مقدمة

تَستحضِرُ الذاكرة الوطنية المغربية يوميْ العودة والانبعاث وعيد الاستقلال شهرَ نونبر من كل سنةٍ بقدْر كبير من الاعتزاز والافتخار، ولا سيما حَدث عودة السلطان محمد الخامس مِن منفاه الذي وضَعته فيه الإقامة الفرنسية بــ “أنتسيرابي” في مدغشقر، إلى أرض الوطن يوم 16 نـوفمبر 1955، باعتباره حدثً مِفصليا في تاريخ المغرب الـرّاهن، جَدَّد شرعية الملكية الدينية والسياسية والسيادية، وأدْخَل المغربَ طَور الاستقلال والحرية بعد 44 سنة من الاحتلال. ومن مُصادَفات التاريخ؛ أنّ السلطان محمد الخامس جلس على عرش أسلافه يوم 18 نونبر 1927، وأعْلَن عن استقلال بلاده يوم 18 نونبر 1955.

الذاكرة الفردية والجماعية كشاهد على العودة والاستقلال

تُخبرنا المذكِّرات الشَّخصية[1] لقادة النضال السياسي والمقاومة المسلّحة والحوارات التي أٌجْرِيت مع مَن بقي منهم حيا يُرزق عن خبايا وخفايا الوضْع العام بالمغرب ما بين 1953 – 1956، وعن طرائق تدبير عودة السلطان، والتنسيق العالي بينه ورجالات الحركة الوطنية وطلائع المثقّفين الفرنسيين الأحرار، كما تُفيدنا بشهادات[2] نوعية عن أدوار قادة الكفاح الوطني في تثوير الشَّعب للقيام بثورة ضدّ المحتل، والعمليات البطولية لــ “المنظَّمة السرية” لحزب الاستقلال، ومنظمة “الهلال الأسود” التابعة للحزب الشيوعي المغربي، ولاحقاً؛ جيش التحرير بالشمال والجنوب.

كما أماطت اللثام عن الوجه السافر القبيح لرجال الإقطاع المغربي والمتنفّذين أمثال الباشا الكلاوي وعبد الحي الكتاني ومحمد المقري وباقي العناصر المناوئة للمسار التّحريري للشعب المغربي.

وقد لعبت قيادة حزب الاستقلال وعلى رأسهم الزَّعيم الوطني الكبير المهدي بن بركة دوراً كبيراً في تنظيم عملية استقبال السّلطان محمد الخامس بمطار الرباط، وتحشيد الشباب والمواطنين، وتدبير مكان وزمان إلقاء الخطاب الملكي، وإعداد لافتات أصَرّ على أن تضمَّ لفظة “الاستقلال”. هو ذاته الزعيم الذي أفضى ذات يوم إلى (الجنرال أوفقير) قائلا: “..ينبغي بالخصوص أنْ لا يعود محمد الخامس إلى المغرب قبل أنْ نطمئنّ على أنْ لا يلعب إلّا دورا رمزيا”[3].

لقد كانت لعودة السلطان المكافِح مفعول السّحر في زيادة شعبيته، وامتياز تاريخي لكفاحية القوى الوطنية المعتبرة، وإيذانا بتدشين عهدٍ آخر، ظاهره الانتصار على الاستعمار، وباطنه الاختلاف حول المشروعية وشَكل بناء الدولة الوطنية، والتحوّل من السلطانية الشَّريفية إلى الملكية الدستورية، وعمليات الشذّ والجذب بين حزب الاستقلال المرشَّح وقتئذ لأن يكون الحزب – الدّولة ومحمد الخامس “سيّد الساعة بتعبير بيير فيرموريين”[4] وولي العهد الحسن الثاني المتعطّش للسطة. إلا أنّ الحظّ التاريخي أبى إلا أن يبتسِم للملك الذي سيُنجز بنجاح مختلف مراحل الهيمنة الملكية على الحكم.

