جذور الطائفة الأندلسية

الطائفة الأندلسية، من الطوائف الدينية ظهرت في المغرب أوائل القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، والتي تزعمها الفقيه محمد الأندلسي. وإذا كانت الطائفة طارئة على المغرب فإن تعاليمها قديمة في الأندلس، حيث ترجع إلى القرن السادس الهجري أو ما قبله. ويعتبر شيخها في المغرب محمد الأندلسي من كبار علماء عصره وأكثرهم تضلعا في العلوم الشرعية، وعرف عنه أنه كان ينحو منحى ابن حزم الظاهري ويبالغ في انتقاد أئمة المسلمين، خصوصا مالك ابن أنس، حتى لقب أنصاره ب”المحمدية” وغيرهم ب”المالكية”، إشارة إلى أن هؤلاء ابتعدوا عن رسول الإسلام وتشبثوا بغيره. وليس هذا فقط، بل تجاوز الأمر إلى مقام الرسول (ص) بذريعة تقديس الخالق القديم تعالى وتنزيهه عن أن يشاركه في قدسيته مخلوق مهما كان نبيا أو غيره.[1] ورغم هذه الآراء الصادمة للطائفة ورئيسها فإن الطائفة وجدت لها أرضية في المغرب بسبب دهاء محمد الأندلسي الذي عرف كيف يداري جماعة من العلماء، وكذا قدرته على الدفاع عن نفسه وعدم إظهار آرائه أنها مخالفة لتعاليم الإسلام، بل هي موجهة ضد أسلوب بعض الفقهاء الجامدين. وقد اشتهر أمر محمد الأندلسي بالمغرب وكثر أنصاره وكذا خصومه سواء بين العلماء أو عامة الناس. أما الجالية الأندلسية فقد وقفت إلى جانبه وناصرته والتفت حوله، الأمر الذي حول طائفته في وقت من الأوقات إلى حركة دينية – سياسية تناهضها السلطة، وهب أغلبية العلماء للرد عليها والإفتاء بفساد تعاليمها وخروج أتباعها عن الدين. وبسبب ذلك سجن محمد الأندلسي أكثر من مرة، ونشبت مواجهات بين أنصاره وخصومه في مراكش وفي غيرها سواء بالكلام أو بالعنف.[2]

شيخ الطائفة.. أبو عبد الله محمد الأندلسي

هو فقيه ومتكلم ومتصوف من أصول أندلسية، ويبدو أنه هاجر هو وأبوه من غرناطة بعد سقوطها واستقر بمدينة مراكش. ورغم عدم وجود معلومات مهمة وكافية حول فترة دراسته وأساتذته، فإن المصادر التاريخية المتوفرة وقفت بشيء من التفصيل على بعض آرائه. وقد كان محور أفكاره يقوم على مهاجمة عنصرين أساسين في الحياة الدينية بالمغرب في ذلك الوقت، يتعلق الأمر الأول بفقهاء المالكية، والعنصر الثاني هو شيوخ الطريقة الجزولية الشاذلية الذين تميزا بحرصهم الشديد على محبة الرسول (ص)، والمتخذون من الصلاة عليه أورادا لمريديهم يتلونها آناء الليل وأطراف النهار، والتي ألف لهم في ذلك شيخها محمد بن سليمان الجزولي الكتاب الشهير:”دلائل الخيرات وشوارق الأنوار“. فقد كان الأندلسي يتبنى المذهب الظاهري، ويوظف بعض آراء ابن حزم الظاهري للنيل من الإمام مالك ابن أنس ومذهبه الذي كان سائدا في المغرب، وكان ينتقد تشبث الفقهاء بالنصوص المذهبية وإعراضهم عن ظاهر الكتاب والسنة. كما كان ينتقص من قدر الرسول (ص) بدعوى إفراد الخالق تعالى بالتقديس، والقول بأن تعظيم النبي (ص) وذكر اسمه مع إسم الجلالة إشراك بالله تعالى.[3]

وبسبب انخراط أنصار الطائفة في الأحداث السياسية زمن الدولة السعدية والتي أدت إلى خلع محمد المتوكل وتولي عمه عبد الملك المعتصم الحكم، فقد تم إعدام محمد الأندلسي. ففي غمار الفتنة السياسية والمعارك الطاحنة التي نشبت بين الملكين في الجنوب، تمكن محمد المتوكل من دخول مراكش لمدة قصير سنة 984ه/1576م، فانتزع محمد الأندلسي من بين أنصاره وسط فتنة عارمة، وأسلمه للعامة فقتلوه وصلبوه على باب داره بحي رياض الزيتون بمراكش.[4] وقد خلفه في رئاسة الطائفة عبد الخالق الومغاري.[5]

