مقدمة

تزخر واحات الجنوب الشرقي بالعديد من المباني الطينية التي تشكل مساكن متفردة تميز المنطقة عن غيرها من مناطق المغرب، وتتميز بخصوصيات عمرانية تعكس مستوى الانسجام والتكيف مع مختلف الظروف الطبيعية والبيئية، وتعتبر القصبات بواحات درعة الوسطى نموذج لهذه العمارة الطينية التي أنشأت لأهداف مختلفة، وارتبط تخطيط وتوزيع وتنظيم مرافقها بظروف متعددة، فمنها ما شيد لأداء وظيفة سياسية ومنها ما اتخذ للوظيفة الدفاعية أو الاقتصادية والتجارية. لذلك ارتبط تخطيط القصبة بظروف نشأتها والوظيفة التي شيد من أجلها.

القصبة على سبيل التعريف

تعدّدت التعاريف واختلفت، حول مفهوم القصبة كشكل من أشكال العمارة بالجنوب المغربي، والمتميزة بالدقة الجمالية من حيث التسيير والهندسة المعمارية، ونورد بعضها:

  • تُعرف القصبة بالأمازيغية باسم “تغرمت” التي هي تصغير لكلمة “إغرم” (القصر). وهذا دليل على أنه كانت تشكل جزء من القصر.
  • والقصبة من “القصب وهو كل نبات ذي أنابيب. وكل نبات كان ساقه أنابيب […] فهو قصب، القصبة جوف القصر وقيل القصب وقصبة البلد مدينته، والقصب جوف الحصن يبنى فيه بناء وهو أوسطه”[1]. وغالبا ما تطلق هذه الكلمة للدلالة على المباني المحصنة التي تتخلل زواياها الأربع أبراج عالية تأخذ عادة شكلا دفاعيا. وتُقابلها اسم القلعة الشائعة في الشرق العربي. وتستعمل القصبة في اللسان الدارج في صيغ مختلفة: القصيبة للتصغير والقصابي للجمع[2].
  • والقصبة هي البناية التقليدية التي تأخذ شكلا بنائيا حربيا ودفاعيا، تأوي فئات اجتماعية معينة ومتميّزة لها نفوذ مادي كالأسر الميسورة ذات الأملاك والثروات، وهي من بين أهم مميزات الزعامة بالقبيلة، إنها مسكن “الأمغار” الذي يقع وسط القبيلة ويكون مزينا بالأبراج[3].

تأسيسا على التعاريف أعلاه، فإن القصبة هي “كل بناية محصنة بأسوار عالية ومتينة، تتخذ شكلا مربعا في الغالب وتتخلل زواياها الأربع أبراجا للمراقبة والحراسة، وتتكون من عدة طبقات قد تصل إلى أربعة أو أكثر، وتشكل مكانا صالحا للمقاومة وملجأ أمينا لممثلي المخزن في حال هجوم طارئ أو ثورة محلية”. وهي كذلك مسكن الأسر الكبيرة والميسورة. ومن مُميزات القصبة أنها تنتصب فوق تل، وعادة ما يتم اختيار الأماكن المشرفة كربوة الجبل العالية التي تكون ذات بنية طوبوغرافية مميزة، وقد نجد قصبات مشيدة في المناطق المنبسطة مثل “قصبة الشراردة” و”قصبة النوار” و”قصبة فيلالة”[4].

أنواع القصبات بالواحات

يطرح البحث في تاريخ القصبات بواحات درعة الوسطى عدة إشكالات منهجية، فالأولى: مرتبطة بضعف الأبحاث الأثرية حول هذا النوع من العمارة الدفاعية مما يجعل محاولة التأريخ لها يعتريها الكثير من الصعوبات؛ أما الإشكالية الثانية فمردها أن بعض القصبات تم بناؤها عبر مراحل؛ فهناك مثلا بعض القصبات شُيدت من قبل الدولة السعدية وأعيد ترميمها وتوسيعها في عهد خلفاء الدولة العلوية، وترتبط الإشكالية الثالثة بوظيفة القصبة نفسها، فمن القصبات من كانت قائمة لكنها لم تظهر على مسرح الأحداث إلا بعد أن نُقل إليها مركز القيادة.

ورغم هذه الإشكالات حاولنا تقسيم القصبات -على الأقل من الناحية الإجرائية- إلى ثلاثة أصناف رئيسية:

القصبات العتيقة:

وهي القصبات الأصلية المتوارثة منذ القدم، والمعروفة بشكلها المعماري المتميز داخل القصر، كما تعكس هندستها الإتقان والدقة المحكمة في البناء بواسطة التراب المدكوك على شكل قوالب مستطيلة في تداخل أفقي وعمودي، حيث أن التناسق والتناغم اللذان يشملان أجزاءها، وصفاء المقومات التي ترتكز عليها، والدقة المحكمة في بناء أبراجها وزواياها وجمال الموقع والمنظر الذي يحيط بها، يجعلان من هذا التوازن المعماري فنا يفرض نفسه ويوحي بالإعجاب[5]. وهذا الصنف من القصبات هو نفسه الذي ينتشر في نطاق امتداد القصور التي لا تتوفر على الأسوار، لأنها تلعب دور المراقبة والدفاع.

