نسب ونشأة الفقيه والقاضي عبد الكريم الخطابي

هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الورياغلي، سليل أسرة الخطابي من قبيلة بني ورياغل، وهي من أقدم القبائل الريفية في المغرب وأكثرها عددا وأقواها نفوذا وتأثيرا عبر تاريخ الريف. وقد سكنت أسرة الخطابي أجدير  في خليج الحسيمة أمام جزيرة النكور المحتلة (احتلها الإسبان منذ 28 غشت 1673).  وقد اختلف الكتابات التاريخية حول نسب الأسرة اختلافا معتبرا، حيث نسبها بعضهم إلى عمر بن الخطاب، وبعضهم الآخر يقول إنها من أولاد عبد الله ابن الخطاب الشريف الزياني من ذرية ملوك تلمسان، ونسبها طرف ثالث إلى أحفاد عمران بن مولاي إدريس الأصغر الذي وولي على بلاد الريف وباديس بعد موت أبيه. أما الأسرة فتعتقد حسب ما هو متداول بين المهتمين بالأنساب أن نسب الأسرة يتصل بمحمد بن عبد الكريم الحجازي الأصل، وقد جاء أجدادها إلى المغرب في القرن التاسع الميلادي وأقاموا في قبيلة بني ورياغل[1].

ولد عبد الكريم الخطابي سنة 1860 ببلدة أجدير ، ودرس بجامعة القرويين وتخرج منها. وفي سنة 1883 عينه السلطان المولى الحسن الأول  قاضيا على قبيلة بني ورياغل الريفية بعد عودته من الجامعة إلى مسقط رأسه. وقد استمر في وظيفة القاضي على قبيلته في ظل حكم السلطانين المولى عبد العزيز، الذي ولاه أيضا منصب المراقبة على قواد بني ورياغل، والمولى عبد الحفيظ. وقد سمحت له هذه الوظائف وعلاقاته داخل الجهاز المخزني أن يكون على إطلاع بما يجري في المغرب من أحداث، وخاصة بعد مجيء الجيلالي الزرهزني (أبي حمارة أو بوحمارة) إلى الريف، وغيره من الأحداث الكبيرة في مغرب بداية القرن العشرين، خصوصا التنافس الاستعماري حول المغرب.

عبد الكريم الخطابي وإسبانيا ….المصالح المشتركة

بدأت علاقة القاضي عبد الكريم بالإسبان منذ وقت مبكر، حيث تعود تلك العلاقة إلى سنة 1902، عندما قام بزيارة إلى جزيرة النكور، وتم استقباله هناك بحفاوة من طرف الإسبان المدنيين والعسكريين على السواء، كما ربط علاقات وصداقات مع العديد من الإسبان، خصوصا المترجم العسكري لقاعدة النكور فرنسيسكو مارين Francisco Marin، الذي لمح له إلى أن من مصلحة منطقة الريف المغربية الخضوع للإحتلال الإسباني[2].

ورغم تردده وشك في بداية الأمر، إلا أنه حسم أمره مع انعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، فقبل عرض التعاون الذي قدمه الإسبان. وكان القاضي عبد الكريم الخطابي يعتقد أن المخزن لا يستطيع القيام بالإصلاح والتغيير  المنشود ولو أراد ذلك، لذلك كان يرى أنه لابد من الاستعانة بدولة أوربية تساعد المغرب على إدخال الإصلاحات اللازمة، ويرى في إسبانيا تلك الدولة المؤهلة للقيام بتلك الإصلاحات دون أن تستطيع إخضاع منطقة الريف. وكان في نفس الوقت يناهض أي احتلال مباشر للريف من طرف الجيوش الأوربية. وقد بدأ يتردد بانتظام على جزيرة النكور بحثا عن التعاون مع إسبانيا للقيام بالإصلاحات التي انتدبها له مؤتمر الجزيرة الخضراء، معتقدا أن إسبانيا عازمة على نشر نفوذها بالطرق السلمية وبالوسائل الحسنة. ولذلك عمل على إرسال ولديه محمد وامحمد إلى مدينة مليلية المحتلة لتعلم اللغة الإسبانية والعمل، رغم الانتقادات التي توجه له جراء ذلك من قبل أفراد قبيلته.

ولأنه مقتنع بفوائد قرارات الجزيرة الخضراء، واختيارات السلطان، فقد كان يحاول دائما نزع فتيل الأزمة بين الريفيين والإسبان عند كل أزمة مستجدة، وذلك كما حدث مع أزمة المناجم سنة 1909، التي رغم محاولته فيها إلا أنه لم ينجح في منع المواجهات العسكرية التي حدثت بين الإسبان والريفيين بقيادة الشريف محمد أمزيان، والتي لم يشارك فيها القاضي عبد الكريم، حيث عارض المواجهة العسكرية مع إسبانيا مفضلا الحل السياسي[3]. وهو ما تأكد بعد توقيع الاتفاق المغربي الإسباني في نونبر  1910، حيث بدأ في ينصح بإتباع أوامر السلطان ويدعو لعدم مقاومة إسبانيا وإن مصلحة الريفيين في الرضوخ إليها.

