بين يدي التقديم

شكلت الأندلس – عُدوةً للمغرب الأقصى –  على مدى أكثر من خمسة قرون، فكانت عمقه التاريخي والحضاري، وامتداده العلمي والمعرفي، وكانا معًا (المغرب والأندلس) على موعد مع التاريخ  -وخاصة – عندما استتبّ الأمر للدولة المرابطية التي أعطت زخما لمستوى تعاطي العدوتين مع بعضهما، حيث نشأت علاقات وثيقة، وصلات متينة مكنتهما من خلق دينامية ثقافية، تجاوز إشعاعها حدود شبه الجزيرة الإيبيرية وحدود المغرب الأقصى.

ثم ما لبثت الأندلس أن صارت جزءا من الغرب الإسلامي بتراثها ورجالاتها، يُذكر فتذكر، ويُمدح فتُشكر، ويُقرض فيكون لها الكعب المعلى، وصار ذكر أعلامها يُحيل حتما على العدوة الأخرى/المغرب، بعد أن صار الحلّ فيه والترحال إليه، جزءا من تراجمهم.

والإمام ابن حزم واحد ممن بصموا الحياة العلمية والفكرية والأدبية بالأندلس، وطبيعي أن يشغل بمصنفاته الدنيا في حياته وبعد مماته، حيث حظي تراثه باهتمام الباحثين والدارسين على اختلاف مشاربهم وتخصصاتهم، ووجدوا فيه ما يشغل تفكيرهم، ويستفز عقولهم، فجاءت الدراسات تترى، والأبحات يلاحق بعضها بعضا. ولعل من أكثرها غنى وعمقا، ما ألفه الدكتور محمد عمراني حنشي عن ابن حزم، بل عن مدرسته التي امتد إشعاعها في ربوع واسعة من أوربا.

تقديم الكاتب

ولد الأستاذ الدكتور المهندس محمد عمراني حنشي  يوم 11 دجنبر 1943 بقرية تاغزوت التابعة لإقليم الحسيمة شمال المغرب، وهو رجل فكر عصامي، واسع الاطلاع، غزير الإنتاج، لم يمنعه تخصصه في الأرصاد الجوية من الخوض في قضايا فكرية وعلمية مختلفة، انطلاقا من رؤية إسلامية أثارت نقاشا واسعا بين القبول والرفض. ألّف في الفكر الإسلامي والحديث والتاريخ والسير وتاريخ الأديان ومقارنتها، والاستشراق… دَرًّس بجامعة الملك عبد العزيز بالمملكة العربية السعودية لمدة ثلاث سنوات (1986 – 1989). ثم عاد إلى المغرب ليتفرغ للنشاط الدعوي والعلمي، فانتظم في تآليفه ومصنفاته وحضوره على صفحات عدد من الجرائد والمجلات. التقى بالعديد من العلماء المغاربة والأجانب أمثال: تقي الدين الهلالي، والشيخ عبد العزيز ابن باز، والشيخ الألباني وغيرهم. من مؤلفاته: كتاب: «الهندسة الحديثية» 2011م –  كتاب: «إشكاليات المصطلح في علوم الحديث» 2005م – وكتاب: «التأويل و السؤال الأزلي المنسي» 2017م – وكتاب: «الأصولية الجعفرية الشيعية والاجتهاد المؤطر بالأسطورة» – وكتاب: «كيف يرد الخطأ على المفتين الكبار رواية ودراية لعدم إلمامهم بالعلم : الشيخ ابن باز والشيخ العثيمين نموذجا» – وكتاب: «الانقلابات البولصية في الإسلام : المعهد العالمي للفكر الإسلامي نموذجا » – و كتاب: «كيف تمت هندسة فيروس إسمه أدونيس» – وكتاب: «المهدي اللامنتظر لا عند اليهود ولا عند الشيعة ولا عند البرتغال» – وكتاب «Le Judaïsme Dans Tous Ses États».- وكتاب: «الأجوبة المونتريالية» – وكتاب: «المقاصد السياسية والشرعية عند علال الفاسي» – وكتاب: «مدرسة ابن حزم الأوربية في النقد التاريخي للكتب المقدسة، رسالة في التسامح الديني». توفي رحمه الله يوم 1 غشت 2022.

