مقدمة

صدر عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر، كتاب:” فكيك الواحة المكلومة إثنوغرافيا عالم معيش ، الذي يقع في 284 صفحة من القطع المتوسط، تـأليف الدكتور جمال فازة أستاذ علم الاجتماع والأنتروبولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس بالرباط، والدكتور حسن احجيج عالم اجتماع ومهتم بابستمولوجيا العلوم الاجتماعية وسوسيولوجيا الدين، لوحة الغلاف الفنان العراقي حسين عباس الطائي، الطبعة الأولى 2020م / الرباط.

وفي افتتاحية الكتاب يشير الباحثان حسن احجيج وجمال فزة، أنه من الصعب على أي زائر للواحات الواقعة جنوب شرق المغرب، قادما إليها من وسط المغرب أو ساحله أو أحوازه، أن يدرك بأن قدمه وطئت أرضا تختلف تمام الاختلاف عن مختلف المجالات الترابية، التي تشكل في مجموعها أرض المغرب الأقصى. وحيثما حل داخل الواحة أو ارتحل فيها، امتلأت عيناه بمشاهد تعكس التهميش الكبير الذي تعرضت له هذه المجالات الترابية المخصوصة، وعلى جميع الأصعدة، قياسا إلى باقي مناطق المغرب وجهاته، لا سيما الساحلية منها والسهلية.

وينطلق الكاتبان في بحثهما من أسئلة نحو: ماذا حل بهذا المكان لماذا تدهورت الواحة وهجرها الناس؟ كيف نضبت العيون  وابتعدت مياه الجوف أكثر عن السطح؟ كيف صار شبح الفقر يطارد ساكنة عرفت بمزاولتها للزراعة وتربية الماشية قدر ما عرفت به من جود وكرم؟ ألهذا الوضع علاقة بتقلبات مناخية فحسب، أم أن للأمر علاقة بتغير عميق طال الأنشطة البشرية ونمط استيطان الواحة؟

دوافع التأليف

وعن دوافع التأليف يضيف حسن وجمال، أن ما كان يدفعنا إلى تافيلالت دفعا لا يخلو، في واقع الأمر، من اعتبارات ذاتية، فقد وقع اختيارنا على منطقة تافيلالت، التي نشأنا فيها وقضينا بين ظهرانيها ثلاث مراحل من أكثر المراحل حساسية في عمر الإنسان، ألا وهي الطفولة والمراهقة والشباب، ناهيك عن الزيارت المتتالية والمنتظمة للمنطقة حتى بعدما رحلنا عنها في سن الثلاثين طلبا للعلم والعمل. يبدو أن منطقة تافيلالت ليست كباقي المناطق، فهي تترك في نفس أبنائها شعورا بالحنين ووعدا بالعودة بعد حين، وكأننا به أمام من يشعر بدين يثقل كاهله اتجاه المنطقة التي نشأ فيها، فحينما يصير قادرا على رد الجميل، يكون لزاما عليه أن يقوم بذلك وفاء للعهد، وحتى يزيح العبء عن كاهله.

ويوضح الكاتبان، أن ما دفعهما إلى اقتراح مشروع بحث تجري أطواره على أراضي تافيلالت، لولا إبداء اللجنة لرأيها بشأن تغيير مكان البحث من تافيلالت إلى فجيج؛ ففي الحقيقة، لقد منحنا هذا التعديل أول فرصة للابتعاد نسبيا عن ذاتيتنا وخلق تلك المسافة الضرورية اتجاه موضوع البحث. لقد مكننا هذا التعديل من طرح سؤال تدهور الواحة والإفقار المتنامي لساكنتها بعيدا عن أي شعور بالحنين أو التزام بآداب رد الجميل.

اعتبارات منهجيهة

يوضح حسن وجمال، بقولهم: شرعنا في العمل بالبحث في ما كتب عن الموضوع؛ سواء تعلق الأمر بالخطاب الإيكولوجي عموما وما يثيره من إشكاليات في علاقته بالرهانات التنموية والإكراهات المرتبطة بها، أو بالواحات باعتبارها مجالات ترابية مخصوصة وما تتطلبه من تنمية ترابية مستديمة تراعي هذه الخصوصية، أو بواحة فجيج عينها التي تتميز عن باقي الواحات بخصائص فريدة أبرزها أنها منطقة حدودية بامتياز.