ومما هو جدير بالذِّكر والتنويه أنَّ أيام الاستقلال ما كانت ليبزُغَ فجْرُها لولا ذلكم المسار النضالي الـمُشرِّف للمجاهدين والمقاومين منذ مطالع 1912، والانتفاضات القبائلية الثائرة في وجه سلطات الاحتلال بالأطلس الكبير والأطلس المتوسط والجنوب الشرقي، والإسهام الكبير للقادة السياسيين والأحزاب والممثِّلين للحركة الوطنية في نيويورك وباريس ومدريد وجنيف والقاهرة؛ الذين لم يدَّخِروا وُسعاً في تَدويل القضية المغربية، وفي التَّرافع عن السلطان الذي أدَّى ضريبة إيمانه بقيمة الوحدة والتمسك بسيادة اسمه وعرشه على كافة التراب المغربي، وأدّى ثمن تقارُبه مع القوى الوطنية النَّفيَ والإبعاد، فتعزَّزت إرادات المغاربة وصمود الملك في تحقيق المطالب التي أضْحَت مُستَعْجَلة وواضحة جداً بعد 20 غشت 1953.

شخصية الملك.. حاجة المغرب للقيادة الجامعة

وَجَّه المؤرخ والمفكّر عبد الله العروي _ حينما كان يُحضِّر أطروحتَه المرجعية (الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1830 – 1912)[5] _ السؤال الآتي للأستاذ علال الفاسي:

-س: “لدينا حالة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وحالة محمد الخامس، هل معنى ذلك أنّنا نحتاج دائماً إلى رجل مُنقِذ؟”

-ج: “يحتاج المغرب أن يكون على رأسه شخصٌ يحظى بحبّ واحترام الساكنة.. ما لم يكن الأمر كذلك، وفي غياب سياسة توحيد ناجحة؛ هناكَ خطر التّـشتُّت”!

في هذا الإطار يمكن فهْـم معنى إصرار المُحاوِرين الوَطنيين في جلسات استماع (إكس – ليبان)[6] على عودة السلطان أوَّلاً، والاستقلال ثانيا. وفهْم جانِبٍ من مغزى تعلُّق القوى الوطنية المناضِلة والشعب المغربي بشخص الملك محمد الخامس، الذي بَدا لهم رَجُلاً وفَّـى بمثياق النضال الوطني إلى جانب أبناء الشعب، فأدّى ضريبة المنفى، وعليه؛ يتوجَّب مبادَلته هذا الوفاء بوفاءٍ أكبر، وإعادته لأرض الوطن.

ولذلك كانَت لحظة إعادة الملك إلى بلاده ذات تأثير عميق في الوجدان العام للمغاربة وفي مجرى التاريخ الوطني الراهن، ودلَّل على خُصوصية فريدة طَبعت كفاح الشعب والعرش من أجل الاستقلال، ذلكَ أنه في الوقت الذي كانت فيه طلائع القوى الوطنية وجيوش التحرير في تونس والجزائر وليبيا _ لاحقا _ ومصر؛ تُواجه الاحتلال، وتُطيح بالمَـلكيات (الدّايات في حالة تونس، والبايات في حالة الجزائر والفاروقيين في حالة مصر والسنوسيين في حالة ليبيا)؛ كان جيش التحرير المغربي والوطنيين وحتّى النخبة المخزنية الـمعتدِلة تُطالِب بنقطتين في جدول المفاوضات مع فرنسا: عودة السلطان واستقلال المغرب.