تقديم الكتاب

كتاب «مدرسة ابن حزم الأوربية في النقد التاريخي للكتب المقدسة، رسالة في التسامح الديني»  صدر في سفر واحد من 285 صفحة من القطع المتوسط، عن مطبعة طوب بريس بالرباط سنة 2011، شكلت المقدمة مدخلا نظريا مؤطرا لوجهة الكتاب، إذ عرّف الدكتور حنشي أولا بابن حزم وقدّمه لقرائه على أنه “الرجل الذي اجتمع فيه ما لم يجتمع في أحد قبله، فهو الفقيه الملم بمسائل الخلاف عند المدارس الفقهية، ابتدأ حياته مقلدا لمالك، ثم تدرّج شافعيا وانتهى به اجتهاده ظاهريا، يخالف الفقهاء الأربعة في الفروع ومناهج الاستنباط والاستدلال عندهم… بل لم يمنعه انتسابه إلى المدرسة الظاهرية من انتقاد أصحابه فيها إن لم يوافقه الدليل… بل يخالف جمهور الفقهاء حتى من فقهاء مذهبه… كتب في الإمامة والسياسة، وفي الآداب والأخلاق، وفي الأنساب والسير، وفي الكتابة والخطابة، وفي التاريخ والفتوح، وفي الحديث والرواة، وفي الفقه والأصول، وفي الخلاف والمنطق… إلى غير ذلك من الفنون”[1] إنه ابن حزم الذي لم يتردد محمد عمراني حنشي في أن ينسب إليه مدرسة قائمة الذات، شديدة الأركان، ويتتبع أثرها في فرنسا وهولندا وألمانيا وأنجلترا.

مدرسةٌ، المنهج فيها “إيراد البراهين المنتجة عن المقدمات الحسية، أو الراجعة إلى الحس من قرب أو من بعد على حسب قيام البراهين التي لا تخون أصلا مخرجها إلى ما أخرجت له، وأن يصح منه إلا ما صححته البراهين المذكورة فقط، إذ ليس الحق إلا ذلك”[2] وهو منهج ضمنه كتابه الذائع الصيت “الفصل في الملل والأهواء والنحل” الذي استعرض فيه الأفكار الشائعة في زمنه في مجالات الاعتقاد والفلسفة على مستوى المعمورة، ومرجعه الأساس أن البشرية كلها مخاطبة بالإسلام: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” [الأنبياء 107] ” وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا” [سبأ 28]. ومنطلق فكرته أن التحريف دخل على الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى في غير ما موضع، وأن هذه الكتب لا يمكن بحال من الأحوال نسبة كتابتها إلى الأنبياء.

في الكتاب جهد واضح بيّن، كرسه الكاتب على امتداد الصفحات، مستفيدا من منهج ابن حزم، بعد أن جلّى معالم مدرسته، وعبّر بوضوح أنها ما زالت “حية معطاءة من أجل الحقيقة، والحقيقة وحدها رغم أنف من لا تعجبه”[3]، منبها إلى أنّ الكنيسة رأت فيه “الخطر المميت الذي لا يُتغلّب عليه سوى بالطمس”[4]. تتبّع الأستاذ محمد عمراني حنشي بنفَس الناقد المطلع مراحل تعامل الكنيسة وقساوستها مع آراء ابن حزم، وفضح الخلفية التي حكمت موقفهم من القرآن الكريم، وفي المقابل عرض تراث عدد من فلاسفة و”قديسي الغرب” الذين عبروا عن آراء مخالفة لما ورد في الكتب المقدسة، وتبنوا مواقف جريئة في شخص المسيح عليه السلام.

 على سبيل الختم

يقدم الكتابُ صورةً جليّة عن المؤلّف، فتسحرنا سعة اطلاعه، وتنوع ثقافته، وقدرته على الحِجاج، وأكثر ما يبهر القارئ نجاح محمد عمراني حنشي في استصحاب منهج ابن حزم في نقد الكتب المقدسة التي بيد النصارى واليهود، فإذا أضفنا إليه ما حصّله من اطلاع واسع على الفكر الفلسفي الأوربي، فستكون المحصلة نقدا رصينا ممنهجا معززا بأقوال مفكرين وفلاسفة غربيين، وتصبح الحجة ما شهد به الأهل، ونطق به أصحاب الدار.

المراجع
[1] محمد عمراني حنشي: مدرسة ابن حزم الأوربية...، ص 13 – 16.
[2] محمد عمراني حنشي: مدرسة ابن حزم الأوربية...، ص 12.
[3] محمد عمراني حنشي: مدرسة ابن حزم الأوربية...، ص  268.
[4] محمد عمراني حنشي: مدرسة ابن حزم الأوربية...، ص 270.