مقدمة

المهدي بنونة، عَلَمٌ من أعلام الوطنية الأماهد، ابن حاضرة الشمال وعاصمة المقاومة تطوان، صاحِب إسهام نوعيٍّ زَمن التحرير والنضال السياسي من أجل مغرب حُر ومستقل وناهض. وفي عزّ انطلاق شرارة المواجهة العسكرية بين الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي والاحتلال الإسپاني؛ ازدان فراش آل بنونة يوم 22 فبراير 1918 بالصبي الذي سيصير مستقبَلاً أحد رواد الحركة الوطنية المغربية، وأنشَط مناضلي الشمال، وصحفي لامع ودپلوماسي فوق العادة.

التجوّل في المعمور لكَنْزِ الــعِـلم في الصدور

كان المهدي أوَّلَ الشَّباب المغاربة دراسة بنابلس في فلسطين سنة 1929، وأوّل طالب مغربي يلتحق بتخصص الصحافة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. اشتغل فيما بين 1941-1945 بأعرق الجرائد العربية (الأهرام)، ومنها انتقل لممارسة مهام رئيس التحرير لجريدتي (الحرية) و(الأمة) اللتان كانتا لسان حال “حزب الإصلاح الوطني”، الذي انضمَّ إليه المهدي إلى جانب عبد الخالق الطريس وقادة آخرين، وعمِل ناطقاً باسم كل الوطنيين يوم اشتدّت قبضة الإقامة العامة الفرنسية في المنطقة السلطانية على حرية الرأي والنشر وحرية الصحافة.

ولإجادته اللغة الإنجليزية والفرنسية والإسبانية؛ إلى جانب لغة عربية متينة، كتَب بها شِعرا ونثرا ومقالات قيّمة، ولنشاطه السياسي الكبير؛ تَم انتدابه لتمثيل الحركة الوطنية لدى هيئة الأمم المتحدة سنة 1947، وقد استَثمر مُقامه هناك؛ ليترأس “مكتب المغرب في نيويورك”، ناقلا بذلك مجال تدويل القضية المغربية من الجامعة العربية والمحيط العربي إلى الإطار الدولي والأممي.

نضاله الدبلوماسي

مِن أدواره التي يُمكِن إدراجها في نطاق النضال الدبلوماسي سنواتِ مُقامه بأمريكا؛ وُقوفهُ وراء عدم قبول اندماج إسبانيا الفرنكوية في المنتظم الدولي، وإرباكه مساعيها في الانضمام لهيئة الأمم المتحدة. كما رَفعَ في ذات التاريخ ملتمسَ قطْع الدعم المالي والمساعدات العسكرية عن فرنسا لدى لجنة الميزانية الأمريكية بالكونغرس.

ومِن نِضالات المهدي السياسية والدبلوماسية المشهودة؛ ممارَسَته الضغط لانعقاد أُولى جلسات مجلس الأمن لتدارس القضية المغربية عقب نفي السلطان محمد الخامس، وذلك مساء 21 غشت 1953[1]، بل قَبلها بسنوات؛ يوم كان يحثّ ممثلي الدول العربية والمغاربية لتدارس الملف المغربي في أروقة الأمم المتحدة إلى جانب الملفّين الفلسطيني والإندونيسي.

وللمهدي بنونة إسهام نوعي إزاء القضية الفلسطينية، التي ولِع بها شابا، وخبَّرها صحافيا ودبلوماسيا، وأحاط بمجريات موقعها ضمن الصِّراع الدَّولي وفي عقلية كبار أوربا وأمريكا وبريطانيا خلال مُقامه في نيويورك وعمله في الأمم المتحدة.

لقد تَوَقّفْنا بكثيرٍ من الفخر والاعتزاز عند مضامين البرقية التاريخية التي بَـعَثَ بها إلى قيادة “حزب الإصلاح الوطني” باعتبارها “الشاهد على حَدث”[2] قرار التقسيم الجائر في حق فلسطين سنة 1948. فالرجل قاد جولات دبلوماسية مكّوكية لإقناع ممثلي الدُّول العربية (العراق، اليمن، سوريا، لبنان، مصر، السعودية) الحاضرة في الأمم المتحدة بِعَدَم التصويت على قرار تقسيم كوريا، في مقابِل إقناع ممثلي دول الكتلة الشيوعية (بولونيا، أوكرانيا، بيلاروسيا، منغوليا، يوغوسلافيا) بعدم التصويت على قرار تقسيم فلسطين، يومَ كان عدد الدول المجتمِعة للتصويت (59 دولة)، وذلك لكَسبِ 21 صوتا لفائدة عدم تقسيم فلسطين، الأمر الذي كان سيعرقل بلا شكّ قرار التقسيم، إلا أنَّ الوفود العربية تَلَكَّـأت في التَّجاوب مع مُقترح المهدي، فكان ما كان مما نعرفه في مسار القضية الفلسطينية الجريحة!

أعماله ومساهماته الوطنية

بعد انتهاء مهامه النضالية سياسيا ودبلوماسيا؛ استُقبِل استقبالا وطنيا حارا في سبتة وتطوان، وأدلى بتصريحات للصحافة تنمُّ عن وعي دقيق بتفاصيل القضية المغربية ومسار الدِّفاع عن الحق العادل للمغرب في استرجاع سيادته واستقلاله وعودة سلطانه؛ ثم استأنف دوره الوطني في الدَّاخل.

