مقدمة

الحاج بلعيد أو بلعيد محمد البعقيلي، من أبرز الفنانين الموسقيين الذين حفظ لنا التاريخ جزء مهما من أعمالهم الموسيقية، وهو أيضا من أكبر “الرياس” أو الروايس (جمع الرايس)، وأكثر الموسيقيين الأمازيغ الذين بصموا “فن تِيرّويْسا” أو “فن الرْوايْس”، بل هو من رواد وواضعي أسس هذا الفن. كما أنه أشهر مؤلف موسيقي للأغنية الأمازيغية في منطقة سوس بالمغرب. وكان معلما وملهما بارزا لعدد غير يسير من “الروايس” في عهده. وهو أيضا من أوائل الفنانين المغاربة-وليس الأمازيغ فقط- الذين سجلوا إنتاجاتهم الفنية في “الفونوغراف” مع بداية القرن 20. فقد سجل الرايس الحاج بعليد أكثر من 60 قصيدة على أسطوانات “78 دورة”، من بينها ثلاثة عشر اسطوانة أعيد تسجيلها على أسطوانات ميكروسيون “45 دورة”، وذلك قبل انتشار الشريط الصوتي (الكاسيط) في المغرب. وقد بدأ الرايس الحاج بلعيد في تسجيل أغانيه لدى شركة “غراموفون” الإنجليزية الأصل، قبل أن يلتزم مع شركة “بيضافون” التي تعتبر أكبر شركة غير أوربية للأسطوانات، والتي عملت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مطلق القرن العشرين. ورغم المشاكل التي وقعت بينه وبين هذه الشركة بسبب محاولة ممثل الشركة في المغرب السيد تيودور الخياط، استغلال الحاج بلعيد وفنه بأبخس الأثمان، فإن هذا الأخير استمر في التعامل مع الشركة حتى السنوات الأخيرة من حياته في غياب بديل لها في السوق المغربية.[1]

ولادته ونشأته

لا تتوفر معطيات كافية ودقيقة حول تاريخ وميلاده، لكن بعض الروايات تورد أن الحاج بلعيد ولد في دوار “أَنُو نْ عْدّي” حوالي عام 1876، أو قبلها ببضع سنوات، بجماعة “وِجّان” على بعد 12 كلم شرق مدينة تزنيت بقبيلة “إدا أو بَعْقيلْ” بمنطقة سوس واسط المغرب. وقد نشأ يتيم الأب، إذ توفي والده قبل أن يبلغ سن التمييز. وقد أدخلته أمه إلى كتاب مسجد قريته من أجل تحصيل نصيب من المعرفة، لكن ظروف العوز والفقر التي عانت منه عائلته حالت دون استمراره في الدراسة، حيث كانت والدته في حاجة إلى عونه في إعالة إخوته الصغار، فاشتغل راعيا للغنم في منطقة “إدا أو بَعْقيل” مقابل أجر زهيد. وقد قضى حيزا مهما من طفولته كراعي غنم في غابات شجرة أركان وحيدا إلا مع أغنامه، وآلة الناي (العُوّاد) التي كانت وسيلته الموسيقية الأولى والتي فتحت له باب النبوغ في الشعر الأمازيغي وفن الروايس[2].

بدايات الرايس الحاج بلعيد مع الشعر والموسيقى الأمازيغية

كانت البدابة الفعلية لدخول الحاج بلعيد عالم الموسيقى الأمازيغية أيام تجواله وراء أغنامه بغابات أركان بقبيلة إدا أو بعقيل، حيث كان يعزف على نايه وحيدا وسط طبيعة صامته وملهمة، الأمر الذي سمح له بإتقان الغناء بآلته البسيطة تلك، وقد لفت نبوغه في ذلك انتباه شيخ رماة سيدي محمد أُو صالح أُو تْزْرْوالْت، فألحقه بفرقته البهلوانية. وخلال جولات الشاب بلعيد مع الفرقة باعتباره واحدا ممن يتقنون الغناء بالناي، كان يعمد –في أوقات فراغه- إلى العزف على آلا موسيقية اخرى، وخصوصا منها “الرِّبَابْ” الذي سيكون رفيق دربه طيلة مساره الموسيقى المتميز، إضافة إلى “لُوطارْ” و”الناقوس” و”تالُّنْت” (الدف)، كما كان يقلد بعض معزوفات وأغاني الروايس المعروفين في ذلك العهد. وقد ظل على هذا المنوال إلى نهاية القرن 19م.[3] وتذكر إحدى الوثائق التي يعود تاريخها إلى سنة 1908م، أن الحاج بلعيد قد حل بمدينة طنجة قبل أن يسافر إلى المشرق العربي. وفي يوم 28 أكتوبر من سنة 1910 وصل بلعيد في طريق عودته من الحج إلى مدينة مرسيليا الفرنسية، وذلك قبل عودته إلى مدينة طنجة ثم مدينة الصويرة.[4]