ويكمل الباحثتان، وعلى غرار جميع الباحثين، كنا في البداية نتخوف من ندرة الكتابات وقلة المصادر والمراجع، لكن سرعان ما تبدد هذا التخوف منذ البداية ليحل محله شعور باطمئنان نظرا لحصولنا هنا وهناك على مراجع ونصوص مهمة في الموضوع. ومع تقدم البحث، سوف يعاود الخوف الظهور، لكن ليس من ندرة تترك في النفس حسرة على معلومة ناقصة، بل من وفرة تبث في النفس حيرة وتيها، وتضع الباحث أمام ضرورة حيازة معايير وأدوات الانتقاء والتصنيف إلى جانب أدوات البحث والتنقيب.

المسألة الجغرافية

يشير الكاتبان إلى أن علاقة الإنسان بالمجال علاقة معقدة، تلزمنا بالابتعاد عن أي تبسيط أو اختزال. فمن الدروس التي أفاد منها الجغرافيون في تطوير أطروحاتهم وإضفاء طابع النسبية عليها؛ هي أن أسلوب عيش الإنسان لا ينحل إلى مجرد تكيفمع إكراهات الوسط الطبيعي، بل هو، في وجه مهم منه، نتاج ابتكارية الإنسان كذلك، التي تؤثر بدورها في البيئة الطبيعية. ولعل الجغرافي فيدال دي لابلاش كان أكثر الجغرافيين إصرارا على إبراز هذا الجانب؛ فكان، ولا غرابة في ذلك، مؤسس الجغرافيا البشرية في فرنسا.

ويبرز حسن وجمال، كون أن الإشكالية الجغرافية في المغرب اتخذت طابعا خاصا، فالحرص على التوازن بين متطلبات السكان المتزايدة كما ونوعا من جهة، وهشاشة البيئة وندرة الموارد الطبيعية من جهة أخرى، يبدو أنه مطلب يكتسي أهمية بالغة ويتطلب درجة عالية من الجدية والإحساس بالمسؤولية، نظرا لهشاشة التوازن البيئي في المغرب وحساسيته الشديدة اتجاه أي تدخل مفرط مهما كانت درجة إفراطه طفيفة. فلا عجب أن يميل الجغرافيون المغاربة إلى معارضة الخطاب التنموي المنشرح الذي يختزل المشكلة برمتها إما في ضعف التكنولوجيا أو في تخلف العقلية، ومواجهته بالكشف عن المخاطر البيئية التي تحذق ببلد جمع على ترابه ما تفرق على تراب بلدان متباعدة جغرافيا. إن هذه الخاصية الفريدة، التي يستمدها المغرب من عمقه الألبي، هي ما يجعل توازنه البيئي دقيقا وحساسا.

وفي طريقهما للعمل الميداني، يقول حسن وجمال: وبالفعل، عندما كنا نعبر المغرب عرضا من أقصى غربه (الرباط) ومتوجهين إلى أقصى شرقه (فجيج) من أجل إجراء المرحلة الأولى من البحث الميداني، انتابنا شعور عميق بأننا ننتقل من عالم الوفرة إلى عالم الندرة، أما نفسيتنا فكانت تنتقل بدورها من اللامبالاة اتجاه الموارد الطبيعية التي يزخر بها المغرب إلى تثمين كل مورد مهما كان بسيطا، ومن الرغبة الجامحة في استغلال الطبيعة واستثمارها إلى الرغبة في صونها والحفاظ عليها.

