مقدمة

تعد المذكرات الشخصية من المصادر الأساسية التي تساعدنا في فهم وتحليل الأحداث التاريخية المتعددة الأبعاد، وهي لا تقل أهمية عن الوثائق كمرجع أساسي لكتابة التاريخ.

ومما لاشك فيه أن لها قيمة كبرى في تعزيز البحث التاريخي وتفسير الوقائع التي وثقها عدد كبير من رجال المقاومة والحركة الوطنية، الذين عايشوا عن قرب أو شاركوا في صناعة الحدث، وكانوا شهودا عليه. وهو ما يمنحنا فرصة لفهم نظرتهم الشخصية ورؤيتهم الخاصة لفترة زمنية معينة من خلال تجاربهم الفريدة، حيث تمثل هذه المذكرات إضافة نوعية ولا غنى عنها في إثراء الفهم لتاريخ المغرب بشكل خاص والمنطقة المغاربية بشكل عام. فلا غرو أنها ميزة إضافية، ستساهم في كتابة التاريخ إذا ما اعتمد المؤرخ على الأدوات المنهجية والعلمية للتعامل معها، لنقدها وتمحيصها وفق آليات ومتطلبات منهج البحث التاريخي.

جاءت مذكرات حمدون شوراق في سياق الأحداث التي عرفها العالم، لاسيما في العقد الذي تلا الحرب العالمية الثانية، حيث شهدت هذه الفترة تفاعلات بين مختلف الفئات السياسية  المغاربية التي كانت تبتغي من خلالها الحصول على الاستقلال، لذلك سعت جميع الأطراف، لاستغلال فرصة التغيرات التي عرفها العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ونتائجها الهائلة في تاريخ النضال المغاربي لتصفية الاستعمار. فبدأت مرحلة جديدة في الكفاح المسلح، واتخذت فكرة وحدة المغرب العربي منحى آخر، إذ أصبحت أكثر تطورا ونضجا وفعالية، وذلك بفضل التوجهات الشعبية والسياسية والاجتماعية الرامية إلى تحقيق الاستقلال.

ومع تزايد الحركات التحررية في العالم، أصبحت الامبريالية الأوربية غير مواكبة لهذه التطورات، مما دفع الشعوب إلى التطلع إلى الاستقلال والتحرر من الاستعمار وبناء دولها الحديثة، فكان التعاون الشامل ضرورة حتمية بين جميع الأطراف تطلبته هذه المرحلة الحساسة.

هذا الانبعاث فرض وضع إستراتيجية جديدة ومتجددة على ضوء موازين القوى الدولية الجديدة  الناجمة عن انتصار الحلفاء من جهة، ووفق مفهوم جديد لجبهة القتال، يقوم على وحدة الهدف والمصير المغاربيين، كما أثبتت ذلك المغامرة الاستعمارية نفسها.

وعليه فإن هذا المخاض السابق، شكل قاعدة رئيسية لتأسيس تحالفات مغاربية بمختلف تفاعلاتها وتقلباتها، ومن هذا المنطلق جاءت فكرة التعاون المغربي الجزائري، لذلك يعد تحليل تاريخ العلاقات المغربية الجزائرية موضوعا مهما ومعقدا، يتطلب التركيز على النقاط الحاسمة والتحليل المنهجي والدقيق للمصادر التاريخية المتاحة، وكذلك تحليل التغيرات والتوجهات التي عرفتها السياسة الخارجية لكل طرف.

الخطابي.. نضال مشترك في سبيل التحرير والوحدة المغاربية

لقد تعززت فكرة التعاون المغاربي بشكل قوي بعد “نزول” الخطابي أو “إنزاله” بالقاهرة سنة 1947، خاصة بعد التأكيد عن عزمه في استئناف ومواصلة الحرب التحررية ضد الاستعمارين الفرنسي والإسباني. وكانت فرصة سانحة لانبعاث الكفاح المسلح المغربي بعد فترة زمنية طويلة من سقوط آخر قلاعه في قمم الريف والأطلسين الكبير والمتوسط.

فبعد عودة عدد من المجاهدين الذين شاركوا في حرب فلسطين سنة 1948، انبثقت فكرة تأسيس حركة تحرر مغاربية موحدة يكون نواتها، العائدون من هذه الحرب. ولهذا الغرض عمل الخطابي على إعداد كوادر عسكرية و إدارية، فوجه رسائل إلى قادة كل من سوريا والعراق لقبول بعض الشبان المغاربيين في مؤسساتهم العسكرية في شهر شتنبر 1948م. هنا سيبعث الخطابي بعثة عسكرية مغاربية أولى إلى بغداد، تشكلت من سبعة طلاب وهم: محمد إبراهيم القاضي من الجزائر، و يونس العبيدي و الهادي عمير من تونس، وأحمد عبد السلام الريفي، عبد الحميد الوجدي، الهاشمي عبد السلام الطود و حمادي لعزيز من المغرب. والتحق أعضاؤها بالكلية العسكرية الملكية وتخرجوا منها في شهر يونيو 1951 ضباطا.

بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية في تونس وصداها على الشعبين المغربي والجزائري، سينعقد في القاهرة مؤتمر الوطنيين المغاربيين المؤطرين للثورة. وكان من بين قرارات هذا المؤتمر، تشكيل هيئة لجيش تحرير المغرب العربي. كما أنه وبعد تفاقم الأوضاع السياسية في دول المغرب العربي، سينعقد سنة 1954، اجتماع بين القيادات السياسية المغاربية في القاهرة من جهة والقيادة المصرية المنبثقة عن ثورة يوليوز 1952 من جهة أخرى برعاية الجامعة العربية. وخرج هذا الاجتماع بضرورة دعم مشروع الثورة من طرف القيادة المصرية والجامعة العربية.

لكن ومع التباين والاختلاف الذي بدا واضحا في وجهات النظر بين أعضاء لجنة تحرير المغرب العربي، حيث انقسموا بين من يرى ضرورة القيام بالثورة المسلحة فورا، وبين من يرى ضرورة التريث والتركيز على الدعاية والاتصالات الخارجية.

هنا ستربط القيادة المصرية والجامعة العربية تقديم دعمهما المالي، بضرورة تكوين جبهة واحدة تضم كافة الأحزاب بالدول الثلاث. مما اضطر القيادات الحزبية إلى توقيع ميثاق لجنة تحرير المغرب العربي، نص على العمل على نيل استقلال الأقطار الثلاثة، والانضمام للجامعة العربية، ورفض فكرة الاتحاد الفرنسي أو السيادة المزدوجة. وكان أول ما تم التوافق عليه هو إرسال ترسانة من الأسلحة قادمة من مصر.

تحرير وتوحيد المغارب.. من النظري على التطبيقي

ولاشك أن مذكرات حمدون شوراق والتي عنونها ب: “الباخرة دينا، وتسليح المغاربة للثورة الجزائرية: مذكرات المقاوم شوراق حمدون” تناولت التطبيق الفعلي على أرض الواقع ولو بشكل نسبي لميثاق لجنة تحرير المغرب العربي، كما جاءت لتوثق للقراء وللتاريخ، اللحظات العصيبة والتحديات التي واجهتها عملية رسو وإفراغ السفن المحملة بالأسلحة إلى غاية إيصالها إلى الجانب الجزائري.

والباخرة دينا هي عبارة عن يخت كانت تملكه الأميرة دينا زوجة الملك حسين عاهل الأردن، وقد اقتنته منها السلطات المصرية لاستعماله في هذه المهمة، في الوقت الذي كانت تمر فيه الشعوب المغاربية بفترة زمنية عصيبة وبحاجة ماسة إلى الذخيرة والأسلحة.

سيجد القارئ نفسه أمام صنف جديد من المذكرات، لأنها صادرة عن شاهد عيان، اعتبر من أبرز رموز هده الملحمة، بفضل مساهماته الكبيرة في النضال الوطني وخدماته، تناول الأحداث كما عاشها، وهو المسؤول الأول عن الذخيرة والأسلحة القادمة من مصر.

وعليه يمكن القول أن مذكرات حمدون شوراق الشخصية وما وثقته من تجاربه ومشاهداته خلال النضال الوطني وبعده، تبقى مصدرا هاما للدراسة والتفكير في تاريخ الشعوب المغاربية وتشكل وعيها المجتمعي.

حمدون شوراق.. بطل نقل السلاح إلى المقاومة الجزائرية

ولد حمدون شوراق في 1924 بقبيلة كبدانة، ونشأ في منطقة الشمال الشرقي المشبعة بذكريات النضال التي عاشتها المنطقة، فقد شهدت هذه الأخيرة أول مقاومة مسلحة ضد التوسع العثماني في القرن السادس عشر، ومنذ سنة 1830 بدأت في مواجهة الأطماع الفرنسية.

وبحكم موقعها الحدودي، كانت ساكنة منطقة الشمال الشرقي من أول المطلعين على سيرورة التحول المجتمعي الذي عرفته الجزائر منذ احتلالها. وواكبت عن كثب أحداث المقاومة الجزائرية وعانت المنطقة من امتدادها. وتجلت في المساندة التي أبدتها هذه القبائل للأمير الجزائري “عبد القادر”، ومشاركتهم معه في الهجومات الفعلية منذ سنة 1843. كما أن هذه القبائل هي نفسها التي ستشارك في معركة إيسلي سنة 1844.