النبوغ الشعري والموسيقي للحاج بلعيد

غادر الحاج بلعيد فرقة رماة تازْرْوالْت وانضم إلى مجموعة من الرْوايْسْ فتجول معها في سياحتها الفنية لمدة ليس طويلة، وذلك قبل أن يؤسس فرقته الموسيقية الأولى، والتي نالت شهرة كبيرة في كل مناطق سوس وخارجها وبل خارج المغرب في مناطق استقرار الجالية المغربية وخاصة في فرنسا. ونتيجة لذلك لتميز فرقته وشهرتها، انفتحت الآفاق أمام الحاج بلعيد وفرقته الموسيقية، فأصبح ضيفا دائما على قصور القواد والأعيان في كل من سوس والأطلس الكبير وفي مراكش والصويرة. فتوالت عليه الدعوات والرسائل من بعض الرؤساء السياسيين والأغنياء، وأيضا من الجالية المغربية المقيمة بفرنسا. وفي سنة 1932م حل الحاج بلعيد ضيفا على السيد بروسبير ريكار Prosper Ricard في معهد الموسيقى المغربية بالرباط، وهناك قنن الباحث الموسيقي أليكسيس شوطان Alexis Chotin الخطوط الرئيسية لبعض أعماله الموسيقية. وقد كان الحاج التهامي الكلاوي باشا مراكش هو الذي رتب للقاء الحاج بلعيد للباحث الفرنسي أليكسيس شوطان، وقد كان الحاج بلعيد دائم التردد على الكلاوي بمراكش وتلوات منذ تعرفا على بعضهما أيام الحملة توجه “الطابور” (الرتل) لاحتلال مدينة تزنيت سنة 1917م، حيث كان الكَلاوي، وأيضا الطيب الكَنتافي، ضمن هذه الطابور. [5]

الجولات الموسيقية للفنان الحاج بلعيد

بسبب الشهرة التي نالها الرايس الحاج بلعيد وفرقته الموسيقية، فقد كان دائم التنقل والتجوال لإحياء حفلاته الموسيقية في مناطق تمتد من مراكش والصويرة شمالا إلى جنوب مدينة تزنيت إلى غاية نواحي أيت باعمران. وتبقى أطول جولاته وآخرها تلك التي قادته إلى العاصمة الفرنسية باريس سنة 1938م، وهي الجولة التي رتب لها شخص يحمل إسم الرايس حماد شحوريم المعروف ب “كَو كَلو”، وكان يعمل في “سيرك” شعبي وأبرم معه الحاج بلعيد عقدا لمدة ثلاثة أشهر من أجل تقديم هذا الأخير لسهرات موسيقية مقابل مبلغ مالي ضئيل كل شهر. وبالفعل فقد غنى الحاج بلعيد رفقة فرقته في جانفيلي Genevilliers ونانتير Nanterre وكاتر-روت Quatre-Route بضواحي باريس، كما غنى في مدن أخرى تشهد تواجد المهاجرين المغاربة كسانت-إيتيان Saint-Etienne وليون Lyon…[6].

وفاته وإحياء تراثه

في سنة 1940 ذكر بعض الوثائق أن الرايس الحاج بلعيد قد أعفي من الخدمة المخزنية بسبب تقدهه في السن. وبعد بضع سنوات توفي حوالي 1364ه/1944 بعد أسبوع من المرض ودفن في قريته أنو نْ عدّو بقبيلة إد أو بعقيل.[7] وفي سنة 1990 نظم المجلس البلدي لتزنيت، ندوة علمية في قريته، شارك فيها عدد من الباحثين والمتمين بإرث لالحاج بلعيد وموسيقاه، من أمثال أحمد بوكوس (عميد المعهد الملكي للثقافة الامازيغي)، وعلي صدقي أزايكو، ومحمد مستاوي وغيرهم، كما قامت مدينة تزنيت سنة 2014 بتكريمه بنصب تمثال حديدي له عند مدخل الفضاء الأخضر لدار الثقافة بالمدينة.[8] كما افتتح معهد موسيقي جديد بنفس المدينة سنة 2022 يحمل إسم  الحاج بلعيد. كما عمل المجلس الجماعي ل”وِجّانْ” بشراكة مع جهات أخرى سنة 2021 على تنفيذ برنامج تأهيل وترميم دار الريس الحاج بلعيد بدورا “أنو نْ عدو”.

المراجع
[1] لخصاصي عبد الرحمان، معلمة المغرب، ج4، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 1991، ص 1336.
[2] مستاوي محمد، الرايس الحاج بلعيد، حياته وقصائد مختارة من شعره، سلسة أعلام الأدب المغربي الأمازيغي، مطبعة النجاح الجديدة، ط3، 2007، ص 10.
[3] كيكر عبد الله، من أعلام سوس في القرن العشرين، ج2، مطبعة الرباط نت، 2021ن ص 178./معلمة المغربن ص 1336.
[4] لخصاصي عبد الرحمان، معلمة المغرب، ج، مرجع سابق، ص 1336.
[5] لخصاصي عبد الرحمان، معلمة المغرب، ج، مرجع سابق، ص 1336-1337.
[6] لخصاصي عبد الرحمان، معلمة المغرب، ج، مرجع سابق، ص 1337.
[7] لخصاصي عبد الرحمان، معلمة المغرب، ج، مرجع سابق، ص 1337.
[8] كيكر عبد الله، من أعلام سوس في القرن العشرين، ج2، مرجع سابق، ص 180.