العلماء والطائفة الأندلسية

اختلفت آراء العلماء حول هذه الطائفة ومعتقداتها وآراء رئيسها، بين متشدد ومتساهل ومتوقف. ومن العلماء المغاربة الذين انبروا للرد على الطائفة الأندلسية وبيان فساد معتقداتهم نذكر: أبو القاسم ابن سلطان القسنطيني خطيب جامع القصبة بتطوان، وأحمد بن حسن الورياكلي المعروف بالصغير، وكان في بداية أمره أندلسي المذهب، ثم انفصل عنهم، لكنه تعرض للاغتيال من طرف الأندلسيين. كما رد على مقالتهم أحمد ابن القاضي، الذي قال عن رئيسهم: “رئيس الطائفة، ومخترع البدعة العظيمة المضرة بالسنة السمحة الحنفية، فأهلكم الله وأتباعه، وأخلى منهم الأرض”.[6] ومما قال عنهم المؤلف المجهول صاحب “تبصرة الرئيس الأمين في ذكر شرط إمام المسلمين”؛ “وأما الطائفة الأندلسية-أذلهم الله وأخلى منهم الأرض- فشرذمة قليلون. ونبغ شيخها وذبيحها بمراكش، وانتشرت بدعتها بسلا، وظهر شيء منها بمكناسة الزيتون، وخفي أمرها بفاس إلا النادر لكثرة الفقهاء والأشراف بفاس”.[7] وفي كتابه “سراج الغيوب في أعمال القلوب” رد عليهم عبد الكبير بن عبد المجيد الكثيري، وأورد فيه نص مناظرة وقعت بينه وبين أحد دعاة هذه الفرقة.[8]

أما ابن عسكر صاحب “دوحة الناشر” فقال عنه: “ومنهم الشيخ أبو عبد الله محمد الأندلسي نزيل مراكش. كان هذا الرجل يتبع طريق الجادة في المعاملات، وكان مولعا بعلم الإقتباس وسر الحرف وعلم الكمياء والرياض والطب وعلم الهيئة والطبيعة. أخذ عن أشياخ جمة وعول على الشيخ أبي الحسن علي بن أبي القاسم حسبما هو في ترجمته، ولكنه كان كثير الوقع في الأئمة فنحا منحى ابن حزم الظاهري، وشاع ذلك عن أصحابه، فأفتى الفقهاء مراكش بتضليله”.[9] ويقول في موضع آخر: “لقيته مرارا وتكلمت معه، فكان يتنصل من أكثر ما نسب إليه ويظهر التمسك بالسنة والإضراب عن القول بالرأي والقياس ويعيب طريقة الفقهاء.”[10]

من تعاليم ومعتقدات الطائفة الأندلسية

بالإضافة إلى الآراء التي وقفنا عليها لشيخ ورأس الفرقة الأندلسية، فقد أورد المؤرخ محمد حجي في كتابة “الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين” ملخصا مركزا لبعض تعاليم هذه الطائفة المثيرة للجدل، وهي كالأتي:[11]

  • الاجتهاد في الأحكام الشرعية جريا على ظاهر الكتاب والسنة، وعدم تقليد مالك أو غيره من الفقهاء.
  • إنكار أحكام جزئية مشهورة عند جمهور المسلمين، فقالوا بعدم مشروعية الدعاء دبر الصلوات، وعدم وجوب إعادة الصلاة إذا خرج وقتها.
  • استنكار ذكر النبي (ص) مع الله تعالى في الشهادة وغيرها، “لأن ذكر المحدث لا يفيد، ولا يفيد إلا ذكر الله القديم سبحانه”، بل قالوا أن الإكثار من ذكر النبي عليه السلام حجاب عن الله.

خاتمة

بعد مقتل شيخها محمد الأندلسي انتعشت الطائفة الأندلسية في المدن والحواضر التي تركز فيها الأندلسيون كمدن سلا وتطوان والمناطق القروية شمال المغرب، كما اعتنقها بعض الفقهاء وذلك قبل أن يتبرؤوا منها، كأبو القاسم بن سلطان القسنطيني (توفي 999ه/1591م) الذي ألف في الرد عليهم كتابا في مجلدين، والفقيه أحمد بن حسين الورياكَلي (الصغير) الذي ألف مؤلفا شهر فيه بالطائفة مما دفع بالطائفة إلى اغتياله. وقد استمر تواجد هذه الفرقة إلى عهد المولى إسماعيل بن الشريف العلوي، ثم أخذت تلجأ إلى العمل السري وانحصرت –كالفرقة العكازية (العكاكزة)– في بعض جهات البادية المغربية بعد أن تصدى لها -وغيرها- المولى إسماعيل بالقمع والتنكيل.[12]

المراجع
[1] حجي محمد، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، ج1، منشورات دار المغرب للتأليف والنشر والترجمة والنشر، 1976، ص 241.
[2] محمد حجي، معلمة المغرب، ج3، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ودار الأمان، ط1، 1989، ص 826.
[3] حجي محمد، معلمة المغرب، ج3، مرجع سابق، ص 826.
[4] حجي محمد، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، ج1، مرجع سابق، ص 241-242.
[5] أحمد بن محمد المكناسي (ابن القاضي)، درة الحجال في أسمال الرجال، ج2، مرجع سابق، ص 36.
[6] أحمد بن محم المكناسي (ابن القاضي)، درة الحجال في أسمال الرجال، ج2، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور،دار الكتب، ط1، 1981، ص 35.
[7] حجي محمد، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، ج1، مرجع سابق، ص 242-243.
[8] حجي محمد، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، ج1، مرجع سابق، ص 244.
[9] الشفشاوني محمد بن عسكر الحسني (ابن عسكر)، دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العشر، منشورات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، تحقيق محمد حجي، الرابط 1977، ص 109.
[10] الشفشاوني محمد بن عسكر الحسني (ابن عسكر)، دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العشر، مرجع سابق، ص 109.
[11] حجي محمد، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، ج1، مرجع سابق، ص 242-243.
[12] حجي محمد، معلمة المغرب، ج3، مرجع سابق، ص 828.