في قيمة الأحداث والذكريات التاريخية

تُعتَبر الذّكريات التاريخية والمناسبات الوطنية الماضية والغابِرة أحداثاً تاريخيةً تُشكِّل لكل أمة “مرجِعاً” روحيا، وقيميا وتعبويا، تزداد قيمتُها إذا ارتَبَطت بقيمة وأهمية الذاكرة الفردية والجماعية، التي تُخبرنا بالكثير والمهِمّ عن تلكم الأحداث والذكريات والملاحم.

رموزٌ وأحداثٌ وأشخاصٌ وبطولاتٌ تختزِن في ذاكرة الشّعوب، وفي ذاكرة القيادات والشخصيات التي صَنعت تلك الأحداث، ومِن أكثر الرموز تجليا في ذاكرة الإنسان “الوطن”، والذي يجسّد ذاكرة الأمة الجماعية، حيث تَستلهم من ماضيه وحاضره قيم البطولة والمجد والمروءة والتضحية والحرية والدفاع عن النفس[1] وعَظَمة الامتداد التاريخي، وتتعلَّق به وبمن حافَظُوا على استقلاله واستقراره منذ عقود، ويتفاعَل حاضِرُ الأجيال مع ماضي الأجداد والآباء ليُخلِّد ذِكرى عزيزة، كذكرى انطلاق عمليات جيش التحرير بشمال المغرب يوم 2 أكتوبر 1955، من تطوان إلى مرموشة[2].

إنّ أحداث عمليات جيش التحرير بشمال المملكة التي نخلد هذه السنة ذكراها 67؛ تُعَدُّ بِحَقٍّ مَعلمة مُشرِقة في سِجِلّ ملاحم التصدي للوجود الأجنبي ببلادنا، سَعياً للحرية والاستقلال، ورفضاً للقطيعة التي هَدَف الـمُستعمِر إلى إحداثها بين العرش والشعب والقوى الوطنية المناضِلة وجغرافيا الوطن، شمالاً ووسطاً وصَحراءً. وهي الأحداث التي تسترجعها الذاكرة بنوعٍ من الاعتزاز والافتخار؛ كَونها حَقَّقت شطراً كبيراً من أهدافها، وعلى رأس ذلك؛ عودة السلطان المجاهد محمد الخامس ورفيقه في الكفاح والمنفى مولاي الحسن والعائلة الملكية من المنفى السحيق إلى أرض الوطن، والتفاوض حول الاستقلال.

جيش التحرير؛ امتداد المقاومة المسلَّحة في مغرب الخمسينات

وبالعودة إلى انطلاق العمليات الأولى لجيش التحرير بالشمال؛ لا بدّ من التأكيد على أنّ هذه الانطلاقة كانت امتدادا طبيعيا لحركة المقاومة المسلحة التي خاضها المغاربة قُبيل الحماية 1912، حينما انتهكت سلطات الاحتلال الأجنبي حرمة المغرب الذي ظَلَّ لقرون بلدا مستقِلاًّ، وما تلاها من أحداث ووقائع لغاية 1934، سطَّر فيها الشّعب المغربي بتلاحُمٍ من قياداته وزعماء المقاوِمة أسمى قيم البطولة الشجاعة والوحدة بين العرش والشعب والعلماء والمقاومين.

لقد اسْتَـفَزَّ الاستعمار الغاشم الشُّعور الوطني للمغاربة بنفيْ السلطان الشرعي للبلاد محمد الخامس ورفيقه في الكفاح والمنفى الحسن الثاني وأسرتهما إلى كورسيكا ثم إلى مدغشقر، وتنصيب سلطانٍ مزيف، وشكَّلَ إيذانــا بانطـلاق شرارة المقاومـة والعمليات الفدائية. حيث سارع أبناء إيموزار مرموشة وتازة والحسيمة وأكنول والناظور وتطوان إلى الـتَّـنَظُّمِ في إطار “جيش تحرير شمال المغرب” للدفاع عن الشرعية الـمغتَصَبة والعرش الـمُـهَدَّد، ولتعجيل نيْل الاستقلال.

