توطئة

قد يعجب الكثيرون من اهتمام الفقهاء بقضايا الفكر اللاديني/اللائكي، وتوجيه النقد للخطاب العلماني الحداثي في الشأن الديني، وقد عرف التاريخ الحديث علماء وفقهاء ركبوا هذا المجال وخاضوا فيه من أمثال الشيخ الأزهري محمد الغزالي، والشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي وغيرهم، واهتموا بنقد الأفكار والمعتقدات وما يرتبط بالدين الإسلامي، والدفاع عن الشريعة الإسلامية، وإثبات شمولية الإسلام وكونه يمثل منهاج حياة، وأنه بديل عن المناهج المستوردة. وفي الغرب الإسلامي بزغ نجم الفقيه صاحب العمامة المدرس بمدرسة تنكرت العتيقة بسوس، المفكر الفقيه مولود السريري الذي قام بالنقد والنقض؛ لأهم المقولات الإلحادية لعبد المجيد الشرفي، وطيب تيزيني، ومحمد أركون، ونصر أبو زيد، وعلي حرب، وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وحسن حنفي، وفؤاد زكريا، وهاشم صالح وغيرهم، مع ذكر نُقول ونصوص كثيرة عنهم، بإحالاتها وذكر مظانها. وقد مارس المؤلف قراءته النقدية عن اطلاع واسع على مخرجات أبرز منظري العلمانية في العالم العربي، وعن معرفة عميقة بخلفياتهم المرجعية والنفسية.

تعريف بصاحب الكتاب

الفقيه الأصولي المالكي أبو الطّيب مولود بن الحسن السّريري السُّوسي، ولد سنة 1963م بإقليم اشتوكة آيت باها، وحفظ القرآن الكريم ومفاتيح العلوم الشّرعية واللّغوية على يد والده بمدرسة “تَعْلات” بنفس اللإقليم. وأخذ جملة من العلوم الشرعية على عدد من مشايخ سوس العالمة، منهم: الشّيخ حسن الشلحي، والشّيخ إدريس التوزويني، والشّيخ محمد الكُمَّثري، والشّيخ الحاج صالح الصّالح الإلغي. ثم رحل إلى شمال المغرب للأخذ عن مشايخها من أمثال: الشّيخ عبد الله التّليدي، والشّيخ عبد الله بن الصديق الغماري، الذي أخذ عنه فقه الحديث ونيل الأوطار وحاشية الصّاوي على تفسير الجلالين. والشّيخ محمّد الزمزمي، وأخذ عنه الحديث. ثم بعد ذلك التحق بمدرسة “تنكرت” العتيقة مدرسا وقيّما عليها سنة 1994م؛ بدوار تنكرت إفران الأطلس الصغير، وما زال الشّيخ بهذه المدرسة إلى يومنا هذا يلقّن فيها العلوم الشّرعية للطلبة الذين يقصدون المدرسة من كل الأقطار؛ من المغرب وبلدان أخرى. وللشّيخ حفظه الله مؤلَّفات عديدة؛ منها: “منهج الأصوليين في بحث الدّلالة اللّفظية الوضعية”، و”معجم الأصوليين”، و”تجديد علم أصول الفقه”، و”القانون في تفسير النّصوص”، و”استثمار النّص الشّرعي على مدى التّاريخ الإسلامي”، و”شرح مفتاح الوصول”، وسلسلة مجموعة الرسائل العلمية في فنون مختلفة، و”شرح نظم نيل المنى من الموافقات”، و”مصادر التشريع الإسلامي وطرق استثمارها عند الإمام محمد بن حزم الظاهري”، و”مناظرات ومحاورات فقهية”، و”منهج الأصوليين في بحث الدلالة اللفظية الوضعية”، و”الصناعة الفقهية”، و”الإحكام في المراقي الموصلة إلى بناء الأحكام”، و”رسالة في الرد على من قدح في إيمان الأمازيغ”، وكتاب “نقد القول العلماني في المعرفة الدينية”، وغيرها من المؤلّفات المطبوعة. كما أنّ للشّيخ مؤلّفات وشروحات لجملة من المتون لم تطبع بعد.

مضامين الكتاب

الكتاب صادر عن “مركز يقين”، ويحمل عنوان “أصول نقد القول العلماني في المعرفة الدينية – المقدمة الأولى”، يقع في 672، صدر سنة 2019م. ويراد به بيان أن الخطاب العلماني الحداثي في الشأن الديني قد غلب عليه الهوج في النظر والهيجان النفسي العقدي في الأحكام، والترفع عن الإيمان بالندية بين الناس في الاستفسار والتناقش وإنجاز الأحكام. ومراعاة النسبية في المكاسب الفكرية والثمرات المعرفية، فجاء خطابا يشهد على من يبوح به ويصوغه بأنه في قمة الاستبداد والتسلط والعنجهية والذيلية المعرفية القائمة على عصمة أهلها، وبأنه متكهن يحكم على الغيب وما في الصدور، بحدسه ووهمه، فيطمس الحقائق غارقا في أحلامه بعدما اعتقد عن وهم أن صورة نفسه هي صورة العالم، وأنه هو مركز الكون، وأنه مخلوق أسرته أفكاره التي توهمه أنه منقذ الإنسانية من قيود الجهل والخرافة (…) ويضيف السريري في تقديمه، هذا البيان هو ما قصد بهذا الكتاب كما قصد به لفت الانتباه إلى وجوب بناء معارف إبداعية جديدة إسلامية تحصل بها القدرة على التصرف الفكري لكل ذي عقل خلقه الله -تعالى- من بني الإنسان في خلاص من الاستعباد بكل أصنافه.

