توطئة

تعيش ساكنة آيت بوخيو بجماعة آيت رحو بقيادة آيت بوعزة بإقليم خنيفرة وسط المغرب، منذ أسبوع حالة من الرعب والهلع بعد ورود أخبار عن تعرض فتاة ذات العشرين ربيعا لهجوم مباغث من طرف “أسد”، عندما كانت ترعى الماعز في الغابة صباحا. وبحسب تصريحات الفتاة أنه “أسقطها أرضا وسط الحجارة، وذلك قبل أن ينقض على ركبتها، محاولا افتراسها بالقوة”، وأشارت إلى أنها “جت منه بصعوبة، وأنه على الرغم من بكائها وطلبها للنجدة إلا أن لا أحد ساعدها، نظرا لكونها كانت تتواجد بالجبل ولم ينتبه أحد لصراخها “، وأنه “لولا دفاعها عن نفسها بواسطة عصى كانت بحوزتها لكانت في عداد الموتى”، و قالت أنها “لم تصدق في البدء أن الأمر يتعلق بأسد، واعتقدت أنه مجرد حيوان عادي، إلا أن الشعر الملتف حول عنقه جعلها تشعر بالخوف والرعب الشديد، وتتأكد أن مهاجمها هو أسد”، وهو ما اضطرها إلى الفرار منه بأعجوبة، والاستنجاد بأسرتها التي تقطن بجوار الغابة. وقد جرى يوم الحادث نقل الفتاة إلى مركز صحي بآيت بوعزة، حيث ضُمدت جراحها وأخذت حقنتين. وقالت المتحدثة ذاتها، “إنها وكل ساكنة المنطقة الجبلية أصبحوا يعيشون الرعب ويتخوفون من أن يتعرضوا للهجوم من طرف الأسد الذي يختبئ وسط الغابة”، الشيء الذي ارتفعت معه المطالب بضرورة تدخل السلطات للقبض على هذا الحيوان المفترس.

الأسد البربري.. ملك جبال الأطلس

بعيدا عن التضارب في صحة رواية الفتاة أم لم تصح، فإنها تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن أسد الأطلس المغربي (الأسد البربري، كما يسمونه) آخر ملوك جبال شمال أفريقيا، هو ابن هذه الأرض، وليس أسدًا وافدا، وحتى لو ظهر مجددا في هذا المكان وتم توثيق هذا التواجد بالكاميرات أو الهواتف فسيكون أمرا تاريخياً ورائعاً، ولن يكون أمرا مستغربا، لأنه كان يعيش بالمنطقة إلى مطلع القرن العشرين، يسكن السهول ومرتفعات الأطلس ويصطاد بالقرب من الأنهار، بعد أن ساد في كل مناطق شمال إفريقيا، من المحيط إلى النيل. ويعد تراثاً حيوانياً ذا قيمة لا تقدر بثمن، أخذ، بعد الذئب والقنفذ، “حصة الأسد” في الحكايات الأمازيغية. كما أنه ورد في أقدم حكايات أمازيغية مكتوبة تحت عنوان: (حكاية الأسد الحقود التي كانت تُحكى إلى أمد قريب)، وقد عُثِرَ على تلك الحكايات في مكتبة الإسكندرية، قبل إحراقها بقرون، فتُرجمت إلى اليونانية واللاتينية، وكانت تدرس لأطفال الرومان قرونا. وذكر جلال الدين السيوطي في وصف أسد الاطلس ((منتهى الحيوان السبع وأكثره وأكبره ببلاد المغرب قدر عجل الجاموس وإذا صرخ كأن القيامة قد قامت، تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولم يجعل الله تعالى في قلب السبع هيبة لأحد من الخلق، بل كلهم عنده كالكلاب والذباب وإذا غضب أو ُنوزع أو غولب لا يّنهزم أبدًا، وله كرم وهمم وشيم).

وكان الرومان ينقلون الأسود من شمال إفريقيا إلى روما بأقفاص مغلقة تماما ويسجونها لأيام عديدة بلا طعام لتصبح أكثر شراسة، ومن تم يطلقونها على المجالدين والمجرمين المحكوم عليهم بالإعدام بما فيهم المسيحيين في ذاك الوقت. لكن يبدو أن فرنسا، بنحتها لصورة أسد الأطلس (الأسد الأمازيغي) في حجر بمدينة إفران المغربية، قد “أرسلت إرسالية مشفرة للمغاربة عامة وللأمازيغ خاصة، مفادها أن “رمز شجاعتكم، منذ أقدم العصور، قد أصبح اليوم تمثالا حجريا !”. وحسب الباحثين، قتل آخر أسد في جبال الأطلس المغربية سنة 1922م على يد بعض الصيادين الفرنسيين، حين كانت فرنسا تستعمر المغرب. وتقول رواية أخرى أن آخر مرة شوهد فيها أسد الأطلس في الطبيعة بالمغرب كان في أربعينيات القرن العشرين، إذ التُقطت له صورة من إحدى الطائرات الفرنسية وهو يمشي وحيدا بفروه الأسود المميز، وسط ثلوج جبال الأطلس بالقرب من الطريق التي توصل مراكش بورزازات.

