بين يدي التقديم

هذا الكتاب عمل جماعي صدر بمناسبة الذكرى 27 لوفاة الأستاذ علال الفاسي، وهو عبارة عن خمس دراسات قيّمة شارك بها كل من الأساتذة: عبد الكريم غلاب ومحمد مصطفى القباج وحسن أوريد ومحمد بن عبد الهادي لقباب ومحمد السوسي، مع تقديم للسيد عباس الفاسي عبّر فيه عن الغاية من إصدار الكتاب بقوله: “ونحن إذ نحيي هذه الذكرى الغالية نسعد بنشر هذه الدراسات القيّمة لمفكرين وأساتذة مختصين، حاوروا المنظومة الفكرية العلالية الثرّة، وأثبتوا كما أثبتت الكتب والدراسات التي طرقت نفس الموضوع من قبل، أن فكر الرجل فكر أصيل استشرافي، انبثق معينا صافيا واستمر ينبوعا متجددا” (ص 5).

في تقديمي لهذا الكتاب سأكتفي بعرض خلاصة لدراستين اثنتين: الأولى للأستاذ عبد الكريم غلاب، والثانية للدكتور حسن أوريد، دون أن يكون لهذا الاختيار  علاقة بقيمة الدراسات، وإنما فرضته الحاجة إلى احترام الحيّز المخصص لهذا النوع من المقالات، ومراعاة ما جرت عليه العادة في أعمال سابقة نشرت تباعا على منصة “معلمة”؛ ولعل فرصة سانحة تسمح لنا بإدراج باقي الدراسات.

المشاركة الأولى: البعد الاجتماعي في فكر علال الفاسي

يقدّم الأستاذ عبد الكريم غلاب لمشاركته الموسومة بـ “البعد الاجتماعي في فكر علال الفاسي” بمدخل نظري طويل، نظمته عناوين رئيسية وأخرى فرعية، ثم طرح إشكالين كبيرين حاول الإجابة عنهما، الأول: لماذا كان علال الفاسي يفكر اجتماعيا؟ وفيه أرجع الأستاذ غلاب السر  في ذلك إلى:

  • نشأة علال بمدينة فاس، مدينة النشاط العلمي والاقتصادي، هذه النشأة التي ستسهم في اتساع آفاقه، انطلاقا من المدينة إلى المجتمع الذي سيعرف تحولا اجتماعيا، أفرز مشاكل خطيرة في عهد الاستقلال، وكانت سببا في توتر اجتماعي أخذ باهتمام علال الفاسي، الذي سيفكر في المجتمع وقضاياه في ارتباط بخمسة أمور: الوجدان العالي – الحب القومي – الاقتصاد – الدين – الواقع الاستعماري ورواسبه.
  • الثاني: ما هو المجتمع الذي يفكر فيه علال الفاسي؟ وأجاب عليه من خلال تتبعه للأسس الفكرية/الاجتماعية لدى علال، القائمة على مركزية الأسرة باعتبارها “الحافظ الأمين على بقاء النوع البشري وتربيته، والمظهر  الأهم للأمة، والحارس لتراثها وقدسياتها” (ص 36). ليخلص إلى أن رؤية علال الفاسي الاجتماعية محاصرة بالفكر الإسلامي وبالمجتمع المغربي، ومن تمظهرات هذه المحاصرة اهتمامه بالنسل والأسرة والمرأة، التي ما فتئ يدعو إلى إصلاح أوضاعها والمحافظة على دورها الاجتماعي؛ ثم تعقّب قضايا أخرى ثاوية في رؤية علال الفاسي الاجتماعية والمتمثلة في مشاكل اجتماعية خطيرة منها: البغاء والإدمان وفئة المعوقين ومشكل التعليم وقضية العمال وضرورة تنظيمهم في النقابات … ثم يختم الأستاذ غلاب عرضه التفصيلي بـ “استنتاجات في البعد الاجتماعي لفكر علال الفاسي” مشفوعة بسبع ملاحظات وهي: 1 ـ اهتمامه بالمجتمع 2 ـ اهتمامه بالسياسة والعلم 3 ـ استقلاليته في الرأي 4 ـ الانطلاق من الإسلام والحرية والديمقراطية 5 ـ التخطيط لمشروع بناء مجتمع متكامل 6 ـ  بناء رؤية اجتماعية بخصائص واضحة 7 ـ مشروع علال الاجتماعي هو جزء من مشروع إصلاحي كبير.