تَـطوَّع المقاومون المتشبِّعون بروح الوطنية الصادقة والحماس الفياض فداء لوطنهم وملكهم ونداء قيادة التحرير؛ وتشكَّل مجلس القيادة في تطوان جسَّدَ “القيادة العامة” لجيش التحرير بالشمال، بينما تشكَّلت في المناطق الأخرى أو ما سَمّاه المؤرخون بــ”مُثَلَّت الموت”[3] القيادات الميدانية التي ستخوضُ معارِكَها الشّرِسة ضدّ القوات الاستعمارية، وسيُبلِي الجميعُ البلاء الحسَن في مواجهة ضارية ضد المستعمِر زَعْزَعَتْ أركانَه وهدَّدت بُنيانه، وأنهت وجوده، فكان ظهور جيش التحرير بالشمال سنة 1955 امتداداً طبيعياً لسيرورة الكفاح الوطني ضد الإحتلال لنيل الحرية والاستقلال كما ذَكَرنا.

جيش التحرير بالشمال؛ تشكيلاته، جغرافية توطّنه، وعملياته

تَشكّلت النواة الأولى لهذا التنظيم من مقاومين مغاربة ينتمون إلى مختلف المناطق، في مرحلة دقيقة من عُمْر الوَطن، وشمِلَت منطقة اجْزناية، وأساسا (أكنول- تيزي وسلي- بُورد)، وكانت قيادته العسكرية بمدينة (الناظور) تحت إشراف عباس المساعدي وعبد الله الصنهاجي، وقيادته السياسية/العامّة بمدينة تطوان تحت إشراف الدكتور الطبيب عبد الكريم الخطيب والمقاومِين الغالي العراقي وسعيد بونعيلات والحسين برادة وحسن صفيّ الدين.

ساهَم التنسيق الجيد بين القيادات العامة والقيادات الميدانية _ رغم الاختلافات السياسية والتقديرية في بعض الأحيان _ والجهود الكبيرة للمتطوّعين من المقاومين في استقدام باخرة محمَّلة بالسلاح قادمة من المشرق بتنسيق مع المناضل المرحوم إبراهيم النَّيِّل السوداني، رَسَت برأس كبدانة في 31 مارس 1955 دعمًا لجيش التحرير بالشمال وجيش التحرير الوطني الجزائري، وهي مناسبَة للتأكيد على الأدوار المهمة التي قام بها المغرب تجاه حركة المقاومة الجزائرية، كما ساهم في تخصيص الوقت للإعداد والتدريب ونقْل قِطَع السلاح عبر ملوية إلى إيموزار مرموشة بإقليم بولمان، وإلى مراكز جيش التحرير بتازة.

وفي فاتح أكتوبر من سنة 1955 انطلقت عمليات جيش التحرير مُستهدِفةً مراكز جيش الاحتلال بإيموزار – مرموشة، وفي اليوم الموالي؛ وَصَلت عمليات جيش التحرير إلى مراكز بُورد وأكنول وتيزي وسلي بإقليم تازة، ومركز سيدي بوزنيب بإقليم الحسيمة. اتَّسَعَت بَعد ذلك رقعة المعارك في مناطق الشمال عموما وبإقليم تازة خصوصا، لتشمل العديد من الدّواوير والمداشر، نذكر منها:

  • معركة بين الصّفوف؛
  • معركة جبل القْرع؛
  • معركة بوسكور وتيزي ودارن؛

وجَميعها مواقِع ومعارِك كبَّد فيها المقاومون المستعمِرَ خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، وجَلَبت الفَخر لأبطال المقاومة.

