مقدمة

جاك بيرك (Jacques Berque)، مِن الباحثين الكبار الذين أوْلَوا عنايةً كبيرة بالمسألة المغربية والمغاربية تأليفاً ومحاضراتٍ ومقالات؛ فالرجل راكم أبحاثاً ودراسات عديدة سواء في المرحلة الاستعمارية أو بعدها، ما تزال إلى اليوم مَحطَّ تقدير وبُحوث جامعية وعلمية.

إنَّ أهمَّ ما ميَّز أعماله؛ صِبْغَتَها التركيبية، التي تجلَّت أكثَر بعدَ إنجازه عمله العلمي الضخم البنيات الاجتماعية للأطلس الكبير، الذي أعلى من قيمته البحثية والأكاديمية فرقَّاه إلى أستاذٍ بــ “كوليج دوفرانس” (Collège de France) سنة 1955، والذي سيقطع فيه مع توجِّه السوسيولوجيا الاستعمارية وسيَعْمَد إلى نقدها.

تنوع في المجالات وتمَرْحُل في القناعات  

توزَّعَت أعمال جاك بيرك بين عِلم الاجتماع وعِلم الاجتماع السياسي اللذين أنجَز فيهما حوالي 70 كتاباً،  والتاريخ الاجتماعي الذي ألَّف فيه 43 عملاً علميا، والقانون وعلم الاجتماع القانوني بمعدَّل 17 كتاباً، والتاريخ بــ 35 مُصنَّفًا، لتبلغ كُتُبه في المجموع 165 عملاً فكرياً، تشهد على غِنى وتنوَّع إنتاج هذا الباحث الكبير، ويَرتقي بها إلى مَصاف العلماء والباحثين الفرنسيين القلائل الذين عَمَدُوا إلى إدخال طُرق ورؤى جديدة في دراسة المنطقة المغاربية[1].

إنّ أعمال جاك بيرك المتعلِّقة بخلفياتها الأيديولوجية والسياسية؛ اجتازَت مراحِل على غرار ما عاشه الرجل من انتقالات وتحوّلات في حياته، والتي انعكست بشكل أو بآخر على أعماله. ويمكن هنا أنْ نَقتبس التقسيم الذي أقامه الباحث عبد الرحيم عدناوي فيما يتعلّق بأعمال جاك بيرك على مستوى التأطير الزمني والفكري ضمن ثلاث مراحل:

  • المرحلة الأولى: وتمتدُّ من 1935 إلى 1946؛ لا تتميز كتابات ج.بيرك ضمن هذه المرحلة عن باقي كتابات السوسيولوجيا الاستعمارية؛ ذلك أنَّها عاصرت فترةً زاوَل فيها الكاتِب مهامه كموظَّف مخلِص لدى سلطات الحماية.
  • المرحلة الثانية: من سنة 1947 إلى 1955: توقَّف ج.بيرك في هذه الفترة عن التفكير في قضية تحديث المغرب، ولم يَعد يَقترح أيةَ إصلاحاتٍ بَعد أنْ تَمَّ نَقْلُه إلى منطقة الأطلس الكبير بصفته مراقِباً مدنيا؛ لقد أصبح يَكتفي برصْد الواقع والعمل على تحليل الجوانب المختلِفة للنِّظام التقليدي وهو في احتكاك مع الحضارة الغربية الوافدة.
  • المرحلة الثّالثة: من سنة 1953 إلى غاية وفاته سنة 1995: دشَّن ج.بيرك هذه المرحلة بتحرير مؤلّفه الهام “البنيات الاجتماعية للأطلس الكبير” سنة 1955 الذي سيقطع به مع التوجه العلمي والإيديولوجي للسوسيولوجيا الاستعمارية، وسيفتح باب نقدها، وفحْص مختلف أحكام القيمة التي تحفل بها.[2]

إنَّ الهدف مِن إدراك هذه المراحل هو معرفة كيفية مُساءلة ونقْد أعمال ودراسات الأستاذ جاك بيرك بالطريقة التي تَسمح لنا ببناء مواقف نقدية علمية في سبيل تقويمها وتصويبها نحو بناء سوسيولوجية مغربية، بعيدا عن المزايدات الأيديولوجية والتَّعَصُّبات المذهبية التي قَد نجدها في تصوُّرات منتقدِي الدِّراسات والأبحاث الاستعمارية.

يُوحي لنا جاك بيرك بأنَّ نتيجة معاينته للتجربة الاستعمارية عن قُرب قدْ أدَّت به إلى إدراك العواقب الوخيمة التي تؤدِّي إليها ظاهرة الاستعمار لا على البلاد التي تكون موضوعا لها فحسب؛ بل على إمكان التَّضامن الإنساني بين البلدان المختلفة[3]؛ إنَّه يبدو ذلكَ الباحثَ الذي لا يَبحث عن تبرير نَظريٍّ لظاهرة الاستعمار بل عن تجاوز لها، وحيث أنَّ بيرك كان جزءً من الظّاهرة الاستعمارية لأنه كان أحد أفراد إدارتها في الطور الأول للحماية؛ فإنَّ تجاوُزَه ذلك يريد أنْ يكون تجاوُزًا مِن الدَّاخل. كما يريد أنْ يُـمثِّل مرحلة جديدة مِن الاهتمام بالتّراث الثقافي لهذا الجزء الشّاسع مِن العالم الذي يُسَمَّى بالشَّرق[4].