أسد الأطلس رحلة الانقراض في البرية

وتعرّضت أسود الأطلس للانقراض من الطبيعة تدريجيا بسبب الصيد المفرط والعشوائي، خصوصا في فترة الاحتلال الفرنسي للمغرب (1912م-1956م)، إذ كان الصيادون يصطادونها للظفر بفروها وجلدها ولتهريبها إلى دول أوروبا، إلى أن اختفى هذا الحيوان من الوسط الطبيعي. ومع وصول الصيادين الأوروبيين إلى المنطقة في القرن التاسع عشر، تراجعت أعداد الأسود بشكل رهيب، حيث كان المرشدون المحليّون يتعقبون أثارها في جبال الجزائر وتونس والمغرب كي يصطادها صياد ما أو يُقبض عليها لغرض بيعها لحدائق الحيوانات. ذلك أن الكثير من “المستوطنين” وملاك الأراضي الفرنسيين أصبحوا صيادين للأسود في شمال إفريقيا، حيث قتل ما يزيد على 200 أسد في الجزائر ما بين عاميّ 1873م و 1883م.

وكان وراء انقراض الأسود البربرية من البرية أيضا التغيرات البيئيّة التي جرت من حولها، حيث كان لإزالة الغابات وتعريتها لإقامة مراعي للأبقار تأثير كبير على أنواع الطرائد التي تعتمد عليها في غذائها، كالأيائل والغزلان، مما أدى إلى تناقص أعدادها وتناقص أعداد الأسود بالتالي التي لم تكن قادرة على اقتناص الماشية التي أحضرها الفرنسيون بما أنها كانت تُحرس بشكل جيّد، ومن تم كان الصيد المكثّف الضربة القاضية بالنسبة لهذه السلالة.

واعتقد لفترة طويلة بأن أسد الأطلس انقرض تماما ولم يبق منه أي أفراد حية، إلا أن بعض الأسود التي يحتفظ فيها في حدائق الحيوانات و”السيركات” أظهرت، خلال العقود الثلاثة الماضية، بعضا من السمات التي جعلتها تعتبر من السلالة البربرية، أو مرشحة لتكون كذلك على الأقل. ولم تتبقَّ منه إلا أعداد محدودة جدا في حديقة الحيوانات الخاصة بالقصر الملكي في الرباط. وفي بداية السبعينيات، نُقلت جميع حيوانات الحديقة الملكية، بما فيها أسود الأطلس، إلى حديقة الحيوانات بالرباط، التي يشكل حماية الأنواع الحيوانية المهددة بالانقراض إحدى مهامها الرئيسية. والحديقة الملكية بحيواناتها وأسودها الأطلسية، هي التي شكلت فيما ما بعد نواة الحديقة الوطنية في العاصمة الرباط بعد استقلال المغرب عن الاحتلال الفرنسي، والتي يعد أسد الأطلس رمز افتخارها عبر العالم، حيث لا يزال يعيش في بعض حدائق الحيوانات المعدودة على رؤوس الأصابع في العالم، ومنها حديقة الحيوان بالرباط. ويستقبل تمثال كبير لأسد الأطلس الزوار الذين يأتون يوميا لاكتشاف حديقة الرباط التي أعيد افتتاحها بداية 2012م.

أسد الأطلس.. إرث وطني يأبى النسيان

وتحتضن حديقة الحيوانات في الرباط ما يناهز الأربعين أسدا، وتأوي «أكبر عدد من أسود الأطلس في العالم»، وهي أكبر مجموعة أسود تحتضنها حديقة في العالم، مما يؤكد، حسب إدارة الحديقة، انسجام هذا النوع مع ظروف وبيئة هذا الفضاء بحديقة الحيوانات، لا سيما على مستوى القدرة على التوالد عند هذا النوع المهدد بالانقراض. وتقدم الحديقة، على موقعها الرسمي، معطيات حول أسد الأطلس، عبر ربطه بجبال الأطلس، مشيرة إلى طوله، واسمه العلمي (بانثيرا ليو ليو)، وأنه من فئة «الثدييات»، مدة حياته (30 سنة)، فيما تقول بخصوص حالته إنه «منقرض من الطبيعة». وصرح عبد الرحيم الصالحي مدير العمليات في الحديقة الوطنية في الرباط، لوكالة فرانس برس «اعتقدنا لفترة طويلة أن أسد الأطلس انقرض تماماً ولم يبق منه شيء، لكن ملك المغرب محمد الخامس كان ما زال يحتفظ في القرن الماضي ببعض هذه الأسود إلى جانب حيوانات أخرى في حديقته الخاصة»، وأضاف أنها «هي التي شكلت فيما ما بعد نواة الحديقة الوطنية في العاصمة الرباط بعد استقلال المغرب عن الاحتلال الفرنسي».

