسات في المجال اللغوي.

التنوع والوحدة والتعدد

يبرز الدكتور الفاسي الفهري أن تنوعات اللسان الواحد وأوصافه هو موضوع اللسانيات الاجتماعية sociolinguistics، أو لسانيات التنوع variationallinguistics، حصريا. إلا أن الأمر يتعدى ذلك ليكون موضوع عدالة أوسياسة (ناهيك عن الأيديولوجيا). وأروم هنا تحديد نوعات اللغة العربية على الخصوص، وتوضيح مدخل (أو مداخل) تدبيرها في قطاعات حيوية مثل التعليم والإعلام، ارتكازا على مبادئ ومعايير وأنواع العدالة اللغوية (الثقافية) التي حددناها، أو ندقق في تحديدها.

ومصطلح نوعات مصطلح جديد، كما يشير المؤلف، مفرده نوعة، والنوعة هي الوحدة من النوع. لقد ابتدعتُ هذا المصطلح لأقرنه بمفهوم مقابله الإنجليزي variety، أو ما يوجد من مقابلات في لغات أخرى، في الفرنسية variété، وفي الألمانية varietat، إلخ. وهذا المفهوم يشير إلى وحدات التنوع، بأبعادها وسماتها ووظائفها المختلفة، وهو أجدر بأن ينطبق على (أو يعوض) مفاهيم أو مصطلحات أو ثنائيات تقليدية إشكالية تروم الدلالة على التنوع، مثل الفصحى والعامية أو اللهجة واللغة، الخ، فيصبح الحديث وبصفة أكثر حيادا. وأقل تحيزا. عن النوعة المعيارية، والنوعات غير المعيارية. أو النوعة الوسيطة، والنوعة الدارجة، الخ، بل يمتد إلى نوعات جديدة. كالنوعة المركزية، والنوعة المتعددة المركزة. الخ. فالفكرة الأساسية هي هي أن كل لغة تفرز عددا من النوعات المحددة بأبعادها وسماتها. وتوظف كل نوعة منها في وظائف مرتبطة بطبيعتها وملاءمتها للسياق. وهذا التحليل الجديد لأنظمة كل لغة الفرعية ينعكس إيجابا على تحليل اللغة ووضعها في محيطها، أو خارج وطنها، وما يترتب عن ذلك من سياسة وتخطيط للمعيرة والتنوع. ويتلافى هذا الوضوح المفاهيمي ما يوجد من غموض وخلط لا يمكن من التحليل السليم لوضع اللغة العربية في القطر العربي الواحد، أو في الوطن العربي، أو خارج الوطن العربي.