بين يدي التقديم

حظي علماء الأمة عبر التاريخ باهتمام يليق بمقامهم وقدْرهم وفضلهم، ففي القرآن الكريم هم أكثر الناس خشية لله، قال سبحانه وتعالى: ﴿إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28]، وهم في السُّنة ورثة الأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: “إن العلماء ورثة الأنبياء”[1]، وهم عند ابن عيينة: “أرفع الناس عند الله منزلة”، وعند ابن الجوزي: “أقرب الخلق من الله”… ولعل أقل ما يقدم لهم -في حياتهم وبعد مماتهم- توقيرهم ورفع منزلتهم، وإحسان القول عند ذكرهم، والإنصاف في تقييم أعمالهم، والتعريف بمآثرهم، وعند تقديم النصيحة لهم.

وقد ترجم المسلمون هذه المعاني إلى علمقائم بذاته، نشأ لديهم منذ عصور خلت، سمي عندهم بـ “علم التراجم” برع فيه كتّاب ومؤلفون، وصنّفوا فيه كتبا أسفارا ومجلدات، تناولت سير أعلامٍ من طبقات مختلفة: خلفاء وملوك وأمراء وقادة وعلماء وأدباء وشعراء، بل اتسعت مساحة هذا العلم ليشمل سير أعلام آخرين مثل البخلاء والحمقى والمغفلين والشُّطار والعيارين… وكان من حسنات هذا العلم التعريف بحياة المترجمين، وبسط مواقفهم وآثارهم، فخلد بذلك ذكرهم، وعلا قدرهم، فما زالت الأجيال مشتغلة بتراثهم، مهتمة بعطائهم.

ولأن الخير لا ينقطع في هذه الأمة الودود الولود، فإن لائحة العلماء مازالت تترى، وقائمة أسمائهم لم تطْوَ، وعجائب عطاءاتهم لم تنقض ولم تفْنَ. فها هي دور النشر والمكتبات والخزانات تستقبل من حين لآخر مولودا جديدا يعرّف بعالِم أو علماء، بحسب طبقتهم، أو مجال نبوغهم وتخصصهم، أو أعراقهم وانتمائهم…

ومن أعمال المتأخرين في التعريف برموز الأمة المغربية كتاب “حياة شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي العالم المفكر، والمصلح المناضل” للأستاذ حماد القباج.

تقديم الكتاب

صدر الكتاب في طبعته الأولى بتاريخ شعبان 1435ه – يونيو 2014 في حجم كبير، ومن 407 صفحة. وقد اختار المؤلف الأستاذ حماد القباج أن يسم كتابه بعنوان طويل، مع تذييله بعبارات تحيل على معالم من حياة شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي، وبالتبع تحيل على مضمون الكتاب نوردها كما هي: تجديد ديني – دعوة وسياسة – إصلاح عقدي وسياسي – كفاح من أجل الحرية – نشأة الحركة الوطنية – نضال ملك وشعب – أعلام وشخصيات وثائق وشهادات – حقائق مهمة من تاريخ المغرب الحديث.

والكتاب من مقدمة، وأربعة أبواب، وثلاثة فصول، وخاتمة، وخلاصات واستنتاجات، مع ملحق للصور. وبين يدي الكتاب أورد المؤلف أقوال أربعة من الأعلام الكبار تشيد بالمترجم شيخ الإسلام العلوي وهم: تقي الدين الهلالي – محمد الفاسي – أنور الجندي – علال الفاسي، وكلمة مقتضبة لكنها جامعة لشيخ الإسلام بمتابة “بورطريه” شخصي يقول فيه: “أنا إسلامي فوق عروبتي/ وعروبتي فوق مغربيتي، ومغربيتي فوق العرش، وأنا في خدمة العرش ما دام العرش في خدمة الحق”.

تفصيل مضامين الكتاب

– المقدمة: اختار المؤلف أن يوطئ لكتابه بمقدمة وافية ضمنها ثلاثة عناوين:  السياق التاريخي أشار فيه إلى بعض الأحداث والوقائع التي صاحبت مولد “رجل هيأه القدر ليضطلع بدور مهم في مواجهة العدو الطامع في خيرات البلاد والمنتهك لكرامة العباد”[2]. وفي مدخل توثيقي: عرّف  بالمصادر العشرة التي اعتمدها في ترجمة شيخ الإسلام[3] وهي مصادر “تضمنت ترجمة مقصودة للشيخ”، ليختم تحت عنوان “مصادر أخرى مهمة” بالإشارة إلى مصادر اشتملت على معلومات ساهمت في تكوين “صورة شاملة وعميقة عن حياة شيخ الإسلام”.