وأصبح أسد الأطلس جزءا من شعار المملكة المغربية الذي اعتُمد عام 1957م، حيث يحيط أَسَدان بتاج الملك في شعار الحكم كرمز لحماية العرش. ويعرف العرب أسد الأطلس على الخصوص بفضل كرة القدم، حيث إنها لقب المنتخب المغربي تيمنًا بهذا الضاري المتخفي. وخلال المواعيد الكروية التي تخوضها المنتخبات الوطنية لكرة القدم، بمختلف فئاتها، سواء تعلق الأمر بالكبار أم بالشبان، بالرجال أم بالسيدات، فمنتخب الكبار يلقب بـ «أسود الأطلس»، ومنتخب الشبان بـ «أشبال الأطلس»، فيما يطلق على منتخب السيدات لقب «لبؤات الأطلس»، مثلما يحمل المنتخب الإيفواري لقب “الفيلة”، والمنتخب السنغالي لقب “أسود التيرانغا”.. وقد أصبح رمزا لشجاعة المقاومة الأمازيغية ضد كل محتل، ويلقب به الفقيد محمد بن عبد الكريم الخطابي (أسد الريف) في مقاومته للاحتلال الإسباني في بداية القرن العشرين، وسميت به كثير من أسماء الأماكن عبر شمال إفريقيا، كما أصبح رمز الحديقة الجديدة للحيوانات بتمارة -ضواحي الرباط، كما أنه كان رمزا لعلامات تجارية لمجموعة من المنتوجات الوطنية المغربية. ويتسابق زوار مدينة إفران في الأطلس المتوسط على التقاط صورة مع أسدها الشهير، والذي تتضارب الروايات حول نحاته، إذ يقول السكان إن سجيناً من الحرب العالمية الأولى، يدعى “هنري مورو”، هو من نحته، تخليداً لأسد الأطلس.

وأُطلق على أسد الأطلس هذا الاسم نسبةً إلى جبال الأطلس التي كان يستوطنها، وتمتد من الجنوب المغربي إلى شمال تونس. ويحظى هذا الحيوان بمكانة مهمة في الثقافة المغربية، إذ كانت القبائل في الماضي تصطاد الأسود والأشبال بحكم وفرتها في مناطق كثيرة وتهديها للسلاطين كعربون ودليل على المبايعة والولاء للسلطان الذي كان يحتفظ ببعضها في حديقته الخاصة. وأهدى سلاطين المغرب، خلال فترات تاريخية مختلفة، بعض الحيوانات إلى دول صديقة وحليفة. ففي عام 1235م، قام الخليفة الموحدي محمد الناصر بإهداء ثلاثة أسود من أسد أطلس لحديقة الحيوانات الملكية في لندن، وفي عام 1839م أهدى السلطان العلوي عبد الرحمن بن هشام أسدا ولبؤة لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية مارتن فان بيورين.

خاتمة.. عود على بدء

في دجنبر 2022، أعلن المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث في المغرب اكتشاف بقايا عظمية لأسد الأطلس داخل مستويات أركيولوجية يعود تاريخها إلى أكثر من 100 ألف سنة. كما عُثِر على اللقى الأثرية لأسد الأطلس في سبعة مواقع في المملكة، وهي عبارة عن بقايا عظمية أحفورية تعود لفترات زمنية مختلفة، ما مكّن من تتبع تاريخ أسلاف أسود الأطلس لفترة تتجاوز مليوني سنة. وكان “بوزوكار” مدير معهد علوم الآثار والتراث في الرباط قاد فريق البحث في موقع “بيزماون” (عبارة أمازيغية تعني “موطن الأسود”) في إقليم الصويرة، وسط غربي البلاد، حيث عثر على اللقى الأثرية لأسد الاطلس والتي كانت ذات يوم أسودا في الغابات المغربية، من تطوان إلى الصويرة.

واكتُشفت بقايا عظمية أخرى في مواقع أثرية عدة، كمغارة وحيد القرن (700 ألف سنة)، وجبل إيغود (300 ألف سنة)، ومغارة السنوريات (95 ألف سنة و115 ألف سنة) و”إفري ن البارود” (عبارة أمازيغية تعني “مغارة البارود”) (14 ألف سنة) وكهف تحت الغار (6 آلاف و5 آلاف سنة)، واكتشاف عظام متحجرة في موقع أهل الغلام “الدار البيضاء“، يعود تاريخها إلى مليونين ونصف سنة نسبت إلى نوع “دينوفيليس” الذي يمكن أن يشكل سلفا للأسد. وتم اكتشاف بقايا عظمية أخرى في مغارة بيزمزن (150 ألف سنة).

ومكّنت هذه البقايا العظمية التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين من التعرّف بشكل أكثر دقة على أسد الأطلس الذي يقترب من شكله الحالي، وتحكي جميعها حكاية زئير يمتد لآلاف السنين، وتُعرض هذه الحكاية للمرة الأولى في معرض مفتوح أمام الجمهور والمتخصصين في الحديقة الوطنية للحيوانات بالعاصمة الرباط، والتي تحتضن عشرات الأسود وترعاها في إطار برنامج حماية أسود الأطلس في البلاد.