الانتماء المجالي للريف الكبير

تنتمي المدينة المغربية الجميلة الراسية على صَخر شاهق مُطِلّ على البحر الأبيض المتوسِّط _ الذي يحدُّها من الشرق والغرب _ إلى الريف، الكائن حَسبَ عبارة البادِسي “ما بين مدينتي سَبتة وتلمسان”.[1] وعلى مَقربة من المزمّة التاريخية، التي بينها وبين الحسيمة الحالية 12 ميلا حسَب ما ذكره أبرَز علماء وجُغرافِيّي القرن السادس الهجري الشريف الإدريسي في نُزهة المشتاق في اختراق الآفاق”[2] ونَقله عنه شكيب أرسلان في الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية”[3].

يَرتبط بناء حاضرة الحسيمة بشكل وطيد بالمرحلة الاستعمارية، في منطقة كانت تُشرف عليها سُلطات الحماية الإسبانية من جِهة، وتحت الإشراف الشرعي والسيادي للسلطان مُمَثَّلا في خليفته بتطوان “مولاي المهدي” ثم ابنه من بعده “مولاي الحسن”، من جهة ثانية.

في أسباب التأسيس ودوافعه

استَنَدت إسبانيا إلى بنود اتفاقية 27 نوفمبر 1912 مَرْجِعيةً في استغلال وتقسيم شمال المغرب، وإعمال منهج إداري لتنظيم وتدبير المنطقة، تَــؤولُ فيه السيادة للمندوب السامي الإسباني، المشرف على أعمال مصلحة الشؤون الأهلية، وفق سياسة تعتمد على المراقبة العسكرية للسكان والسيطرة على المجال واعتماد المقاربة الإثنية في التقسيم الترابي.

أسباب التّأسيس تَعود إلى رغبة الاحتلال الإسباني في التوسّع العمراني من ناحية، ولصدّ زحف الحركة الخطابية وانتصاراتها الـمدوِّية في المنطقة، ولإيجاد خليج بحري يُبقيهم على صِلة بمدينة مليلية التي تم الاستيلاء عليها بتاريخ 17 شتنبر 1497، وعلى مَقْرُبةٍ من جزيرة النكور التي احتلّوها سنة 1673، لذا سيكون الإنزال العسكري الحاشد في ميناء “كيمادو” شهر شتنبر 1925 بطاقة ميلاد منطقة عسكرية جديدة تُضاف إلى المناطق العسكرية للحماية الإسبانية، ليَليه البناء “الأول أواخر 1926 في شكْل ثكنات عسكرية، وقد امتدّ البناء خلال السنوات اللاحقة ليشمَل مساكن المدنيين الإسبان، ومرافق البناء الإدارية والتجارية، وفي نفس الوقت؛ البنايات الترفيهية والثقافية والاجتماعية والرياضية، وكذلك الكنيسة الدينية الوحيدة بالمدينة.[4] ثم جاء ظهير 1932 مؤكِّزاً على القبيلة ومجزّئا إياها إلى جماعات؛ ليستقرّ التقطيع الترابي الإسباني على خمس جهات: الجهة الغربية وعاصمتها العرائش، جهة جبالة وعاصمتها تطوان، جهة غمارة وعاصمتها شفشاون، جهة الريف وعاصمتها الحسيمة، جهة الكرت وعاصمتها النّاظور[5]، ثم استمر التوسُّع المجالي بهدف الاستحواذ على الأرض وإخضاع الأهالي وسنّ سياسات عسكرية لاستتباب الأمن في أفق استيطان العمران.

الحسيمة.. المنارة المتوهِّجة في طَــوْري الحماية والاستقلال

على الرغم مِن كَونها أخذت اسمها الحالي وعمرانها وهويتها المَدينية سنة 1957، في سياق استقلال المغرب الراهن؛ إلا أنها بَصمَت حضورها العريض في وجدان المغاربة والمغرب العربي، نظرا لما شهدته أرضُها من بطولات ومواقف وأبطال وشهامة وطنية عَزَّ نظيرها.

فالحسيمة منارة المتوسط في النضِّال ضد الاحتلال الأجنبي، فعلى ترابها خاض الأشاوس من آبائنا كُبرى المعارك التاريخية في سياق المسعى الجماعي لتحرير البلاد. فمنها انطلقت عمليات القائد المجاهد “الشريف أمزيان” ضد مواقع الغزاة الإسپان ما بين 1909 – 1912، وقاد معاركَه الحاسمة ضد ثورة الجيلالي الزرهوني المعروف بــ”بوحمارة” من الريف، إلى أنْ ألَجأته ظُروف ضُعف الإمداد إلى مدينة “مليلية المحتلة” التي دخلها “في يناير من سنة 1908”[6]، وما كاد وَهج سيرته وملاحمه يخفُت؛ حتى انبَعثت الحركة الخطابية حاملة مشروع الانتقال من القبيلة إلى الوطن[7]، فاتحة صفحة مجيدة من الجهاد والكفاح الوطني ضد القوتين الاستعماريتين فرنسا وإسپانيا، فجَرَت على أرض الحسيمة معارك لاهبة، ليس أقلُّها معركة أنوال بقيادة بطل التحرير الأمير سيدي “محمد بن عبد الكريم الخطابي“، الذي أعطى للمنطقة حضورا عربيا وعالميا، فدخَلت الحسيمة نطاق رؤية المخزن والقوى العظمى وحركات التحرر العالمية ما بين 1921 – 1926، وظلَّت محفورة في جغرافيا وتاريخ الوطن، وصدور المواطنين.