وبسبب هذه المواقف المهادنة لإسبانيا والمعارضة للمقاومة فقد واجه القاضي متاعب جمة داخل قبيلته بني ورياغل، ومنها ما حصل لعائلته في 06 نونبر 1911 عندما هاجم حشد من الناس منزله بأجدير وقتل بعض أقاربه وتم نهب وتخريب وحرق بعض ممتلكاته، فأضطر إلى التسول من إسبانيا، و اللجوء إلى جزيرة النكور، ومنحته إسبانيا 250 بسيطة شهريا كراتب، كما منحت له له ميدالية الإستحقاق العسكري مقرونة بمكافأة شهرية قدرها 75 بسيطة، وكل ذلك نظير خدماته. ومن جزيرة النكور لجأ إلى ها إلى مدينة تطوان، وبقي هناك حتى مايو 1913.  وهناك كان يحيط الإسبان بكل ما يجري في المدينة، وبعد احتلالها كان يسدي لهم نصائحه الوجيهة. كما كانت تحزنه هزائمهم ويصدفق لانتصاراتهم، فقد كتب بمناسبة استشهاد الشريف محمد أمزيان إلى الجنيرال ألدافي Aldaave قائلا: “عرفنا بمزيد المسرة انتصاركم على الريفيين، ومن كمال السعد عثوركم على زعيم الحركة أمزيان. بهاته المناسبة نهنئ سعادتكم بهذا الفوز الباهر ونتمنى لكم دوام الترقي والنجاح”[4].

وفي مقابل ذلك، كان شاهدا في تطوان على الأهوال وعمليات هتك الأعراض والنهب ومصادرة الممتلكات التي رافقت دخول قوات الإحتلال الإسباني إلى المدينة في 19 فبراير 1913 بقيادة الجنرال ألفاو  (ALFAU). ورغم محاولاته التوسط لدى الإسبان لإصلاح الأمر بطلب من أعيان المدينة فإن فظاظة وغلظة الفاو كانت له بالمرصاد. كما كان شاهدا خلال نفس الفترة على ما أصاب أحمد الريسوني والجزاء الذي حصل عليه من إسبانيا رغم الخدمات الجليلة التي قدمها لها.

الخلاف بين القاضي عبد الكريم الخطابي والإسبان

وخلال نشوب الحرب الثانية، وفي ظل النشاط المكثف لألمانيا في المنطقة الخليفية لإثارة المشاكل لفرنسا في مناطق نفوذها في المغرب، انضم القاضي عبد الكريم الخطابي   والمتعاونين مع تركيا وألمانيا، ولعب دورا مهما في ربط الاتصال بين الألمان والقبائل الريفية من جهة، وعبد المالك بن محيي الدين الجزائري -والذي كان مستقرا في شمال تازة ويثير المشاكل لفرنسا-  من جهة أخرى[5]. أما إسبانيا فقد كانت تنظر لتحركاته بعين الريبة، حيث تعتقد أن نشاطات الفقيه عبد الكريم الخطابي تخفي وراءها أهدافا أخرى تهدف إلى إيجاد الوسائل الفعالة لتعبئة القبائل الريفية وإعدادها للمحافظة على استقلالها والدفاع عنه. ولعدم استطاعة السلطات الإسبانية الوصول إلى الفقيه في أجدير ، فقد قامت في 6 شتنبر 1915 باعتقال ابنه محمد القاضي بمليلية وأقالته من جميع مناصبه واتهمته بالخيانة العظمى، ثم حكمت عليه بالسجن وأن يبقى مسجونا ما دام والده عبد الكريم ينهج سياسة تخالف السياسة الاستعمارية في المنطقة. وفي بداية غشت 1916 تمكن عبد الكريم الخطابي من إطلاق سراح ابنه بعد ذهابه إلى جزيرة النكور وإجراء محادثات مع المسؤولين الإسبان، حيث أطلق سراح الابن محمد بن عبد الكريم مقابل أن يسلم ثلاثة رجال من عائلته لإسبانيا ليكونوا رهائن  لدى إسبانيا بمليلية المحتلة، وذلك لضمان تعاون القاضي عبد الكريم مع الإسبان، على أن تتعهد اسبانيا من جهتها بتحسين سياستها تجاه منطقة الريف وأهلها.