لقد خصص مولود السريري كتابه لتتبع أصول الفكر العلماني في المعرفة الدينية، محترما في ذلك أصلا إسلاميا في المناظرة والجدل، يعتمد مبدأ القبول بالاستعارة والاقتباس متى ما توفرت شروط الصحة والقبول في القول المقتبس، وأن القاعدة في ذلك أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها. غير أنه يقيد هذا الاقتباس بشروط منها، شرط الصلاحية والقبول بالاندراج فيما يقبل مثله في العلوم الإسلامية والعربية، وذلك لا يتحقق إلا بالخلو من معارضة ما يعد من جزئيات ومضامين هذه العلوم الأصيلة أو كلياتها. وأما الشرط الثاني، فهو عدم وجود المقتبس في جزئيات العلوم الإسلامية واللغة العربية، ومضمنه ألا يجوز اقتباس رأي معرفي أو مقالة فكرية أو غير ذلك مما هو مسطور في كتب هذه العلوم ومدروس فيها. وأما الشرط الثالث فهو الإفادة، ومضمونه أن كل ما لا تبنى عليه معرفة وفائدة تتصل بالعمل أو المعتقد الديني الإسلامي لا فائدة في الاشتغال به. وأما الشرط الرابع، فهو تقديم التمهيد البياني الممكن من إدراك القول المعرفي أو المنهجي المقتبس على وجه يوصل إلى الوعي به وإجالة النظر في مأخذه وإلى القدرة على تقويمه. واشترط السريري شرطا خامسا وأخيرا لقبول المقتبس، وهو صياغته صياغة مسائل العلم الذي يندرج فيه هذا المقتبس، فيبنى بناء القواعد في ذلك العلم.

ينطلق السريري من مبدأين اثنين للتأسيس لنقد القول العلماني، أولهما؛ مبدأ الشرعية، ومقتضاه أن يقوم ما يثبت صحة القول والتصرف العلماني، وثانيهما؛ مبدأ شرعية الاشتغال، فيقرر أن العلمانيين لا يشتغلون بالمعرفة الإسلامية من منطلق إقامتها وتحصيلها، وإنما ينطلقون من مبدأ نقدها وهدمها. فيرى أن هذه الشرعية لا يتأتى تحصيلها إلا بإثبات شرعية الهدم والإزالة بالاستناد إلى الدليل، ثم إثبات شرعية الاشتغال العلماني وبيان ما يدل على ذلك من ضرورة عقلية أو عادية.

تضمن الكتاب بعد التمهيد على ثلاثة أصول، الأصل الأول: الشرعية، وبه أربعة أبواب؛ الأول: في شرعية الاشتغال، والثاني في الشرعية العلمية، والثالث في التحلي بالتنبؤ والتكهن والتفقه، والرابع في شرعية التنزيل. أما الأصل الثاني فتضمن الهوية العقدية وجاء في بابين؛ الأول الهوية العقدية الإلحادية وصوغها للنفس والفكر، والثاني في الهوية الإيمانية. أما الأصل الثالث فضمن الواقع، وتضمن بابين؛ الأول الواقع المعرفي العلماني، والثاني الواقع المعرفي الإسلامي. وأخيرا خاتمة عامة.

خاتمة

الكتاب في مجمله، مبني بناء كلاميا، تفضي فيه المقدمات للأصول، ويربط كل فصل بالذي قبله، حتى يفضي للذي بعده، مع حضور كثيف لنصوص العلمانيين، بمختلف أطيافهم، وحضور نقاش عقلي يحترم أدب المناظرة والجدل والحجاج، ويتجنب أساليب القدح والطعن في النيات، ويقدم مقاربة أخرى جديدة في التعامل مع القول العلماني، جدير بأن تقرأ علمانيا، بل وجدير أيضا أن تقرأ حتى من جهة المناصرين للمعرفة الدينية، بحكم ما تتضمنه من منهجية عقلية وبرهانية في التعامل مع الخطاب العلماني وتفكيكه ونقده.

وهو كتاب منهجي فكري استقرائي نقدي يستند إلى مرتكزات أصولية منطقية، وتناول بالدراسة والنقد أهم مخرجات الفكر العلماني وأبرز المقولات الإلحادية في مهاجمة الدين.. وعبرت بالمخرجات والمقولات؛ لأن الكاتب يرى بأن الخطاب العلماني لا ينبني على أصول منهجية.. فهو قشري مزاجي يفتقد إلى التأصيل وأسس البناء المنهجي للمعرفة.. بخلاف المعرفة الإسلامية؛ فهي منهجية محكمة الترتيب؛ تنطلق من علم العقيدة الذي يصحح بوصلة التصور، ثم تثني بعلم أصول الفقه الذي يصحح بوصلة الفكر، ثم تثلث بعلم الفقه الذي هو معيار التوازن بين مقتضيات العقيدة ومقتضيات التطور البشري، وفي إطار هذه الأسس البنيوية تنفتح المعرفة الإسلامية على مخرجات الفكر الإنساني ولا تضع حدودا لذلك إلا إذا جنح المسار المعرفي نحو السفسطة والهرطقة والفكر الشهواني..