توطئة

جَـمَع بعضُ سلاطين الدولة العلوية وأمرائها بين شخصية السلطان الحاكم والمثقّف الـعالِم، لعلّ أشهَرهم السلطان محمد الثاني بن إسماعيل، ومحمد بن عبد الله، وولده المولى سليمان، والسلطان عبد الحفيظ بن الـحسن الأول. منهم مَن كان نّزاعا إلى الأدب والتاريخ والدراية بعلم الأنساب وأيام العَرب، ومنهم من اعتنى بعلوم الشريعة وحذِقَ في الحديث والتفسير، ومنهم مَن بَرع في التأليف والكتابة في التصوف والشريعة والحديث النبوي.

وقد جَرى المولى عبد الحفيظ على سنّةِ السلطان سيدي محمد بن عبد الله في الـعناية بأمهات كُتُب الحديث ومَصادر الفقه المالكي، والاشتغال بالمتن الخليلي كأبيه الحسن الأول، من ذلك تأليفه لكتاب “العَذْب السَّلسبيل في حَلّ ألفاظ خليل”[1] و”نَظْمٌ في مصطلح الحديث”[2]، واتخاذه مجلسا خاصا جَـمَع فيه خيرة علماء شنقيط، وأمْرُهُ بطبْع كثيرٍ من “الكُتب التي كانت تُسمَع ولا تُرى في التفسير والحديث والفقه والأصول”[3]، وعمَله على إحياء قراءة صحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في شهر رَجب، ونقْلُه لها لأول مرة إلى الرباط. وبادر بكتابة مؤَلَّفٍ نَقدي لأوضاع المغرب وأدوائه التي أوْدَت به إلى حالة الحماية والاحتلال، وهو الكتاب الذي نُقدمه للقراء في هذه المادة.

رسالةُ الــمُؤَلِّـف وفصولُ الـمُؤَلَّف

إنّ هذه النسخة لكتاب “داء العطب قديم” صَدَرت مضبوطة ومحققةً بقلم الأستاذ محمد الراضي كنون الحسني، بدون تاريخ الطبع، ولا ذكر لاسم الناشر، في 197 صفحة، أراد منه مؤلفه السلطان عبد الحفيظ بن الحسن أن يَكونَ نُقطةَ بحثٍ في الأسباب التي أدّت إلى ما أسماه “اضمحلال المغرب” ودراستها متى كانت، وكيف حصَد السلطان العاثرُ الحظِّ الثمرةَ الـمُرّةَ لتهافت الأجانب على بلاده.  وجعَل كتابَهُ رسالة مفتوحة ليَعلَم كلّ “منصفٍ ما تُكابده الملوك من المشاق والمصاعب بسبب جَهل الرعية وعدم الانقياد”[4]، وليس هذا في زَمنه هو، بل داء العطب قديم حَسَب تعبيره.

خَصّص السلطان العالِم فصْلًا للحديث عن عواصم المغرب التاريخية الثلاث، مراكش وفاس ومكناس وطبائع أهلها، وما لاقاه من قبائلها في المدة القصيرة التي تولى فيها حُكم البلاد. وفصلا آخر استَدعى فيه كَما غزيراً من الرسائل السلطانية لأشهر سلاطين الدولة السعدية؛ أحمد المنصور الذّهَبِي (تــ 1603م)، وفصلا ثالثاً رَصَد فيه أسباب ضُعف المغرب واضمحلاله.

وهو في كلّ هذا يَعود لمصادر عربية للتأريخ لتاريخ المغرب، ويَستحضر أبياتاً شعرية وقصائد تَخدم فكرة ومضمون كتابه، منها أشعار امرئ القيس ولسان الدين بن الخطيب والإمام الحسن اليوسي، بل ويُتحفنا بأبياتٍ مِن نظْمه هو، فقَد كان يُجيد الشِّعر كما يُجيد النّـثْـر.