وفي 15 مارس 1917 عاد الإبن الأكبر محمد إلى عمله بمدينة مليلية المحتلة، ومنحت السلطات الإسبانية للابن الأصغر محمد (بفتح الميم) منحة دراسية للدراسة في مدريد. في مقابل هذه الالتفاتة تجاه عائلة عبد الكريم الخطابين فإن إسبانيا في المقابل لم تحاول أبدا إدخال الإصلاحات التي تعهدت بها، بل انقلبت على تعهداتها، فبدأت في التغلغل العسكري العنيف في المناطق التي لم تكن قد احتلتها بعد.

محمد بن عبد الكريم يتجاوز خط اللارجعة وتشكيل حركة المقاومة الريفية

وفي نونبر من سنة 1918 اقتنع عبد الفقيه عبد الكريم الخطابي بضرورة قطع العلاقات نهائيا مع إسبانيا. وقد تعززت هذه القناعة مع انهزام ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وكذا تسليم إسبانيا ل 60 رجلا من أتباع عبد المالك بن محي الدين لفرنسا. وقد كان يتنظر فقط رجوع ولديه من إسبانيا والتحاقهما بوالدهما في أجدير، وهو ما تحقق في يناير  1919 حيث التأم  شمل العائلة مرة أخرى.

وبداية سنة 1919، بعد رجوع ابنيه القاضي محمد من مليلية والطالب امحمد من مدريد، انسحب عبد الكريم الخطابي كاملا من العمل السياسي، وانقطعت كل علاقاته مع اسبانيا احتجاجا على سياستها السيئة في المنطقة. وفي شهر غشت من نفس السنة قرر الفقيه الخروج من حالة الحياد لينخرط في تعبئة الجهود الخاصة بدعم مقاومة الشريف أحمد الريسوني ضد الإسبان.

وفي فبراير سنة 1920 انخرط بشكل عملي في العمل إلى جانب المقاومة الريفية، وذلك عقب عبور القوات الإسبانية وادي الكرت وبدأت في التغلغل غربا في اتجاه خليج الحسيمة. وبمجرد احتلال القوات الإسبانية لدار الدريوش في 15 مايو 1920، بدأ الفقيه يتجول في أسواق قبيلة بني ورياغل لتعبئة الناس وتوحيدهم. كما اتصل بأعيان القبائل الأخرى التي يهددها الزحف الإسباني، وهي بني وليشك، وبني توزين، وبني سعيد وتمسمان من أجل تشكيل قوة  لمقاومة القوات الإسبانية. وقد شكل انضمام القاضي عبد الكريم وولده محمد إلى المقاومة نصرا سياسيا واستراتيجيا عظيما للمقاومة، نظرا لما سيفره ذلك من معلومات سرية ضخمة عن الإسبان. وقد عبر قائد القوات الإسبانية سلفستري عن ذلك بقوله: “النقطة السوداء الوحيدة هي وجود بعض الإضطراب…بسبب رجل أطلق لطموحه العنان، ألا وهو الفقيه عبد الكريم”[6].  ورغم الصعوبات الجمة التي واجهها القاضي وباقي القبائل الريفية فإنه تمكن قبل نهاية يونيو 1920 من قيادة فرقة من المقاتلين تضم نحو 200 رجل نحو بلدة تفرسيت التي كانت الهدف الموالي لقائد القوات الإسبانية سلفستري.

وبعد 22 يوم من المرابطة في تفرسيت، في منتصف شهر يوليوز 1920، بدأ الفقيه يعاني من ألم فظيع في بطنه، وهي الهدف الثاني للقوات الإسبانية بعد دار الدريوش. وبسب عدم توقف الأم اضطر ابنه محمد إلى العودة به محمولا على بغلته إلى منزله بأجدير. ولكن حالته لم تتحسن، وظل على حاله إلى أن مات مساء يوم 7 غشت 1920. وقد أثر غيابه على تماسك المقاومة مما سهل من احتلال تفرسيت في 05  غشت 1920[7].

وخلف الفقيه عبد الكريم الخطابي من الأولاد الذكور محمد وامحمد، ومن الإناث أمينة وفطيمة ورحمة ورقية. أما زوجته فهي ثيمونت بنت أحمد بن القاضي من الشرفاء الولقاضيين، وكان عالما من علماء بني ورياغل.

المراجع
[1] معلمة المغرب، بناني عثمان، الجزء 11، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، الرباط، 1989، ص 3754.
[2] عياش جرمان، أصول حرب الريف، ترجمة محمد الأمين البزاز وعبد العزيز التمسماني خلوق، الشركة المغربية المتحدة، الرباط، 1992، ص 160.
[3] معلمة المغرب، بناني عثمان، مرجع سابق، ص 3756.
[4] عياش جرمان، أصول حرب الريف، مرجع سابق، ص 188.
[5] معلمة المغرب، بناني عثمان، مرجع سابق، ص 3757.
[6] عياش جرمان، أصول حرب الريف، مرجع سابق، ص 307.
[7] معلمة المغرب، بناني عثمان، مرجع سابق، ص 3758.