ولا نخفيكم أن الشعور الذي ألم بنا ونحن متوجهين إلى فجيج، قاطعين المسافة التي تصل بين مدينتي الرشيدية وبودنيب؛ حيث تنتشر على الطريق يمينا ويسارا استغلاليات رأسمالية حديثة وضيعات شاسعة من النخيل المثمر لأجود أنواع التمور، كان إحساسا يتراوح بين الإعجاب والاسنغراب؛ وكأن حسرة بداخلنا تمزق أحشاءنا وتثير لدينا تساؤلات لا نعرف لها جوابا: هل ستتحمل الصحراء، التي اعتادت على معاملة رفيقة من طرف ساكنة حاجتها محدودة ومتواضعة، كل هذا الضغط الذي يمارسه عليها وافدون جدد همهم الوحيد: ماذا يفيدون من الجائحة؟

المونوغرافيا بين المؤرخ والإثنولوجي

يقر حسن وجمال على أن المؤرخ والإثنولوجي يلتقيان في تثمينهما للدور الذي يلعبه الإنسان في تحويل وسطه الطبيعي بفضل حيازته للتقنية. والثقافة، بالنسبة لكليهما، لا تنحل إلى مجرد عملية تكيف مع إكراهات الوسط، بل هي تعبير، في جانب مهم منها، على الفاعلية الإبداعية المميزة للإنسان، باعتباره كائنا خالقا للرموز والعلامات. وحتى يتمكن المؤرخ والإثنولوجي من النفاذ إلى عمق الظواهر التي يشملانها بالدراسة، صارا يبتعدان، أكثر فأكثر، عن دراسة الحضارات والحياة العامة للشعوب والدول، ويفضلان تضييق نطاق الدراسة وحصره في حالة أولية وضيقة من حالات الاجتماع البشري، طمعا في الحصول على معطيات دقيقة تسمح بتشييد نماذج تحليلية محكمة وتتمتع بالصرامة اللازمة( la rigueur). وكان مآل هذه الاستراتيجيا الجديدة أن التقى المؤرخ والإثنولوجي، من حيث المنهج، في ما بات يعرف باسم: المنوغرافيا.

ويكمل الباحثان بالإشارة إلى كون المنوغرافيا جزء من كل، وهي عنصر من شأنه إتمام باقي العناصر التي من المفروض أن تشكل التاريخ العام. هكذا يتصور المؤرخون العلاقة بين المنوغرافيا والتاريخ العام، فهي، بالنسبة إليهم، علاقة تجميع بالأساس، هدفها التوسع والامتداد. فهل ينطبق الأمر نفسه على الإثنولوجيين؟ وتمثل المنوغرافيا أو دراسة الحالة بالنسبة للأثنولوجي استراتيجيا بحث؛ أي أسلوب استدلال(un mode de raisonnement) وطريقة لتنظيم العمليات الذهنية تسمح بالتقدم شيئا فشيئا باتجاه حل مشكلة ما.

واحة الإثنوغرافيين

يشير جمال وحسن على أن الاثنوغرافيا منهجية بحث تعتمد على ملاحظة مطولة لمكان ما أو وضعية ما أو أنشطة ما. قد تكون هذه الملاحظة متواصلة أو متقطعة، لكنها في كلتا الحالتين تستند إلى مهارات مثل حسن الولوج إلى الميدان، وتسجيل ملاحظات دقيقة وتفصيلية قدر الإمكان، أو القيام بتسجيلات صوتية أو مرئية لمشاهد في عين المكان. إن انغماس الباحث وانخراطه المباشر في البحث، وحرصه على الحديث بضمير المتكلم أشياء تقع في صميم المنهجية الإثنوغرافية (…) فالتجربة العينية للباحث وسيط لا غنى عنه لقيام البحث الإثنوغرافي…

