بين دفتي الكتاب

إنها الولادات العسيرة ومن مطبخ الحزب العتيد الذي خرج جيلا عصيا على التطويع، وبتجربة كبيرة وحنكة في مجال التنظيم، وقيادة تنظيم الشبيبة الاتحادية، ورفض لمقعد برلماني، واشتغال على تأريخ مرحلة مهمة من تاريخ المغرب، ولكشف بعض من الحقيقة للأجيال يأتي هذا الكتاب المتميز والجريء  “اليوسفي كما عشناه” وكان اختيار العنوان موفقا، فدل على أن من قام بتأليفه وصياغة مضامينه ليس غريبا عن الدار ولا النضال. إنهما محمد حفيظ الذي رفض مقعدا مزورا وأحمد بوز، مؤلفا الكتاب يشتغلان أستاذين جامعيين، وكانا عضوين ومسؤولين بحزب عبد الرحيم بوعبيد، والمهدي بن بركة، وعمر بن جلون، واليوسفي الذي قاده لمدة إحدى عشرة سنة، موضوع الكتاب مثلما كانا مسؤولين بقطاعه الطلابي ومنظمته الشبيبة الاتحادية، غادرا الحزب معا منذ الانشقاق الذي شهده مؤتمره الوطني السادس 2001م، حيث سيتجها لجمعية “الوفاء للديمقراطية” التيار الذي تشكل داخل الحزب، قبل أن تندمج سنة 2005م مع اليسار الاشتراكي الموحد لتشكيل الحزب الاشتراكي الموحد. كما جمعتها أسبوعية “النشرة”، وعملا في “الصحيفة”، واهتما بالمادة السياسية. خرج كتاب “اليوسفي كما عشناه” ليحدثنا عن رواية أخرى ويملأ البياضات ويجلي بعض الحقائق، ويكشف عن المستور، ويبين أوحه الاختلاف مع الزعيم اليوسفي وخياراته.

يقع الكتاب في 475 صفحة، ووثق ببقايا صور مؤرخة ودالة، بعد الاستهلال: عشناها لنرويها، جاءت الأوراق الإحدى عشر: الخلافة المفاجئة، ملف شائك، ” كان” الذهاب والإياب، “حب” ينتهي في المحكمة، السياسة في الإعلام،، الدستور الذي نريد، “الطريق غير المستقيم” نحو التناوب، ” التناوب” الذي لم تصنعه صناديق الاقتراع، مؤتمر اليوسفي، نهاية قبل الأوان، جنازة عن بعد.

الأكاديمي عبد الله حمودي مقدما للكتاب

قدم عبد الله حمودي، الأكاديمي وأستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة برينستون، وتحدث عن مميزات مضامين المؤلَّف وأسلوبه “بكيفية حاسمة عما نقرؤه عادة في مذكرات السياسيين المغاربة، نساء ورجالا”، بعدما اختار كاتباه أن “يرويا تجربة سياسية بتداعياتها الخطيرة، ومخلفاتها التاريخية، ألا وهي تجربة ما سمي ‘التناوب التوافقي’، بعد عقود من الحكم السلطوي، وسنوات الرصاص، وما تبع ذلك من دساتير وانتخابات وحكومات ظل يخيِّم عليها، منذ الاستقلال، مشكل مشروعية المؤسسات والحكم بصفة عامة”.

وهي أزمة، أضاف حمودي، اعتُرف بها “على لسان العاهل الراحل الحسن الثاني، قبل الشروع في المشاورات لإيجاد الحلول المناسبة بوسيلة إصلاح ديمقراطي، وأسفرت عن تجربة التناوب”.

وزاد حمودي قائلا إن “هذه الدينامية” لا نتوفر حولها على “كتاب أو مذكرات من النوع الذي يضعه مؤلفا الكتاب اليوم بين أيدينا، والذي يروي الأحداث كما عاشاها مباشرة، وهما طرفان فيها، بفعل نضالهما الطويل في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي قاد التجربة، وفي شبيبته على الخصوص”.

لقد قدم حمودي قراءة في العنوان، الذي يؤكد على ما هو معيش ووقع بالفعل، ولا يستبعد المؤلفان روايات اخرى لنفس الوقائع، ومن تموقع مختلف في سيرورة تلك الأحداث، والإبداع الثاني تمثل حسب المقدم في تبويب الكتاب على شكل ” ورقات”، وكل ورقة مخصصة لجانب أو  موضوع فيما بخص تحركات السلطات العليا، وتحركات الحزب وقائده، ومناضليه ومؤسساته، وهو ما ساهم في تفادي السرد الكرونولوجي المحض وسلبياته، ومن ناحية أخرى، قلص التكرار إلى أدنى درجة، بالرغم من تناسل الوقائع وترابطها.