السوسيولوجيا المغربية ونَقد أعمال بيرك

يَنتقد السوسيولوجي المغربي عبد الكبير الخطيبي الأستاذَ جاك بيرك مُبرِزًا الصفة الأيديولوجية لأعماله؛ فيرى بيرك في هذا الانتقاد نموذجا لتلك الانتقادات التي يُوجِّهها مفكرون عرب دون أنْ يكونوا قادرين على أنْ يَنوبوا عن هذا الفرع من المعرفة الإنسانية في القيام بمهمته. يقول بيرك معقِّبا على انتقادات الخطيبي لأعماله:”جرَ عليَّ الظمأ إلى النكهات الشرقية صخبا إثارة مثقف مغربي ناطق بالفرنسية؛ يريد أن يمنعني من دراسة الشرق لأن عيبي الأساسي أنني أجنبي، حسنا؛ إننا ننتظر المساهمات العملية التي هي في مستوى ما هو أهلٌ له”[5]. استنادا إلى رفضه لهذه الانتقادات يُقدِّم لنا جاك بيرك أعمالَه على أنها “علمية” تَرجع إلى اهتمامه كعالم اجتماع أو كعالم يَسعى إلى أنْ يشتغل بالعلوم الاجتماعية في صورة تكامُلها.

إنَّ الأعمال التي يقدِّمُها جاك بيرك يصورّها بأنها تندرج ضمن اهتمام العلوم الإنسانية؛ بحيث تكون جناحا شرقيا للعلوم الإنسانية ومساهَمَة مِن علماء الغرب في فهم ظواهر الشّرق، إلَّا أنَّ هذا الجناح الشَّرقي لا ينبغي أنْ يَكون صادرا كله عن الغرب.

إنَّ أعمالاً كأعمال جاك بيرك تَكسِب قيمة أكثرَ موضوعيةً لو أنها إسهام ينضاف إلى أعمال علماء عرب آخرين في نفس موضوعها؛ إلَّا أنَّ الأمر يَعُود هنا إلى انعدام التَّوازن فيما يتعلَّق بالدراسات الإنسانية التي تَدْرُس التّراث الثَّقافي العربي الإسلامي، وأسباب انعدام التوازن هذه تعود بالدرجة الأولى إلى تلك المادة التاريخية كالوثائق والمخطوطات التي تهم التراث. هذا ما يلاحظه الباحث أنور عبد الملك؛ أنَّ وسائل الإنتاج هذه لا توجَد بصفة أساسية في يد الباحثين العرب، بل في يد الباحثين الغربيين، لأنَّ أكثر مِن مئة وأربعين ألف مخطوط تهمُّ التراث العربي توجَد خارج متناوَل الباحثين العرب، بينما توضَع في ظروف يسيرة في متناوَل الباحث الغربي، مع أنَّ الشُّروط والظروف التي يوجَد فيها الباحث الغربي تختلف كثيرا عن السياق الذي يوجد فيه الباحث العربي[6].

لقد سبقت الإشارة إلى أنَّ بيرك كان على وعيْ بالآثار الوخيمة للاستعمار لأنه كان عضوا في الإدارة الاستعمارية؛ ولكننا نجده في مواضع أخرى لا يُدين التجربة الاستعمارية بصفة جذرية؛ بل يذهب إلى حدّ الحديث عن بعض الجوانب الإيجابية التي حافظت فيها تلك السياسة على هوية الشّعوب. وفي إحدى كُتبه، يصِف الجنرالَ ليوطني بأنَّه “صان المدن الإسلامية مِن عدوى المدن الجديدة. كما حافظ ميْله إلى السُّلطة غير المباشرة على الهوية السياسية للشَّعب المستعمِر. وهكذا فإنَّ المغرب الذي كان محتَلًّا دون أنْ يقع تنكُّرٌ لهويته؛ لم يكن مستعمَراً لا على صعيد المبدأ ولا على أصعدة كثيرة[7]“.

خاتمة

إنّ ما يمكن استخلاصه من خلال موقف الكاتب جاك بيرك من التجربة الاستعمارية؛ إدارةً وعلوماً وسياسةً؛ أنَّ التحول الفكري الذي عاشه مِن موظَّفٍ/باحِثٍ مؤيِّدٍ للاحتلال الفرنسي، إلى رجل مناهِض ومعارض للظاهرة الاستعمارية؛ لم يكن تطوُّراً حاصلاً في مجال المعرفة وعلى مستوى التَّصور الخاص وفقط؛ بل إنَّ ذلك التَّطَوُّر له علاقة بما كان يحصل مِن انتقال السياسة الاستعمارية مِن مرحلة إلى أخرى، وصولاً إلى ظَفَر المغاربة باستقلالهم، وما واكَب ذلك من تحولات على مُستوى الشروع في التأسيس لمدرسة مغربية في علم الاجتماع.

المراجع
[1] المساتي عادل، سوسيولوجيا الدولة بالمغرب؛ إسهام جاك بيرك، سلسلة المعرفة الاجتماعية السياسية، الطبعة الثانية، 2010، ص: 3.
[2] Abderahim Adnaoui, contribution a l’étude de la sociologie politique du Maroc. L’apport de jaque Berque. Mémoire pour l’obtention du diplôme d’études supérieures est sciences politiques. Faculté des sciences juridiques Economiques et sociales de Casablanca 1987 p 7-11.
[4]  حميش بنسالم، جاك بيرك ومسألة الاستشراق، منشور بمجلة رسالة المغرب، دون تاريخ.
[5] وقيدي محمد، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، منشورات دار الطّليعة، الطبعة الأولى 1983، ص: 159.
[6] Jaques berque, Arabies .éditions stock 1978 p .13.
[7] وقيدي محمد، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، مرجع سابق، ص: 163.