وما إنْ انضَمَّت إليهم أعداد كبيرة من الجنود المغاربة المنضوين آنذاك في الجيش الفرنسي، فارّين بسلاحهم وعَتادهم؛ حتى تَعَزَّزت صفوف المجاهِدِين من أعضاء جيش التحرير برأسمال بَشَري ومادِّي ساهمَ في توالي الانتصارات التي شكَّلت ثورة عارمة، أضافَت ضَغطا كبيراً فوقَ الضغط والحَرج السياسي الذي كانت عليه الإقامة العامة الفرنسية منذ عَزْلِها للسلطان ودخول إسبانيا طَرَفها في هذا الضَّغط، الأمر الذي جَعَلها تُذْعِنُ لموقف الملك محمد الخامس ومعارك جيش التحرير في الميدان ومُطالَبَات الوطنيين في الرباط وفاس وتطوان وطنجة، وما كان من الحكومة الفرنسية إلا أن رَضَخَتْ لإرادة العرش والشعب والمقاوِمين، واضطَرّت لفتح قنوات الحوار وجلسات الاستماع[4] لكافة الأطراف المغربية والمخزن والمعتدِلين والسياسيين في إكس – ليبان، لترتيب عملية عودة السلطان وتحقيق الاستقلال.

استكمال الـمُراد واستقلال البِـلاد

إنّ انطلاقة عمليات جيش التحرير بشمال المغرب تجاوباً مع نداء القاهرة وصراخ الوطن ونُكْرًا لسياسة الحماية الفرنسية ليُعَدُّ بحقٍّ حدثا بارزا في تاريخنا المغربي الرّاهن، حسَم داءَ الاستعمار، وقاومَ ما وسِعه ذلك سياسات الاحتلال الرامية لتقطيع أوصال البلاد، وقدّم جوابه في الميدان؛ أنَّ الـحقوق تُنتَزع ولا تُعطى، وأنّ صوت البُندقية أبْلغ في الدلالة من صوت المطالَبات بالإصلاحات وتعميم البلاغات السياسية؛ والأهم؛ أنَّ تلك العمليات حقَّقت مُرادها، وتكاملت مع الدور التفاوضي للمثِّلي أحزاب الحركة الوطنية والمخزن والسلطان، رغم ما حدث من اختلافات في تقدير مسألة إيقاف العمليات وموعدها وتحرير كافة التراب الوطني، وساهم في عودة محمد الخامس ظافراً إلى وطنه يوم 16 نونبر 1955، وعجَّل بأُزوف موعد الاستقلال.

لم تتوقَّف هذه الجهود عند هذا الحد، بل أثَّرت نوعيا وجِيليا، وساهمت في تخلُّق فكرة جيش التحرير بالجنوب المغربي للتصدّي لمؤامرات الاحتلال الإسباني ضد أقاليمنا الجنوبية، وأنْعَش آمال كثير من المقاومين والمتطوّعين الذين أصرّوا على عدم وضع السلاح؛ في تحقيق حُلم الوحدة الترابية والسيادة التامة للمغرب على أراضيه.

عقِب الاستقلال؛ دشَّن محمد الخامس علاقاته بالمنطقة التي آوت المجاهدين وأطْلَقت شرارة التحرير بزيارة إلى مدينتَيْ تازة والناظور يومي 14 و15 يوليوز 1956، إشارةَ تقدير وشكْر لساكنة المنطقة ولأعمال جيش التحرير، وتَفَقُّداً لأماكن قياداته الميدانية وعملياته النوعية، ثم دَعا إلى تأسيس القوات المسلحة الملكية، مما عجَّل في تفكيك خلايا وتشكيلات جيش التحرير بالريف والشمال وانضمام كثير من عناصره إلى الجيش الوطني.

المراجع
[1] علال الفاسي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة السابعة 2010، ص: 12.
[2] المقاومة ومعارك التحرير بمنطقة الريف، ضمن العدد 5 من مجلة الذاكرة الوطنية، لسنة 2003. انطلاق عمليات جيش التحرير بالشمال سنة 1955؛ مرحلة تاريخية من الكفاح الوطني"، "جيش التحرير المغربي؛ النشأة والمسار" ملف العدد 19 لــمجلة الذاكرة الوطنية، طبعة 2012.
[3] من الكتابات التاريخية الموجَّهة للطفولة والناشئة، كتاب "مثلَّث الموت؛ قصة انطلاقة جيش التحرير المغربي"، للكاتب أحمد عبد السلام البقالي، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى 2021.
[4] Mehdi Ben Barkan, Option révolutionnaire au Maroc, Ed. Maspero, Paris, 1966.