عُرِفَ بوطنيته الصادقة وتشبّثه بثوابت بلاده وإعزازه لتاريخها، نافَرَ من أجلها طيلة سنوات الثورة الميدانية والسياسية. عقِــبَ الاستقلال؛ عَــيَّنه الملك محمد الخامس عضوا بالدِّيوان الملكي مُكَلَّفًا بالعلاقات العامة والإعلام، وظل ناشطا دپلوماسيا وسفيرا للمغرب بأكثر مِن دَولة ولسنوات عديدة.

نال شرف تأسيس وكالة المغرب العربي للأنباء، ونجح في تسييرها في ظل شُحّ الموارِد وضُعْف الإمكانيات، وظَلَّ رئيساً لها إلى أنْ أمَّمتها الدَّولة سنة 1973.

ثمَّ أطْلَقَ بالمبلغ المالي الزَّهيد الذي تَلَقّاه مِن الحكومة مُقابِلَ تأميم الوكالة؛ جريدة La Dépêche في الدار البيضاء. كما أهَّلَتْه قدراته الصَّحفية لتَـرَؤُّس وكالة الأنباء الإسْلامية الدولية في مدينة جدّة بالمملكة العربية السعودية، واختيارهِ لإطلاق سلسلة وكالات أنباء في تونس والسّينغال والجزائر وليبيا ومالي.

إلَّا أنَّه سُرعان ما حَوَّل الوجهة صوب العمل في إطار منظّمة الهلال الأحمر الدّولية، إذ ستَمْـنَحه سُـمعته ووطنيته ولُغاته المتعدّدة فرصةَ النِّـيابة عن الأميرة لالة مليكة (ابنة الملك محمد الخامس رحمه الله، وأخت الملك الراحل الحسن الثاني -توفيت يوم 28 شتنبر 2021) في منظّمة الهلال الأحمر المغربي لسنوات طويلة، ونَيْل عضوية اللجنة التنفيذية لمنظَّمتيْ الهلال الأحمر والصَّليب الأحمر بجنيف أواسط الثَّمانينات.

وإلى جانب أعماله الوطنية الرَّائدة؛ تَبقى أهمّ مبادرة ساهم فيها والتي كادت تنساها الذَّاكرة الوطنية وتاريخ المغرب الراهن؛ صِياغته لمشروع “دستور”[3] تَـقدَّم به وطنيو الشمال في فاتح ماي سنة 1954، وهي الوثيقة السابقة على زمانها، والتي _ مع الأسف_ بقيت حبيسة أرشيف “حزب الإصلاح الوطني” بتطوان، الذي اندمج في حزب الاستقلال مطلع 1956، فانطفأت الفكرة وولد المشروع ميتا.

ومن جميل أثره النافع؛ تأليفه ونشْرُه كِـتابيه الشّهيرين المغرب.. السنوات الحرجة”[4]، ومغرِبُـنا؛ القصة الحقيقية لقضية عادلة الذي حرره باللغة الإنجليزية، ومقالاتٍ أخرى فوقَ العَدّ.

لقد تميَّز هذا الوطنيُّ البار، والمبادِر الـمِدْرار؛ طيلة مساره بالمبادرة، ونُكران الذات، والصَّبر والثبات، ونشر المعرفة، والنضال، مع ما رافق ذلك كلِّه مِن أخلاقٍ إسلامية حميدة، وأصالة مغربية في فنّ العيش.

وفاته

ما تزال ذِكرى ابن بنّونة وآثاره تزدَهي بها حاضِرة تطوان وذاكرة البقية الباقية من وَطنييها ومناضليها، ويستحضِرهُ المارُّونَ بُكرةً وعشيا على منزله العريق الذي ما يزالُ قائما إلى اليوم بالمدينة القديمة بتطوان.

وبعد حياةٍ ملؤها الكفاح؛ وافته المنية فجرَ الثالث والعشرينَ من شهر مارس 2010، عن عمر ناهز 92 سنة بالرباط، ودُفنَ بتطوان المحروسة.

تغمَّدَه الله بواسع رحمته، وجزاه ووالده الوطني الكبير سيدي عبد السلام بنونة كل خير، ولجميع وطنيينا ومقاومينا من الله الجزاء الأوفى.

المراجع
[1] الجابري محمد عابد، "المدلول التاريخي للمقاومة المغربية"، مجلة "المقاومة وجيش التحرير"، عدد سنة 1986، نسخة ورقية، ص 26.
[2] مجموعة مؤلفين، سيرة وحياة عَلَم شامخ من أعلام الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير؛ الفقيد المهدي بنونة، أعمال الحفل التأبيني للفقيد، 2011، الطبعة الأولى 2011، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
[3] المساري العربي، ثُـقوب في الذاكرة؛ أربعُ وثائق وطنية، منشورات جامعة محمد الخامس بالرباط، سلسلة تاريخ الزمن الراهن، رقم 1، الطبعة الأولى 2013.
[4] مجلة الذاكرة الوطنية، العدد 8، سنة 2005، صادرة عن المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.