وتابع مقدم المؤلف الجديد: “نتتبع معهما (بوز وحفيظ) الأحداث والأفكار بتوصيفات وتحليلات دقيقة، نادرا ما نقف عليها في كتابات أخرى. ولي اليقين أن الكتاب سيكون مرجعا لا محيد عنه بعد ظهوره في الساحة. والأمل كل الأمل أن يساعد هذا الحدث الثقافي في ميدان السياسة على ظهور مساهمات مماثلة، من شأنها إلقاء الأضواء على تجربة حاسمة، وإن كانت قصيرة”.

ومن السيرة الذاتية الجزئية للروائي غابرييل غارسيا ماركيز استعار استهلال كاتبي المؤلف، بتحوير طفيف، عنوان “عشت لأروي”، ليصير “عشناها لنرويها”.

وعن  مقصد هذا المؤلف “تقريب القراء والمهتمين، وحتى الباحثين الذين يشتغلون على ‘المادة السياسية’ (…) من التجربة السياسية المهمة لعبد الرحمان اليوسفي”، ومحاولة تأريخ، في قلب سرد وتحليل، لـ”مسار تجربة حزبية من خلال تجربة شخص، هو الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي”.

ويستمد هذا الكتاب أهميته من كون كاتبيه “شاهدَي عيان على هذه المرحلة بحكم موقعين اثنين تأتى لنا من خلالهما أن نعيش أحداثا في زمانها ومكانها، وأن نتابع أخرى عن قرب منها أو من أطرافها والفاعلين فيها”.

أول المَوقعين، وفق المصدر نفسه، هو العضوية الطويلة في الاتحاد الاشتراكي، والمسؤولية في “الشبيبة الاتحادية” التي أتاحت “حضور لقاءات واجتماعات مع اليوسفي لم تخل في بعض المناسبات من مواجهات وتشنجات وانفعالات”. وثاني الموقعين العمل الصحافي بجريدة “النشرة” الصادرة عن الشبيبة الاتحادية، ثم في تجربة “الصحيفة” الأسبوعية فاليومية؛ وهو اشتغال على “المادة الإعلامية السياسية” مكن الكاتبين من أن يكونا “قريبين من الحقل السياسي والحزبي، ومتتبعين لتفاصيله وتموجاته ومنعرجاته، وعارفين بشخوصه والعديد من صناعه والفاعلين فيه”.

استهلال: “عشناها لنرويها”

تحدث “الاستهلال” عن اليوسفي الذي “كان أشبه بقديس، بالنسبة إلى الكثير منا، أو ‘بودا’ اشتراكي، كما كان يحلو لبعضنا تصويره، من شدة وقاره وانضباطه وصرامته”، وهي الخصال التي “كانت تمنحه ‘هيبة’ ميَّزَته عن آخرين”، ثم يزيد كاتباه: “لكننا اختلفنا معه، بمعية آخرين، في عدد من المواقف السياسية، وما تبعها من قرارات أو تدابير تهم التنظيم الحزبي. لقد عارضناه سياسيا حين رفضنا موقفه الذي دفع به الحزب إلى التصويت بـ’ نعم’ على دستور 1996، وعارضناه لاحقا حين كنا ضد الدخول إلى تجربة ‘التناوب التوافقي’ سنة 1998، وعارضناه تنظيميا حين قاطعنا وانسحبنا من أول مؤتمر ينعقد تحت إشرافه سنة 2001”.

واعتقد الكاتبان أن اليوسفي أخطأ في تقدير المرحلة حين دفع الحزب إلى التصويت على دستور 1996، الذي يعد تراجعا من حيث مضامينه حتى على دستور 1992 الذي صوت الحزب ضده. ونرى أنه أخطأ أيضا لما خاض تجربة ‘التناوب التوافقي’ بعد انتخابات زورت فيها مقاعد لفائدة الحزب، والأكثر من ذلك لم يقدم فيها الملك الراحل ما يكفي من الضمانات التي تسمح للحكومة بهامش من التصرف في تطبيق الاختيارات وتجسيد البرامج. وهذا ما سيعترف به لاحقا اليوسفي نفسه في محاضرته الشهيرة التي ألقاها ببروكسيل، في فبراير من سنة 2003”.