المشاركة الثالثة: علال الفاسي.. هذا المعاصر

يقر الدكتور  حسن أوريد منذ البداية بتعدد مناحي شخصية علال الفاسي الذي كان “لدى المستعمر ديماغوجيا مهيّجا، وكان لدى اليسار رجعيا سلفيا، أما لدى شيعته وأنصاره فكان زعيما فذا، لا يمارى ولا يجارى”. ثم يختار أن يتحدث عن علال الفاسي المفكر لا علال الفاسي الزعيم السياسي.

يرى حسن أوريد أن علال الفاسي انخرط فيما انخرط فيه غيره من الشباب مستهل القرن الماضي، لكنه كان “صاحب أرصن محاولة وأعمقها عند طرح الأسئلة الجوهرية التي حاول غيره طرحها والإجابة عليها”. ويعتبر أوريد أن فكر الرجل تختزله محطتان هامتان: محطة (النقد الذاتي) ومحطة (دفاع عن الشريعة)، وأن “كل محطة تغتني من روافد، أو تتفرع عنها شعاب”. ثم يعرض قراءته للنقد الذاتي معتبرا أنه يتجاوز البيان الإيديولوجي للحركة الوطنية كما اعتبره آخرون، وأنه يرقى ليصبح محطة فكرية. في ثنايا العرض، يسوق أوريد عبارة تختزل مفهوم الفكر باعتباره أداة للتحرر عند علال الفاسي حيث يقول: “فالفكر وحده هو الذي يستطيع أن يصلح منا هذا الفساد” ثم يواصل أوريد تلمّس ميزات وخصائص فكر علال، ليخلص إلى أنه فكر أرستقراطي قصر على فئة قليلة متحررة من جميع السلط، وأنه محكوم بحمله لدعوة إصلاحية تستجيب لحاجة ملحة، وأنه فكر له غائية مجتمعية فيكون في خدمة الجماعة. ثم يبسط نقطة ثاوية في فكر علال الشاب والمتمثلة في “قضية الهوية” التي عرضها في مقدمة كتاب “الحركات الاستقلالية” ويسوق نصا ينتصر فيه علال للأرض قائلا: “إن قوة الأرض أعظم القوات تأثيرا، وأقدمها تاريخا، كما أنها أقوى صمودا من قوة الدم” (ص132). وهي هوية طالما تميزت بالنزوع إلى الاستقلال والحرية… ثم سرعان ما يدلي بما يثبت تطور هذا المفهوم الذي سيصير له معنى أوسع: العقيدة لا الأرض، (الإسلام واللغة العربية) كما هو مبثوت في كتاب” دفاع عن الشريعة”.

يختم أوريد عرضه بإشارة لطيفة تميّز  بين (علاليْن اثنيْن) علال الشاب من خلال النقد الذاتي، وعلال “في المرحلة الثانية من خلال “دفاع عن الشريعة” معلقا على المرحلة الثانية بقولٍ يشي بالإعجاب والإنصاف: “لن أنعت هذه الفترة بفترة النضج، لأنه لم يكن أقل نضجا في المرحلة الأولى، ولن أنعته بالشيخوخة، لأن الفكر دوما شاب يحمل دفق الحياة وحيويتها” (ص 122). ثم يعرض إلى خيبات أربع عاشها علال: – خيبة الاستقلال المبتور/ وليمة إيكس ليبان – انشقاق رفاق الأمس الذين أضحوا خصوما – الاستعمار الذي خرج من الباب وعاد من النافذة – وأخيرا تولي الشباب وتنكبه عنه…

لقد تناولت العروض الخمسة شخصية علال الفاسي وفكره ونضاله، وأعادت قراءة جزء من تراثه من زوايا مختلفة وإن تقاطعت أحيانا كثيرة، وأثبتت أن تراث الرجل لا يزال يطفح بالذخائر، وأن هذه الذخائر حتْمًا هي بعدد المقاربات، وبسعة إدراك من يتولون تقديمها.

وختاما أرجو من القائمين على تراث علال الفاسي أن يعيدوا طبع هذا الكتاب/ التحفة، وأن يجددوا الصلة بهذا النوع من الاحتفاء الأكاديمي، والتعاطي الفكري مع تراث رجل مفكر من الطراز الكبير، لا يزال لفكره راهنية، ولتفكيره وهج.  وقل عسى أن يكون قريبا.