مقدمة

كعادته يبدع الدكتور محمد خروبات نصا معرفيا ومنهجيا في مجال كثر فيه الكلام وقل فيه الإنتاج، ومعيار التقدم في الأمم ومقياس رقيها، هو مجال البحث العلمي، جاء هذا المتن  تتويجاً لمسار علمي موفق للأستاذ في ميدان التدريس والتأطير  البيداغوجي والعلمي، نص موسوم ب”البحث العلمي: قواعد التفكير وأسس البحث والتحرير” – منشورات المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، أبريل 2022- وهو عبارة عن محاضرة ألقاها فضيلته بدولة قطر بدعوة من مكتب الدراسات العليا في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، في سياق تبادل الخبرات البحثية.

وجاءت محتويات هذا النص مشتملة على خمس  قواعد أساسية متناغمة ومنسجمة في موضوعاتها وافقها.

القاعدة الأولى: في القواعد النظرية للتفكير

اشتملت على ثلاث عناصر أساسية:

  • القواعد الأخلاقية للتفكير: ركز فيها فضيلته على اعتبار عملية التفكير عملية فطرية جبلية ملازمة لطبيعة الإنسان وكينونته، وقدرته على تعقيل الأشياء، وهي الصفة التي ميزته عن باقي الكائنات تستوجب الشكر وإعمالها في مجال التسخير،واعتبر هذه القواعد هي الأرضية الضرورية في عملية التفكير وبناء التصورات.
  • القواعد التوجيهية للتفكير: استهل فضيلته هذه القاعدة بأسئلة فلسفية وجودية من قبيل: هل الإنسان حر في تفكيره يفكر بما شاء وكيف شاء ومتى شاء؟ أسئلة تعبر في عمقها عن مرجعية في مجال بناء الفكر ينطلق منها الأستاذ خروبات. مستبعدا النصوص المرجعية التي استولت على مجال التفكير العربي الإسلامي وشوشت على عطائه العلمي، فلا ليبرالية ولا اشتراكية في التفكير من المنظور الإسلامي محاربا بذلك الفوضى والتسيب في مجال البحث العلمي إنما الارتباط بالسياق التداولي المخصوص. وهو ما يمنح البحث قوته ومشروعيته في الانتماء.
  • القواعد المجالية للتفكير: من خلال وعي مكونات البحث العلمي لمجال الانتماء وقواعد الانتساب، يقصد الجامعة والقدرة على الاستمرار في توسيع مهارات البحث وتنميتها. أما المجال الأوسع للانتماء فهو علاقة الجامعة بالمجتمع، وهي علاقة أرادها الأستاذ أن تتأسس على قاعدة جديدة ومنظور جديد يقلب المعادلة التقليدية حين اعتبر المجتمع والجامعة توأمان لا ينفصلان من حيث العلاقة والموضوع والأفق.

القاعدة الثانية:  القواعد البنائية للعلم

يعتبر الأستاذ هذه القاعدة ذهبية من حيث اشتغالها ومقاصدها، فالعلم حرفة وصناعة امتلاكها امتلاك لقواعد التفكير العلمي المنهجي. الغاية منها حماية العقل والباحث من السقوط في متاهات العقول الأخرى. كالوقوف على مقاصد العلم والتدقيق فيها، واستيعاب تاريخه وميلاد مشروعاته الكبرى، من خلال تملك لغته ومصطلحاتها لأنها الناطق الشرعي به، ومحدداته المنهجية والمرجعية والسياقية. ليس هذا فقط بل التحلي بالروح النقدية العالية في التعامل مع العلوم الإسلامية؛ لأنها الخصلة المكونة للباحث الجسور والمبدع وبأخلاقيات البحث العلمي الموضوعي الرصين.

القاعدة الثالثة: القواعد البنائية للفهم 

اشتغل الأستاذ في هذه القاعدة على مجموعة من المعايير التي يراها منتجة وبانية لعملية الفهم السليم. استهلها بمقدمة توجيهية غايتها تحديد نوع الفهم المقصود في البحث العلمي الجامعي الأكاديمي وسمه بسمات وأبعاد متنوعة: ذو بعد واقعي، وشمولي تأصيلي، وتقعيدي ونقدي بعيدا عن الثنائيات الزائفة والمضللة(العقل والنقل) والتصنيفات المعهودة: التأويلي والأيديولوجي الخ.

قواعد إجرائية حصرها في: الفهم قبل الانجاز وإدراك الواعي لأسباب ودواعي الاختيار والانجاز سماه بالفهم القبلي للموضوع.ثم الفهم أثناء الانجاز يتولد من خلال العملية الأولى وسمه “بالفهم البنائي” يولد عبر عمليات الاحتكاك والمخاض. ثم فهم ما بعد الانجاز أو الفهم البعدي وهو مقام العارفين بخبايا الموضوع الإشكالية إما تنقيحا أو إضافة أو تركا. وغيرها من القضايا التي أوردها فضيلته.

القاعدة الرابعة: شروط البحث

هذه الشروط لها علاقة بالعناصر السابقة الذكر. منها ما يرتبط بالوعاء الزماني للبحث وبالشروط المنهجية:من الخطة وما يشترط فيها، ومن الأدوات المنهجية المطلوبة في الانجاز. أما الشروط الشكلية المعلومة ضرورة من الجمالية في الطباعة والإخراج، إضافة إلى الشروط الموضوعية العلمية واللغوية والأسلوبية والتوثيقية والأخلاقية التي لا يعذر الباحث فيها.

القاعدة الخامسة: إفادات في بناء الذات

ترتبط هذه القاعدة عند الأستاذ بما يملكه طالب العلم من قدرات وكفايات تواصلية تتيح له الانفتاح على فضاءات التقويم، والتصويب للأفكار والمعارف داخل فضاء الجامعة والدورات التكوينية التي تبرمجها المسالك المتعددة والمتخصصة داخل الجامعة، وما توفره من إمكانات منهجية في غاية الأهمية أثناء الإعداد أو المراجعة.منبها في نهاية هذا النص الباحثين من مغبة السقوط في المحظور من التطاول على علوم الناس وإنتاجاتهم من سرقة المنهج والموضوعات والأفكار، وانتهاك القواعد الأخلاقية، أحسب هذا العمل العلمي من الأعمال الجليلة التي يحتاج إليها طالب العلم بل من الفروض التي لا تنهض المجتمعات دونها.