ويمكن أن ندخل أيضا ضمن هذا الصنف قصبة تينزولين، التي تعرف بـ “القصيبة”، وكانت مقرا لإمارة المزواريين أواخر القرن 15م، وبلغت حدا من القوة جعلت شيوخها يتحولون إلى أمراء حقيقيين لإمارة تانسيطة، والتي قامت بدرعة في مطلع القرن 10ه/16م، وتنتسب إلى بقايا قبائل هسكورة وقبائل أيت واوزكيت[6]، وكانت تمارس سلطتها على سكان واحات ترناتنة وتينزولين ومزكيطة. ولازالت أهم معالم هذه القصبة قائمة إلى يومنا هذا بالقرب من قصر رباط تينزولين.

القصبات الحديثة:

شُيدت أغلب القصبات الحديثة من طرف الدولة السعدية لحماية التجارة الصحراوية عبر محور درعة، خاصة بعد تراجع محوري تافيلالت وسوس، حيث أسست سلسلة من القصبات بالوادي لتثبيت ركائز الدولة ووضع حد للاضطرابات الأمنية بالمنطقة[7]. وفي هذا الصدد عين محمد الشيخ السعدي ابنه عبد الله عاملا على درعة وأقامه بقصبة تَامْنُوكالتْ بواحة مزكيطة، ووضع رهن إشارته كل الإمكانيات المادية والعسكرية لتنفيذ أوامر الدولة وردع القبائل المشاغبة.

وقد تواصل هذا الاهتمام مع السلطان أحمد المنصور نظرا لما تشكله المنطقة من أهمية إستراتيجية في مشروعه المستقبلي، حيث كان يخطط لفتح بلاد السودان الغربي. وفي هذا الإطار أمر باستحداث سلسلة من القصبات على طول الوادي وشحنها بالرجال والعتاد الحربي[8].

القصبات القيادية:

يمكن التأريخ لظهور هذا النوع من القصبات مع البدايات الأولى للدولة العلوية التي أولت عناية خاصة لمنطقة درعة نظرا لمكانتها الاقتصادية على محور التجارة الصحراوية، إذ لم يمض وقت قصير على ظهور الأشراف العلويين على مسرح الأحداث، حتى شرع مولاي إسماعيل في تنظيم المنطقة من خلال بناء المزيد من القصبات بالوادي، مثل قصبة “أغلان بشا” شمال واحة ترناتة التي أنزل بها ابنه عبد المالك حينما عينه عاملا على درعة سنة 1699م[9]، وكان لتشييد هذه القصبة بعد استراتيجي، تمثل في مراقبة مباشرة لمنفذي “تيزي-ن-تافيلالت” و”فم وارتي”، وهما منفذان أساسيان لتحركات قبائل أيت عطا من جهة تازارين وصاغرو ودادس إلى درعة. كما أمر بإعادة ترميم القصبات القائمة ك”قصبة المخزن”، و”قصبة أفرا أولاد سلطان” بواحة تينزولين، و”قصبة العلوج” بمحاميد الغزلان التي تحولت إلى محطة تتجمع فيها القوافل التجارية.

وظائف القصبات بواحات درعة الوسطى

ارتبط ظهور القصبة في بداية الأمر، بمنطقة الجنوب المغربي عموما وبدرعة الوسطى تحديدا، بغايات اجتماعية واقتصادية مصغرة، قبل أن تتحول لتحقيق غاية أمنية لاسيما بعدما انتقلت القصبات خارج مجالها الأصلي الذي هو القصر، لتصبح هذه الوظيفة العنصر الأساس للقصبة، ونورد هذه الوظائف فيما يلي:

وظيفة سكنية:

تعتبر من بين الوظائف الأساسية للقصبة، فإلى جانب القصر اتخذت بعض الأسر بالواحات خاصة الميسورة القصبات كمكان للسكن[10].

وظيفة دفاعية:

تعتبر من أهم الوظائف التي بنيت من أجلها القصبة خاصة بعد أن أصبحت خارج القصر، نظرا للتهديدات الأمنية التي كانت تشكلها قبائل الرحل غير المستقرة على الواحات؛ ولعل هذا ما يفسر وجود جل القصبات في أماكن مرتفعة لتيسير عملية المراقبة سواء للساكنة أو الوفدين.