نَقْدُ عِلَلِ واختلالاتِ الـمَغاربة

في وصْفِه لطبائع المجتمع المغربي؛ يتحدّث المولى عبد الحفيظ بنوعٍ من الحسرة والعتب قائلا: “اعلم أنّ مِن طبيعة هذا النوع المغربي حبّ الدنيا وبَذلها من غير مبالاة في شهواتهم، حسب أغراضهم، خصوصا في الأعراس والولائمِ إلا القليل منهم، والبُخل في صَرفها في المصالح الدينية، وهُم في ذلك على قسمين، قِسْمٌ يَستعمل ذلك حَسدا في الأمراء والأعيان، وقِسم يستعمل ذلك لقلة دينه”، ويُرجع السلطان عبد الحفيظ سبب تهافت كثير من الباشوات والأعيان الصغار والتجار على الحماية الأجنبية إلى هذين السّببين.

ويَرصد خَللا مجتمعيا آخَر في طبائع المغاربة؛ ذلك أنّهم “يَتساقطون على أهل المناصب ولو مِن غير جنسهم ودينهم، ويَنحرفون عنه بسهولة إذا كَبا بهم فَرَس الدهر، ألِفوا ذلك حتى صار لهم مَعَرّة في فعلهم”.[5]

ومِن ذلك، أنَّهم يَــتَّـصِفُون بالإعراض عن مَراتب الترقي، ويميلون للّعب واللّهو أكثر، ولا يَــنْهَضُون لِـمَا يحرّك دواعي الرجال، ويُقَدّمون العوائد الوقتية والدنيوية على الأمور الدينية. أما المسارعة إلى رفع المنكَر فلا يكادون يَنهضون إليها، ولا يَصلح حالهم إلا مع ما سماه “الضّغط”، أو الدّوافع الخارجية تحت سلطة مَن لا يُعمِل فيهم شفقة ولا رحمة.

ويَنفي السلطان عن أغلب مَن تعامَل معهم الوفاء بالعهود، ويَصِمُهُم بالتَّـنَـمّـر ضد الضعيف، والاستِئساد على مَن يَرون منه اللين والمعاملة اللطيفة.

يَرى السلطان أنّ الغيبة والنميمة واللمز بالسوء تنتشر بكثرة في أوساط المغاربة، بحيث يُبادِلون بِعضهم البعض عبارات الإكبار والفخر، وإذا ما تَوَلّوا الأدبار تَكلَّموا في بَعضهم بالسوء والتنقيص والاحتقار. أما الداء الـعُضال الذي يَنتشر فيهم أكثر مِن غيره؛ فالطّمَع، الذي يُفسِد “جماعتهم” بتعبير السلطان، ولا يَكاد يَنجو في رأيه من هذا الداء “عُمُومُهُم وخُصُوصُهُم”.[6]

ومما رصَدَه بعَين السلطان والفقيه أيضا؛ انقسام أهل البادية والجبال إلى نوعين، “قسم متدين، وقسم كأنهم لم تَبلُغهم الدعوة (..) أما أخلاقهم فَالغالب عليها الجفاوة”[7] والضعف البَيّن في المعرفة بأمور الدين وقَول الشريعة في الأخلاق والمعاملات.

في أسباب اضمحلال المغرب

مِن المثير للغَـرَابَــة رَبْطُ المولى عبد الحفيظ لانحطاط المغرب في عهده بمرحلة السلطان محمد المامون السعدي الذي سَلّم العرائش للإسبان عام 1609م ومن ثَم فَتَح شهية المستعمِرين للتساقط على ترابنا، مع إيراده لكثير من الرسائل السلطانية السعدية الـمتبادَلة بين سلاطين الدولة وملوك إسبانيا والبرتغال وإنجلترا، بهدف أنْ يُعرّف المغاربة بما كان لتلك الدول بالقُطر المغربي من “مَديد الـمساعَدة للدول الأجنبية، وإهمال الأمور البحرية، التي إهمالها سبب لكل بَلية”[8].

كما يَربط سوَءَ الأوضاع في عصره بسبب مباشرٍ يَعود لمرحلة السلطان عبد الله بن إسماعيل العلوي (تــ 1757م)، الذي طال في عهده الفساد واستَشْرت تدخلات جيش عبيد البخاري في الشؤون السياسية، حتى أدّت بالبلاد إلى الفتن والصراعات والتنازع على الحكم. يَسترجع السلطان عبد الحفيظ فصول هذا التاريخ بمرارة، ويتحسّر على الزمن الذهبي للمولى إسماعيل الذي نُسفت جهوده في الأمور الداخلية والخارجية على يد وَرَثته.