– الباب الأول: النشأة والحياة العلمية، وهو عبارة عن ترجمة وافية مستفيضة لامست جوانب مهمة من حياة شيخ الإسلام العلوي، وأطرتها أربعة عناوين هي: المولد والنسب والبيئة – طلب العلم والتكوين الثقافي – أخلاقه – الزواج.

– الباب الثاني: الحياة العلمية والمهنية، وفيه عناوين ثلاثة: التدريس – العدلية والقضاء –الوزارة وخطة الإفتاء ثم خلاصة. وهذا الباب من أغنى أبواب الكتاب، حيث بسط فيه المؤلف جوانب من حياته العلمية ولائحة لأهم تلاميذه والمدن التي درس فيها ودوره في رئاسة المجلس الأعلى للقرويين ومساهمته في إصلاح مناهج التعليم وما لاقاه من مضايقات سلطات الاحتلال، فضلا عن أدواره الإصلاحية في جميع المواقع التي تقلد فيها مناصب رسمية.

– الباب الثالث: حياة النضال، وفيه ثلاثة فصول: الأول – الدعوة إلى الله والتجديد السلفي. الثاني – وطنيته ونضاله السياسي. الثالث – نضاله السياسي بعد الاستقلال، وفي هذا الباب رصْد دقيق لعدد من الأنشطة التي تترجم رصيد النضالي لشيخ الإسلام على جبهات متعددة رسمية وشعبية، نذكر منها: الدعوة إلى التوحيد ومقاومة الطرقية، الحث على السنة ومقاومة الجمود الفقهي والتعصب المذهبي. مساهمته في نشأة الحركة الوطنية، موقف من الظهير البربري ووثيقة الاستقلال، تعرضه للنفي، رفضه استقلالا بدون رجوع الملك، اهتمامه بقضايا الأمة، العلاقة بالسلطان محمد الخامس، تحوله إلى صف المعارضة، الصلاة على محمد الخامس وبيعة الحسن الثاني، حقيقة علاقة الشيخ بحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. أما الباب الرابع: الرحيل والشهادات، فبسط فيه اللحظات الأخيرة من حياته، وصف جنازته، وشهادات في حقه بلغت 19 شهادة. هذا وقد ضم ملحق الصور ما يقارب ثلاثين صورة وثقت لمراحل مختلفة من حياة الشيخ رحمه الله.

على سبيل الختم

لقد حظي شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي باهتمام عدد من الباحثين والدارسين، فالتفتوا إلى سيرته، شأنه في ذلك شأن الكبار الذين ملأوا السمع والبصر بمواقفهم وعطاءاتهم، وقد تفاوت هذا الاهتمام من ترجمة مقتضبة كما في “إتحاف المطالع”  و”سل النصال” لعبد السلام بن سودة، إلى تراجم وافية كالتي أعدها عبد الرحيم الورديغي (55 صفحة) أو عبد القادر الصحراوي (115 صفحة) أو محمد الوديع الآسفي (220 صفحة)، لكن يبقى كتاب “حياة شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي العالم المفكر والمصلح المناضل” لحماد القباج – إلى اليوم –  أكثر الأعمال إفادة من حيث غزارة المادة، والقدرة على الحفر  في حياة وشخصية شيخ الإسلام من زوايا مختلفة، وبمنهجية شمولية تشبع فضول الباحث المهتم بسيرة هذا الرجل العظيم على المستوى العلمي والدعوي والسياسي والفكري.

رحم الله شيخ الإسلام، وبارك في عمر الأستاذ القباج ونفع به آمين.

المراجع
[1] حديث شريف، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان.
[2] حماد القباج، حياة شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي العالم المفكر والمصلح المناضل، ص 14.
[3] حماد القباج، حياة شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي...، مرجع سابق، من ص 21  إلى 29.