بين يدي التقديم

كلما ذُكر مؤرخو الأدب المغربي وروّاده خلال القرن الماضي، انتصبت أسماء الثلاثي: عبد الله گنون، محمد القباج، محمد بن تاويت، هذا الثلاثي الذي فطن مبكّرا لخوض تجربة الاشتغال على التراث المغربي، ونفض غبار النسيان والإهمال عنه، والعمل على إعادة صياغته وتبويبه وتصنيفه والتعريف به وبأعلامه، لتكون النتيجة أعمالا ازدانت بها المكتبة المغربية والعربية، كُتب لها ولأصحابها المجد والخلود  وهي: على التوالي: “النبوغ المغربي في الأدب العربي” لعبد الله گنون، و”الأدب العربي في المغرب الأقصى”  لمحمد القبّاج، و “الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى” لمحمد بن تاويت.

ويهمنا في هذه الحلقة تقديم كتاب “الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى” لمحمد بن تاويت، الصادر عن دار الثقافة بالدار البيضاء في أجزاء ثلاثة، وعلى مراحل ثلاث: الجزء الأول سنة 1982، والثاني سنة 1983، والثالث سنة 1984.

تقديم صاحب الكتاب

يعتبر محمد بن تاويت الطنجي أحد عمالقة الدراسات الأدبية وروادها ومؤسسي شعبتها في الجامعة المغربية، قدّم خدمات جلّى في مجالي التأليف والتحقيق، وغلب عليه فيهما شغفه بالتاريخ الذي أنهى فيه تعليمه العالي بالقاهرة، حتى إذا أقبل على التصنيف في الدراسات الأدبية، أقبل عليها بنفَسِ دارسي التاريخ.  فكان من مؤلفاته: تاريخ سبتة  – تاريخ البلاغة العربية – تاريخ التشريع الإسلامي – الاستشراق و الإسلام – ابن عبد ربه – ابن زيدون – الوصف في شعر ذي الرمة – أبو دهبل الجمحي وشعره – تاريخ دولة الرستميين أصحاب تاهرت – الوافي بالأدب العربي بالمغرب الأقصى. وفي مجال التحقيق نذكر له: “التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً”، و”شفاء السائل لتهذيب المسائل” لابن خلدون، و”جذوة المقتبس” للحميدي، ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، فضلا عن كتب أخرى للقاضي عياض وأبي حيان التوحيدي والبيروني  وغيرها.

جمع ابن تاويت – على عادة كثير من معاصريه – ثقافة موسوعية من خلال تعليمه التقليدي الجامع في القرويين، وتعميق تخصصه في التاريخ بعد التحاقه بالقاهرة، ليقضي شطرا معتبرا من عمره بتركيا أستاذا في جامعات أنقرة وأسطنبول بتركيا إلى حين وفاته سنة 1974م.

تقديم الكتاب

درِج عدد من الدارسين على تقديم كتاب “الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى” على أنه كتاب في تاريخ الأدب، لكون صاحبه جرد فيه عصور الأدب المغربي في ارتباط بالعصور السياسية، بدءا بمرحلة ما قبل الدولة المرابطية، فالدولة المرابطية، مروراً بالدّولة المُوحِّدية، والمرينية، والوَطَّاسية، والسَّعدية، وانتهاء بالدولة العلوية. وينسى هؤلاء أو يتناسون، أن الكتاب كتاب أدب، وتاريخ أدب، وتراجم، ونقد.

  • كتاب أدب: لما يقدمه من إمتاع من خلال النصوص والمقتطفات الأدبية، هذا الإمتاع الذي يزداد متعة وأنسا وفائدة كلما تعقّب المؤلف بعض النصوص بالشرْح والتعليق، لتصير المتعة متعتين: متعة عرض النص، ومتعة التعليق عليه.
  • كتاب تاريخ أدب: لأن ابن تاويت استعرض مسيرة الأدب العربي في المغرب منذ الفتح الإسلامي إلى غاية منتصف القرن العشرين، وتتبّع مراحل قوته وضعفه، ليخلص إلى أن الأدب العربي في المغرب وعلى امتداد هذه المسيرة بقي حاضرا متمتعا بكل مقومات البقاء، التي مكنته من تجاوز فترات ضعف قاتلة.
  • كتاب تراجم: إذ بلغ عد تراجم الكتاب بأجزائه الثلاثة أكثر من 240 ترجمة، منها 160 ترجمة في الجزء الثالث وحده.
  • كتاب نقد: ويَظهر ذلك من خلال التعليقات التي طالت عددا من النصوص، سواء على مستوى المبنى أو المعنى. ولولا مخافة الإطالة، لأدرجنا نماذج من تعليقات ابن تاويت حرص من خلالها على إبداء رأيه في نصوص عديدة إما معلقا أومستدركا أو مصوّبا لأسلوبها أو لغتها أو تركيبها أو بلاغتها أو عَروضها… مما يشي بتمتّع ابن تاويت بحس نقدي عال.

قصة تأليف الكتاب

في مقدمة “الوافي” أشار المؤلف محمد بن تاويت إلى قصة الكتاب بقوله: “كانت نواتُه الأولى قد ألقيتْ في الأحاديث الإذاعية التي عُهِدت إليَّ منذ فجر الاستقلال، فكانت الإذاعة الوطنية توجهها إلى المستمعين بالداخل، طيلةَ خمس سنوات، كما كانت توجّه أخرى نحو الشرق الأدنى في نفس المدة، وباختلاف بسيط عن الأولى”، ثمّ أُضيفَتْ إلى تلك الأحاديث مُحاضراتٌ ألقاها المؤلِّف “في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، في الرباط وفاس، منذ مطلع سنة 1960”.

محتوى الكتاب

الكتاب من ثلاثة أجزاء وسبعة أبواب، و ثمانية فصول:

  • الجزء الأول: من ثلاثة أبواب وفصلين، وقد اختار المؤلف أن يخص هذا الجزء للحديث عن مرحلة ما قبل العصر المرابطي – العصر المرابطي – العصر الموحدي.
  • الجزء الثاني: من بابيْن اثنيْن وفصليْن، وأفرده للعصريْن المريني والوطاسي.
  • الجزء الثالث: من بابيْن وفصليْن، وخصه للحديث عن العصريْن السعدي والعلوي إلى نهاية عهد الحماية 1956.

على سبيل الختم

إن كتاب “الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى” درة من درر المكتبة المغربية، وأحد الأعمال التي أبدعها جيل رواد القرن الماضي، جيل عبد الله گنون ومحمد القباج ومحمد بن تاويت، الذين كرسوا جهودهم لنفض غبار الإهمال والنسيان عن التراث الأدبي المغربي، وأغنوا المكتبة المغربية والعربية بأعمال لم يتجاوزها التاريخ، ولم تطلها مصيبة التقادم، وإن كانت كلها أو جلها في حاجة من جديد إلى مزيد عناية، وإخراج أنيق يتناسب مع رمزيتها التاريخية وقيمتها العلمية والأدبية .