وطيلة القرن 19م وبعد معاهدة للامغنية، ستبقى هذه القبائل تقاوم وستزيد مقاومتها بعد احتلال مدينة وجدة في 20 مارس 1907. كما عرفت منطقة الشمال الشرقي بدورها الهام في الحرب الريفية، حيث كانت قاعدة خلفية لحركة المقاومة، نظرا لأهميتها الإستراتيجية و للآفاق الإيجابية التي كان من الممكن فتحها عن طريق المنطقة الشمالية الشرقية.
وبحكم الجوار الجغرافي، فقد شهدت المنطقة المغاربية في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات ، محاولات عدة لتوحيد النضال ضد الاستعمار الفرنسي من خلال تقريب الرؤى بين الحركات التحررية بكل من تونس، المغرب و الجزائر، خاصة بعد ما شهدته هذه  البلدان من تغيرات بعد التدخل الاستعماري في المنطقة.

هذا من ناحية، من ناحية أخرى وعلى المستوى الداخلي، فقد أثار نفي السلطان محمد بن يوسف في غشت 1953، أزمة وقطيعة بين الشعب المغربي والسلطات الفرنسية ، وكانت منطقة الشمال الشرقي هي السباقة إلى الاحتجاج وطالبت بعودة السلطان من منفاه، وهذا ما يفسر  ظهور عدة خلايا ومنظمات سرية، كانت أهمها “منظمة أنصار محمد الخامس”، التي كان لها تنسيق مع المنظمة السرية بالدار البيضاء .وهي أول منظمة مسلحة ظهرت في مدينة وجدة، جمعت بين المدينة وضواحيها (البوادي)، فقامت باستهداف مزارع المعمرين داخل التراب الجزائري. كما قامت منظمة أنصار محمد الخامس بعدة عمليات فدائية، فهاجمت قاعات السينما ومزارع المستوطنين خاصة داخل التراب الجزائري، فيما كان للمنظمة السرية فرع في مدينة وجدة مكون من عناصر تابعة لحزب الاستقلال. كما ستعرف منطقة الشمال الشرقي ظهور عدة خلايا “كاليد السوداء” و”المنظمة الحمراء”، قامت بأعمال فدائية أفزعت المستعمر الفرنسي.

وقد كان للمقاومين الفارين إلى المنطقة الشمالية إثر مظاهرتي وجدة وبركان في 16 و 17 غشت 1953، دور بارز في إمداد الخلايا الفدائية بمنطقة الشمال الشرقي بالسلاح. لكن ما ميز المنظمات الفدائية بهذه المنطقة عن غيرها في المناطق الأخرى من المغرب، هو قربها من منطقة النفوذ الإسباني خاصة المناطق التي لا يفصلها إلا نهر ملوية، وقربها أيضا من الجزائر بحيث كانت هناك سهولة في التنسيق بين الثوار المغاربة والجزائريين.

في ظل هذه  الأحداث والأجواء التي عرفتها منطقة الشمال الشرقي، نشأ  حمدون شوراق الذي بدأ حياته المهنية في التجارة على طول نهر ملوية، مما أتاح له الفرصة لربط علاقات واسعة مع مغاربة المنطقتين الإسبانية والفرنسية وصولا إلى ما وراء الحدود المغربية الجزائرية، إذ كانت المنطقة كلها ذات ترابط قوي.

وقد شكل امتداد تجارته إلى الجزائر منذ سنة 1945، وذلك عبر مناطق النفوذ الفرنسي في الشمال الشرقي ، فرصة لتبادل الجرائد بين الجانبين، ونسج علاقات ثقة مع عدد من الوطنيين في المنطقة المجاورة، لاسيما وأن حمدون شوراق كان موزعا في المنطقة للصحف التي كانت تصدر بتطوان منها جريدة حزبه “الأمة” وجريدة “النهار”.

وبسبب نشاطه السياسي هذا، سيتم اعتقاله من قِبل السلطات الإسبانية، لكن سرعان ما سيعود إلى الواجهة بعد خروجه من السجن. ففي الأعوام التي تلت ذلك، كان لحمدون شوراق دور بارز في الحركة الوطنية، حيث كان عضوا في حزب الإصلاح الوطني وكان يتمتع بسمعة جيدة لدى الناشطين السياسيين والوطنيين في المنطقة، فقد كان معروفا بدعمه ومساندته لأي جهود تهدف إلى تحقيق الاستقلال والتحرر من نير الاستعمار.