الحسيمة منارة المتوسط التي شهدت أضخم إنزال عسكري في القارة الإفريقية خلال القرن العشرين، حيث أَلْجَأت حركةُ التحريرِ الخطابيةِ وانتصاراتها المدوّية إسپانيا إلى إلقاء أكابر جنرالاتها على أرض الإقليم الثائر، حيث حَل الجنرال “سان خورخو” سنة 1926 بِها، وصارت منذ ذلكم الحين تُسمى المدينة Villa San Jurjo تقديرا لجهود هذا الجنرال والانقلابي الدّموي المتوفّى سنة 1936.

الحسيمة منارة الريف الأوسَط التي انطلقت مِن ربوعها أشهر عمليات جيش التحرير المغربي بالشمال[8] ضد الاستعمار ما بين 1953 – 1955، في كُلٍ من (أكنول، بورد، تيزي أوسلي) شارك فيها خريجو مدرسة المقاومة المسلحة من أبناء المنطقة وغيرها، الذين كانوا في طليعة الـمُلبّين للنداء التاريخي للأمير الخطابي في القاهرة، الداعي لتأسيس جيش تحرير المغربي العربي، وبِهم شكّل الأمير الأنوية العسكرية الأولى التي رَوت بدمائها أرض فلسطين.. ثم عادوا ليَسقوا بدمائهم تربة الوطن.

مدينة الانتفاضات والاحتجاجات

كانت من أقوى وأخطر الأحداث التي شهدتها المنطقة بُعيد الاستقلال مُباشرةً؛ انتفاضة الريف 1958 – 1959، بأسبابها وخلفياتها ووقائعها ومخلفاتها المعروف[9] منها والمجهول. وفي خضمّها وعلى طول أحواز الحسيمة تأسَّست في 7 أكتوبر 1958 حركة (التّحرير والإصلاح الريفية)، سرعان ما تحولَّت إلى (جبهة النهضة الريفية) فحَركة تمرُّد مُسلَّحة بقيادة “سلام أمزيان” و”محمد سلطين الخمليشي”.. تلك الأحداث أدْخَلت من جديد إقليم الحسيمة في نطاق رؤية المخزن الجديد، فكَالَ لها بمكيالين، ممارِسا العنف الشديد والتهديد الوعيد، فتم تهميشها اقتصاديا وتنمويا، وصدر ظهير العسكرة الشهير على عهد حكومة الحاج أحمد بلافريج (تــ 1990)، قاضيا بجعْل الإقليم منطقة عسكرية محظورا فيها العمل السّياسي والمدني لسنوات، إلى أن رُفع المنع سنة 1962، وبقي العمل بالظَّهير العسكري إلى اليوم.

وتمخّضت على أرض الحسيمة _ نتيجة تفاقم العزلة والتهميش والفقر والهجرة إلى الخارج وغياب العدالة المجالية _؛ سلسلة من الاحتجاجات، أشهرها ما عُرف بانتفاضة 1984، على خلفية الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي خلَّفتها إجراءات الحكومة وإملاءات صندوق النقد الدولي؛ فهَـبّ التلاميذ، وصار على أَثَرهم العمال والطلبة وعموم الجماهير؛ فكانت الأحداث الدامية التي أضرَّت بصورة المغرب إعلاميا وحقوقيا. وآخِرها احتجاجات 20 فبراير، وما تلاها من وقائع واصطدامات متكررة، ظلّت تتحفّز بين الحين والحين، حتى أخذت شَكلها الغاضب في سلسلة الحراك الاجتماعي الذي امتدّ شهوراً كردّ فعل على وفاة الشاب السمّاك محسن فكري، ولما عايشه الشباب من مشاهد التهميش والفساد وغياب تكافؤ الفُرص وتنامي البطالة.

خاتمة

الحسيمة منارة المتوسط؛ ماضيا وحاضرا .. منارة في الكفاح ضد الاحتلال، ومنارة في النخوة والإنجاد والشجاعة والمروءة التي “هي من شواهد الفضل ودلائل الكرم، وحِلية النفوس وزينة الهمم”[10]، .. منارة في تحدي شَظف العيش وتَحمُّل تكاليف الحياة المهمَّشة والجغرافيا والتضاريس الصعبة وضُعف نسب التساقطات، وهجرة اليد العاملة.

المراجع
[1] البادسي عبد الحق بن إسماعيل، "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف"، تحقيق سعيد أعراب، الطبعة الثانية، المطبعة الملكية بالرباط، 1993، ص: 15.
[2] الإدريسي محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الحمّودي الحسني الشريف: "نُزهة الـمُشتاق في اختراق الآفاق"، جُزئين، منشورات مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، مصر، طبعة 2002.
[3] أرسلان شكيب، الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية، الجزء الأول، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت – لبنان، طبعة بدون تاريخ. ص: 69.
[4] https://www.chamalpress.ma/2019/03/9637.
[5] علي بولرباح، التقسيم الترابي المغربي وفق رؤية الجهوية المتقدمة، مطبعة الخليج العربي، الطبعة الأولى 2016.
[6] إنجاز مصطفى أربيب، معلمة المغرب، الجزء الثالث، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، 1989، ص: 758.
[7] المساري محمد العربي، محمد بن عبد الكريم الخطابي؛ من القبيلة إلى الوطن، منشورات المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 2012.
[8] أقوضاض عبد العزيز، مذكرات مؤسِّس وقائد مقاتل في صفوف جيش التحرير، مراجعة ونشر الباحث محمد الخواجة،  الطبعة الأولى 2008.
[9] مصطفى أعراب، الريف بين القصر وجيش التحرير وحزب الاستقلال، الطبعة الأولى، 2002،  منشورات اختلاف، مطابع الصّخيرات.
[10] الماوردي علي بن محمد بن حبيب البصري، أدب الدنيا والدين، دار المنهاج للدراسات والتحقيق العلمي، طبعة 2013، ص: 308.