واعتبر الكاتبان أن الوحيد الذي أتيحت له فرصة كبيرة للتغير وفعل شيء ما كان هو اليوسفي “نقدر أنه الوحيد من قادة الحزب، بل ومن القادة السياسيين في الأحزاب الوطنية المغربية، الذي أتيحت له فرصة لفعل ‘شيء ما’، انطلاقا من موقع الوزير الأول الذي وصل إليه هو دون غيره من هؤلاء القادة، إذا ما استثنينا الفترة القصيرة التي قضاها عبد الله إبراهيم كرئيس للحكومة (…). لكنه لم يفعل، ولم يكن في مستوى الانتظارات التي علقت عليه”.

وعن مدى “موضوعية” الشهادة على تجربة، وتقييمها، من طرف من كانا جزءا منها، يكتب الأكاديميان: “لا ندعي (…) تقديم الحقيقة، والحقيقة كما هو معروف نسبية وليست مطلقة، كما لا ندعي امتلاك أسرار خاصة لا نعرفها إلا نحن، بقدر ما نروم تقديم ما عشناه، وعرض رؤيتنا ومنظورنا وتحليلنا لوقائع وأحداث فعلت فينا وفعلنا فيها”.

وذكر الكاتبان في السياق نفسه أن “هذا، بطبيعة الحال، لا يصادر حق آخرين في أن يخرجوا هم أيضا عن تحفظهم وكتمانهم ليحكوا لنا تلك الأحداث نفسها، أو حتى أحداثا أخرى ربما نجهلها، كما عاشوها أو تلقوها أو فهموها. وقد يكون ذلك مفيدا في اكتمال الصورة ووضوح الرؤية، وتقديم ‘بنك معلومات سياسية’، وحتى تحليل، يساعد في قراءة مرحلة مهمة جدا، بل وحساسة، من تاريخنا السياسي”.

محطات في مسار اليوسفي

وقف أحمد بوز ومحمد حفيظ عند مجموعة من المحطات في تجربة اليوسفي من خلال إحدى عشرة ورقة، تحاول فهم سبب خلافة اليوسفي “المفاجئة” للقيادي اليساري البارز الراحل عبد الرحيم بوعبيد على رأس الاتحاد، وتدبيره ملف اعتقال ومحاكمة القيادي النقابي نوبير الأموي، ومغادرته الأولى قيادة الحزب سنة 1993 ثم انطلاقته الجديدة سنة 1995، وعلاقة الراحل بالشبيبة الاتحادية، وعلاقته بالإعلام الاتحادي، وموقفه من دستور 1996، وقبوله المشاركة في “التناوب التوافقي” بعد انتخابات 1997 “المزوّرة”، وظروف “التناوب” ورغبة الحسن الثاني فيه بين “السكتة القلبية” و” السكتة البيولوجية”، وأول مؤتمر حزبي ينعقد تحت قيادته، ونهاية اليوسفي السياسية، وأسئلة حياته بعد هذه النهاية، وحضوره، والتعاطف الذي ظل يحظى به، و”ظهر بشكل واضح لدى مماته”.

ومن بين ما يجده القارئ في هذا الكتاب حديث عن منع اليوسفي، الوزير الأول، لجريدة “لوجورنال” و” الصحيفة” و”دومان” بعد نشر وثيقة نسبت للقيادي اليساري الفقيه البصري، تتحدث عن تواطؤ مفترض لقادة حزب الاتحاد الوطني مع المشاركين في المحاولة الانقلابية ضد الحسن الثاني سنة 1972. وهو منع “أثر على صورة اليوسفي، المناضل الحقوقي والصحافي الذي سبق له أن كان ضحية للاعتقال، فقط لأن الجريدة التي كان يرأس تحريرها (التحرير) نشرت يوم 14 دجنبر 1959 افتتاحية تتضمن جملة تقول: إذا كانت الحكومة مسؤولة أمام جلالة الملك، فإنها مسؤولة أيضا أمام الرأي العام”.

وفسر الكاتبان رد الفعل هذا بكون القادة السياسيين في المغرب “يفضلون ألا يخطوا ‘كتاب حياتهم’ بالمطلق، وحتى إذا كتبوه، وهذا في أحسن الأحوال، فإنهم يكتبونه مبتورا؛ وهو ما يجعل كثيرا من الأسرار والتفاصيل، التي تكون مفيدة في إماطة اللثام عن أحداث ووقائع معينة، تدفن معهم”، ولم يستثنيا إلا مذكرات السياسي والمستشار الملكي الراحل عبد الهادي بوطالب “نصف قرن في السياسة”.