قصة مذكرات حمدون شوراق

كل هذه المواقف الوطنية لحمدون شوراق، حفزتنا للبحث عن مذكراته التي كانت مفقودة في المكتبات الوطنية، نظرا لنفاد الطبعة الأولى منها. حيث بدأت علاقتنا بالمذكرات الشخصية لقادة المقاومة والحركة الوطنية بشكل قوي بصفة عامة عندما كنا بصدد القيام ببحث حول جيش التحرير في شمال المغرب 1955-1956، خلال رحلة البحث هذه، التقينا بعائلة حمدون شوراق التي أمدتنا بالنسخة الوحيدة المتبقية.

ومن خلال قراءتنا لمذكراته، سافرنا مع حمدون شوراق -رحمه الله-، إلى تجربة فريدة من نوعها في تاريخ التعاون والنضال المغربي الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، خاصة بعد رسو البواخر المحملة بالأسلحة القادمة من مصر في الشمال الشرقي للمغرب وبالضبط في منطقة شاطئ راس الماء بالناظور،  أو كما يسميها أهل المنطقة بقابوياوا.

وكان المجاهد حمدون شوراق مشرفا على نقل السلاح إلى المقاومة الجزائرية في سنتي 1954 و 1955. وقد استعرض في مذكراته بسالة أبناء منطقة المغرب الشرقي خاصة قبيلة كبدانة، فوصف لنا بدقة ذلك الالتحام والوحدة من أجل انعتاق الشعبين المغربي والجزائري من نير الاستعمار الفرنسي. فهذه المذكرات جعلتنا نقف أمام نوع آخر من التضحية في أبهى تجلياتها بين مقاومين لا تجمعهم لا اتفاقية ولا معاهدة مكتوبة، واجهوا الغطرسة الفرنسية بوسائلهم البسيطة التي أفزعت المستعمر.

وتعميما للفائدة وسعيا لنشر المعرفة، نتمنى أن تساهم الطبعة الثانية لمذكرات حمدون شوراق، والتي تعتبر مادة مرجعية توثيقية في نفض الغبار عن كل من يحاول إنكار الدعم الذي قدمه المغرب للمقاومة الجزائرية، وهي في حد ذاتها دعوة لذوي النوايا الحسنة وللنخب المغاربية إلى استثمار هذه المذكرات لاستحضار تاريخ النضال المشترك، الذي استمر حتى بعد استقلال المغرب، حيث كان توجه الدولة الرسمي هو دعم الثورة الجزائرية سياسيا وعسكريا. ولطالما اعتمدت الجزائر على الحدود المغربية واتخذتها بمثابة قاعدة خلفية لجبهة التحرير الجزائرية، إذ قدم المغرب الدعم الكبير لها في حربها ضد الاستعمار الفرنسي.

ولعبت المدن الشرقية المغربية دورا مهما في هذا الدعم، وأكدت الوثائق التاريخية والأحداث المشتركة بين المغرب والجزائر على وجود علاقات وروابط قوية بين الشعبين والحركات الثورية في كلا البلدين خلال فترة المقاومة.

وإن خير ما يمكن الاستشهاد به في هذا الصدد في مسك ختام هذا التقديم، هو موقف الملك محمد الخامس -رحمه الله-  الذي رفض تسوية الحدود في الصحراء الشرقية مع فرنسا، لأن أي تسوية في هذه المنطقة، ستؤدي إلى تعزيز شرعية الاستعمار الفرنسي للجزائر وتضر بنضال جبهة التحرير الجزائرية التي كانت في طريقها نحو الاستقلال.

ولنا اليقين أن هذه الطبعة، ستلقى القبول وكبير الاهتمام وذلك لكل ما ذكرناه سالفا وللأسلوب المميز والمشوق الذي كتب به حمدون شوراق مذكراته، فقد وضع الأجيال الجديدة في السياق السوسيوسياسي الذي رافق حمولة توحيد حركات التحرر في المغرب والجزائر.

خاتمة

ولا يفوتنا في آخر هذا التقديم إلا أن نتقدم بجزيل الشكر إلى الأستاذ امحمد جبرون، الذي بادر إلى طرح فكرة الطبعة الثانية للمذكرات، والتي تعتبر ضرورة جاءت في وقت تعرف فيه العلاقات المغربية الجزائرية منعطفا خطيرا، ونأمل أن تساهم هذه الطبعة في نفض الغبار عن الكفاح المشترك ضد الاستعمار ووحدة المصائر والمسارات، ودحض كل ما من شأنه إعطاء تاريخ مشوه عن التعاون المغربي الجزائري في فترة الاستعمار الفرنسي، بدلا من صناعة أجيال جديدة متغذية على مفاهيم خاطئة تروج لها وسائل الإعلام، والتركيز على الأمور الإيجابية التي ستساهم في التقارب المغاربي.