ولأنَّ المغاربة وَعَـواْ صُعوبةَ اجتماعِ كلمتهم على شخص آخَر، رغم أنّ المغرب كان غاصّا برجالات أفذاذ وشخصيات لها وزن ثقيل في الأوساط الاجتماعية وخِبرة في تدبير أمور المملكة الشَّريفة وقادة روحيين وأقطاب الحركات المتصوِّفة والعائلات العريقة، إلا أنّ الارتفاع بشخصية محمد الخامس إلى “رَجُــل الساعـة” بتعبير المؤرخ الفرنسي (بـيْـير فِـيرموريين) كان في صَميمه تعبيراً من المغاربة عن تَجَذُّر مسألة الشَّرفاوية أو النَّـسب الشريف فيهم وتعلُّقهم بأبناء العترة النبوية، وتوفِيتهم بالعهود ومُبادَلتهم الوفاء بوفاء، وتطلُّعهم للاستقرار ولَمِّ الشمل ودوام الوحدة، ولا أدل على ذلك؛ من رفْضهم القاطِع لــ(محمد بن عرفة) وهو ابن السلالة العلوية.

خاتمة

التاريخ المغربي حابِل بالدروس والـقيم والمعاني، يمكن استخلاصها في أبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية، ويمكن لحَدثٍ واحِد أن يُشكِّل للمؤرخ والباحث والأجيال الحالية “ديوانَ عِـبر”، ومُبتَدَأ فهْمٍ لطبيعة المغرب وخَبَرْ، وللمغاربة، مَن هم؟ ما مزاجهم؟ كيف تشكّلت عقلياتهم؟ كيف دام حُكم الأسَر الشَّرفاوية فيهم؟ لماذا انتقَـلُوا من إيديولوجية العَصَـبَـية إلى أدْلوجة النسب الشريف كَـبِـنْية مؤسِّـسة للحكم منذ 1510م؟ كيف صَنعوا خُصوصياتهم النضالية والسياسية؟ لماذا يَميلون للكرامة وعزّة النفس ويكرهون التشرذمات ويفضّلون الوحدة والاستقرار؟ لماذا استقرَّت اختياراتهم الدينية والمذهبية طيلة قرون بهذه الكيفية والـمتانة التي نراها عليها اليوم؟ ما سِرُّ تقديرهم للملك الراحل محمد الخامس وتشاورهم معه في كل صغيرة وكبيرة وإصرارهم على إرجاعه لعرشه بعدَ تجربة نفْـي قاسية؟ لماذا تمسَّكوا بالملكية رغم اختلافهم مع شخص الملك في كثير من قضايا بناء الدولة الوطنية الحديثة بعد الاستقلال؟.

المراجع
[1] بوطالب عبد الهادي، ذكريات شهادات ووجوه، الجزء الأول، الشَّركة السعودية للأبحاث والتسويق 1992 - العلوي مولاي إسماعيل، النضال الديمقراطي في المغرب: رهانات الماضي وأسئلة الحاضر، منشورت مجلة وجهة نظر، طبعة 2017.
[2] الفيلالي عبد اللطيف، المغرب والعالم الخارجي، تقديم: هوبير فيردين، مطبعة دار النّشر المغربية، الدار البيضاء – المغرب، الطبعة الأولى 2008.
[3] بوتان موريس، الحسن الثاني، ديغول، بن بركة؛ ما أعرفه عنهم، ترجمة رشيد برهونس، مراجعة عثمان بناني، منشورات دفاتر وجهة نَظر، عدد 29، طبعة 2015.
[4] موريين بيين فير: "تاريخ المغرب منذ الاستقلال"، ترجمة: عبد الرحيم حزل، منشورات إفريقيا الشّرق، طُبِع بِدعم من مصلحة التعاون الثقافي التابعة لسفارة فرنسا في المغرب، الطبعة الأولى 2009.
[5]  العروي عبد الله، الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1830 – 1912، المركز الثقافي العربي، تعريب محمد حاتمي ومحمد جادور، الطبعة الأولى 2016.
[6] جبرو عبد اللطيف؛ "نقاش مع جون واتر بوري حول كتابه عن أمير المؤمنين والنخبة السياسية المغربية"، منشورات سلسلة أحاديث ونقاشات مغرب القرن العشرين، مطبعة فضالة، الطبعة الأولى 2005.