كما يجد القارئ حديثا عن النهاية الفعلية لتجربة “حكومة التناوب”، رغم تجديد الملك محمد السادس ثقته فيها، مع وفاة الملك الحسن الثاني الذي لعب دورا رئيسيا في جعلها تخرج إلى الوجود. وهي نهاية، يكتب حفيظ وبوز، ارتبطت بتأدية “المهمة الرئيسية” التي يُفترَض أنها “وجدت من أجلها”، بعدما “مر انتقال العرش في أحسن الظروف”.

إعجاب وتنويه

وعن سبب “الإعجاب والتقدير” المستمرين للراحل عبد الرحمن اليوسفي، يقدم الكتاب ثلاثة عناصر، أولها أنه “عرف كيف يخرج”، وعرف إلى حد ما كيف ينتهي سياسيا، وثانيها صدمة مستوى الانحطاط الذي وصله العمل السياسي بالبلاد، تجعل في استحضاره “نوعا من الحنين إلى الممارسة السياسية النظيفة والمجردة من البحث عن الكسب المادي الشخصي”.

أما ثالث الأسباب فـ” الصورة التي سعت الدولة، والملكية نفسها، إلى تسويقها عن عبد الرحمن اليوسفي الشخص والسياسي، وليس بالضرورة قائد ‘تجربة التناوب’، لا لأنه فقط ‘اشتراكي خدم الملكية’ (…) وإنما أيضا لأنها، من جهة، ظلت تشعر إزاءه بنوع من ‘الإحراج’ أو ‘الدَّين’ بعد إبعاده وحزبه، ومن جهة أخرى لأنها تفتقد إلى نموذج مثله”.

ويزيد الكتاب: “من جهة ثانية، وهذا هو المهم في نظرنا، الدولة ظلت تحرص على أن تقدم اليوسفي للمغاربة باعتباره مرجعا في السياسة ونموذجا لـ’رجل الدولة’، الكتوم والصامت، والزاهد في السلطة، الذي يحترم الأصول ويرعى الأعراف، ويقدر البروتوكول، ويلتزم بواجب التحفظ وأخلاقيات الدولة، ويتعامل مع المجالس باعتبارها أمانات، والذي لم يسع قط إلى تبخيس العلاقة الخاصة والنوعية التي يفترض أن تجمع بين الملك ووزيره الأول أو رئيس حكومته.

الخلاصة

هل اختصر الكتاب كل شيء أم كان نوعا من البوح الممنوع؟ ما الصورة التي رسمها للقائد السياسي، والتحديات التي وجهته، وهو الذي ترك الجمل بما حمل وغادر، ودفن معه سره، ولم يخبر أحدا عن أسرار مطبخ المخزن؟ من قلم أظافر الرجل وفرمله، وأوقف مشروعه الإصلاحي؟ هل بنهايته انتهت مسيرة حزب ظل عصيا على التطويع؟ هل تغنينا بعض تفاصيل هذا الكتاب عن قراءة هذه الوثيقة المهمة والشهادة التاريخية؟ متى يشهد المغرب تأسيس كتلة تاريخية تخرج المغرب من عنق الزجاجة وتعيد للبلد والسياسة توهجها وبريقها وتربط الماضي بالحاضر؟ لا غنى بالنسبة لباحثين في السياسة وعلومها عن اقتناء الكتاب وقراءته بإمعان وبعين ناقدة.

بصم اليوسفي على مرحلة تاريخية مهمة، وكانت له قدرة  على صهر أبعاد متعددة  في شخصية واحدة جعلت اليوسفي -حسب جماهري- “ليس فقط رجل دولة، بل رجل تاريخ”.

وقبل سنتين من رحيله خرج اليوسفي ليسجل شهادته على مرحلة مهمة من تاريخ المغرب في كتاب “أحاديث فيما جرى” الذي جاء من ثلاثة أجزاء يحكي فيها سيرته منذ رأى النور في بيت بسيط بطنجة شمال المغرب إلى اعتزاله السياسة، ورغم حذره وهو يحكي مذكراته فإنها تظل شهادة موثقة لأحداث عايشها خلال مساره السياسي الطويل والحافل.