يُعيد كتاب داء العطب قديم استحضار عدد كبير من الرسائل التي السلطانية بين المولى إسماعيل وبَنيه فيما بين 1689م و1698م، الذينَ كانوا وُلَاتَه وخلفاؤه على أقاليم المغرب زمنئذ، من باب إعادة التذكير بأمجاد سياسة المولى إسماعيل وحَزمه في متابعة أوضاع البلاد وأحوال الولاة بمن فيهم أولاده، والرسائل مبثوثة في أكثر من مَصدر مِن مصادر صَدر الدولة العلوية،[9] لَم يزِد المولى عبد الحفيظ أنْ أوْرَدَها بِطُولِها وروحها، قاصداً منها تِبيان ما عاناه المولى إسماعيل مع أقرب الناس إليه، وما كابَده في سَبيل تَرسيخ نُظُم الدولة وتعزيز صَولتها وتثبيت أقدامها في بيئة عانت من الاضطراب والتنافس الحاد بين الزعامات والنفوذ القوي للمرابطين والحركات الصوفية.

ختاما

لكأنّنا أمام هذا الكتاب نَقرأ ونَـتَأَمَّل في السلطان عبد الحفيظ يَتَمّـحّلُ وَصْلَ ماضي جَدِّه الأكبر بحاضره هو، عَلّه يَكسب عَطْفَ مَن لـمْ يُعايشوا مرحلة 1908م– 1912م ويَتفهّموا ظروف سقوط المغرب بيد دُول الاحتلال، ويَرْبَطوا _ بدَوْرهم _ عِلَل مغرب ما قَبل الحماية بجذورها وأسبابها، ويَعذُروا عبد الحفيظ الذي فضّل أن يكونَ آخر سلاطين الاستقلال على أن يكون أوّلَ سلاطين زمن الاحتلال.

المراجع
[1] (ابن الحسن) عبد الحفيظ: "العذْب السلسبيل في حَل ألفاظ خليل"، مطبعة أحمد يمني، فاس، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1326 هجرية.
[2] (مامينا) أخيار بن الشيخ: "الشيخ ماء العينين؛ علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوربي"، الجزء الأول، منشورات مؤسسة مربيه ربه لإحياء التراث والتنمية، الطبعة الثانية، ص: 378 – 379.
[3] (الكانوني) محمد بن أحمد: "علائــق آسفي ومنطقتها بملوك المغرب"، تحقيق علال الركوك، الرحالي الرمضاني، محمد الظريف، تقديم محمد بن شريفة، منشورات جمعية البحث والتوثيق والنشر، مطبعة رَبا نيت، الرباط، الطبعة الأولى، 2004، ص: 139 – 140.
[4] العلوي عبد الحفيظ بن الحسن، داء العطب قَديم، ضبط وتحقيق محمد رضى كنون الحسني، طبعة بدون تاريخ، ص 2.
[5] العلوي عبد الحفيظ بن الحسن، داء العطب قَديم، مرجع سابق، ص 11.
[6] العلوي عبد الحفيظ بن الحسن، داء العطب قَديم، مرجع سابق، ص 12.
[7] العلوي عبد الحفيظ بن الحسن، داء العطب قَديم، مرجع سابق، ص 12.
[8] العلوي عبد الحفيظ بن الحسن، داء العطب قَديم، مرجع سابق، ص 64.
[9] انظر: (الزياني) أبو القاسم: "البُستان الظريف في دولة أولاد مولاي الشريف"، القسم الأول من النشأة إلى عهد السلطان سيدي محمد بن عبد لله، دراسة وتحقيق الأستاذ رشيد الزاوية، مركز الدراسات والبحوث العلوية، الريصاني، المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، طبعة دون تاريخ. وأيضا: (أكنسوس) محمد: "الجيش العَرمرم الـخماسي في دولة أولاد مولاي علي السجلماسي"الجزء الأول، تقديم وتحقيق وتعليق أحمد بن يوسف أكنسوس، المطبعة الوراقة الوطنية، مراكش، طبعة 1994. وأيضا: (ابن زيدان) عبد الرحمن: "الـمَنزع اللطيف في مَفاخر المولى إسماعيل بن الشريف"، تقديم وتحقيق عبد الهادي التازي، مطبعة إديان، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1993.