وتعد مراقبة الطرق التجارية من الوظائف الأساسية التي أنيطت بالقصبات في هذا الصدد، ذلك أن تواجد درعة في عقدة الطريق التجاري الصحراوي جعلها محط عناية واهتمام من قبل جل الدول التي تعاقبت على حكم المغرب[11]، والتي عمدت إلى بناء عدة قصبات على طول الوادي وشحنها بالجنود والعتاد في محاولة منها لتوفير ظروف الأمن للتجار الذين يجوبون هذه المناطق، وهذا ما أكده مارمول بقوله: “أن القوافل التجارية استفادت من ظروف الأمن التي كانت توفرها الحاميات العسكرية بالقصبات المنبتة على طول الوادي”[12].

الوظيفة السياسية:

تعتبر هذه الوظيفة مرحلة من مراحل الانتقال الأساسية للقصبة من داخل القصر إلى خارجه، فالقصبة بمعناها السكني الذي يضم أفرادا وأسرا بسيطة داخل القصر، تحول إلى معنى سياسي يضم أسرا ميسورة مالكة للسلطة الاقتصادية والسياسية، وأصبحت القصبة بذلك مقرا إداريا لذوي النفوذ السياسي المخزني من قواد وباشوات، يمارسون من خلالها مهامهم الإدارية باعتبارهم ممثلي السلطان في مناطقهم، إضافة إلى تولي أمور القضاء والإشراف على جباية الضرائب والواجبات المخزنية[13]؛ لذلك صممت القصبات لتيسير مهمة القائد للقيام بهذه الأدوار المتعددة، حيث نجد بالقصبة مكان مخصص لجمع الضرائب والأعشار وإسطبل للخيل وجناح للخدم والمؤونة (دار الخزين)، ودار الضيافة لاستقبال ممثلي المخزن والضيوف، بالإضافة إلى المحكمة والسجن.

خاتمة

إجمالا فإن سكان واحات درعة أولو عناية كبيرة للعمارة الدفاعية بهدف توفير الأمن والاستقرار لسكناهم وممتلكاتهم، فبالإضافة إلى الأسوار والخنادق التي سيجوا بها قصورهم، عملوا على إنشاء عدة قصبات وأبراج بغرض إضفاء المزيد من التحصين والدفاع؛ تتميز بروعة هندسة أبنيتها خاصة من حيث التصميم والزخرفة وطبيعة المواد المستعملة. واضطلعت بوظائف عديدة امتزجت بمختلف جوانب الحياة السياسية والدفاعية والاقتصادية.

المراجع
[1] جمال الدين ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1993، ج 5، ص 3640.
[2] مينة المغاري، مادة "القصبة"، معلمة المغرب، منشورات اللجنة المغربية للتأليف والترجمة والنشر مطابع سلا 1995، ج19. ص 6633 .
[3]R. Montagne, Les Berbères et le Makhzen dans le Sud du Maroc ; Essai sur la transformation politique des Berbères sédentaires, Alcan, Paris 1930 ,p 347.
[4] المغاري، مادة "القصبة"، معلمة المغرب، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، نفسه، الجزء 19. ص 6633 .
[5] التراث المعماري في مناطق الأطلس والجنوب، منشورات وزارة الثقافة، قسم جرد التراث الثقافي، الرباط 1990، ص 16.
[6] حسن الوزان، وصف إفريقيا، الجزء الثاني، ترجمة محمد حجي و محمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي للنشر 1983م، ص 173.
[7] Spillmann (G), Districts et tribus de la Haute vallée du Dra, A.M.V. 9.T,2. Paris, 1991, P. 46-47.
[8] أحمد البوزيدي، درعة بين التنظيمات القبلية والحضور المخزني: دراسة في الحياة السياسية والاجتماعية (1894م ـ 1935م). مطبعة أنفو ـ برانت، فاس 2009 ، ص 40.
[9] الناصري، الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق وتعليق، جعفر الناصري ومحمد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1956، ج7، ص89.
[10] R. Montagne, Les Berbères et le Makhzen, op. cit. p 347
[11] هنري طيراس، القصبات الأمازيغية بالأطلس والواحات؛ المباني الكبرى بالجنوب المغربي، ترجمة حسن أميلي، منشورات معهد الشارقة للتراث، الشارقة 2019م، ص 100.
[12] مارمول كربخال، إفريقيا، ثلاث أجزاء، تعريب محمد حجي والجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مكتبة المعاريف الرباط. 1984، ج3، ص 148-151.
[13] علي بنطالب، المخزن والقبائل؛ الضغط الجبائي وتدعياته 1894-1912، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، مطبعة المعرف الجديدة، الرباط 2013، ص 29.