ويضيف الباحثان، بالقول، نحن كذلك سوف نحاول الإمساك بالحالة الثقافية السائدة في المجتمع الواحي، وذلك ما نطلق عليه في بحثنا هذا “روح الواحة”؛ أي أهم القيم والصور وأساليب الاستدلال التي يوظفها سكان واحة فجيج ليثبتوا أنهم جماعة واحدة، أو بالأحرى أنهم لازالوا جماعة واحدة، أو بالأحرى أنهم لازالوا جماعة واحدة. لكن خلفيتنا ليست إحصائية بأي حال، يقصي فيها المعدل المتوسط كل ما هو نادر وشاد، بل خلفية فينومينولوجية تحمل التادر والمختلف على درجة من كثافة  المعنى وتركزه، لا على استثناء يؤكد القاعدة. ومثلنا في الاشتغال بروح الواحة كمثل روبير عزرا بارك في انشغاله بروح المدينة؛ إذ إن ما يعنيه في المدينة ليس شوارعها وعمارتها، بل كونها حالة شعور عام. ونحن بدورنا لا يعنينا كثيرا جسد الواحة، الذي أسأل فيه الجغرافيون مدادا كثيرا، بل روحها؛ أي الشخصية الفجيجية العامة، التي، من إغفال الجغرافيين وحتى الكؤرخين عنها، ظلت تفسيراتهم لتدهور الواحة والإفقار المتزايد لساكنتها منقوصة.

البحث الإثنوغرافي بين الرؤية والمشاهدة

ويصرح الباحثان على أن أكبر مشكل يقف حجرة عثرة أنان تعلم النظرة الإثنوغرافية هو الاعتقاد في بداهة الملاحظة وشفافيتها. فما ينبغي أن نحتفظ به في أذهاننا هو أن عين الإثنوغرافي لا تنحل، في النهاية، إلى ما يشبه آلة تصوير تلتقط مشهدا اجتماعيا أو ثقافيا كما هو دونما تدخل أو تبديل. ولعل السبب في انتشار تصور للملاحظة الإثنوغرافية، باعتبارها أداة شفافة، بين عدد كبير من الباحثين في العلوم الاجتماعية، إنما يعود إلى الطبيعة الإبستيمولوجية للسجالات التأسيسية التي طبعت انفصال العلوم الاجتماعية عن الفلسفة، وتشكل فروع العلوم ثم فروع الفروع.

ويكمل جمال وحسن أن الإثنوغرافي يحاول قدر الإمكان وصف ثقافات الجماعات البشرية بطريقة محايدة؛ فهو من المفروض أنه قد مارس في حق نفسه أول شرط من شروط الوصف الفينومينولوجي، ألا وهو (الإيبوخي)؛ أي تعليق الحكم والاتجاه صوب الأشياء ذاتها وإعادة الاعتبار لها؛ أي الانشغال بصوف الواقع كما هو، وفي تفاصيله قدر الإمكان، تحسبا لأي إقصاء أو إغفال لهذا الجانب من الواقع أو ذاك، بسبب التوجيه الذي قد تمارسه علينا فكرة قبلية أو فرضية ما. لذلك فضلنا، في صياغتنا لعنوان هذا المحور، استعمال فعل تراءى بدل فعل رأى، وذلك للتنويه بالفرق بين رؤية الإثنوغرافي ورؤية المجرب، الذي يجبر الظواهر على أن تتخذ شكلا يسمح بالتحقق من فرضياته. لكننا اخترنا فعل تراءى كذلك لتمييز رؤية الإثنوغرافي عن الرؤية البسيطة والخام؛ فهذه الرؤية ليست محايدة، بل يقودها بادئ الرأي ويوجهها نحو المعتاد من الأمور والمألوف منها، إنها تكتسب تلقائيا بفضل العادة والتكرار، اللذين يحولان الأفراد إلى أعضاء داخل جماعة ثقافية ما. أما رؤية الإثنوغرافي، أو قل للدقة مشاهدته، فهي رؤية يكتسبها الإثنوغرافي بالتعلم وبالتدريب، ولا ينجح في ممارستها على النحو الأفضل إلا بعد استيعاب دلالتها الفلسفية وقيمتها المنهجية.

ويضم الكتاب بين ثناياه، سبع فصول، على الشكل الآتي:

الفصل الأول: اعتبارات منهجية

الفصل الثاني: الحدود: الذاكرة الكاملة والواقع الناقص

الفصل الثالث: الثقافة والتنمية: الماء الاجتماعي والماء السياسي

الفصل الرابع: الهجرة وتعقيداتها

الفصل الخامس: التمر والكليلة

الفصل السادس: الوفاء القاتل

الفصل السابع: الملامح العامة للشخصية الفجيجية