بين يدي التقديم

“الكتب كالبشر ، منها ما تعرفه ثم لا تُطيقه فتلفظه ، ومنها ما تأنس به ساعة من نهار، وقد تؤمل فيه خيراً فتستبقيه في ركن من نفسك، علَّك أن تعود إليه يوما، لكنك تكتشف من قريب أنه ليس بذاك فتعرض عنه، ومنها ما يخطف بصرك ويعلق بقلبك فإذا انت منجذب إليه ومعقود به، لا تكاد تدير وجهك عنه”[1].

أستأذنُ الكاتب الكبير محمود محمد الصناحي لأجعل المقطع أعلاه توطئة لهذا التقديم. فكتاب “النبوغ المغربي في الأدب العربي” للفقيه العلامة عبد الله گـنون هو حقا وصدقا من النوع الثالث ضمن ترتيب المرحوم الصناحي، إنه كتاب يخطف البصر، ويعلق بالقلب، فلا تنفك منجذبا إليه، معقودا به، لا تكاد تدير  وجهك عنه، حتى إذا أتيت على آخر سطر فيه، ما تفتأ تتحيّن الفرصة القابلة للعودة إليه من جديد، لا يدفعك عنه ضجر أو ملل، ولا يصرفك عنه شغل أو عمل.

تقديم الكتاب

صدر الكتاب في طبعته الثانية في سِفر واحد شهر أكتوبر عام 1960 – وهي النسخة لمعتمدة في هذا التقديم-، يضم ثلاثة أجزاء عوض جزأيْن اثنيْن كما في طبعته الأولى. وقد ضم فهرس هذه الطبعة العناوين التالية: مقدمة – عرض وتحليل للأستاذ شكيب أرسلان – تقريظ للحاج محمد بن اليمني الناصري – مقدمة الطبعة الأولى –الجزء الأول وفيه : عصر الفتوح، عصر المرابطين، عصر الموحدين، عصر المرينيين، عصر السعديين، عصر العلويين. الجزء الثاني وفيه: المختارات النثرية: التحميد – الخطب – المناظرات – الرسائل – المقامات – المحاضرات – المقامات. الجزء الثالث: المختارات الشعرية: وضمنه منتخبات من أجناس شعرية متنوعة.

  • المقدمة: أكد فيها المرحوم عبد الله گـنون أن مقصوده من تأليف الكتاب هو “بيان اللبنة التي وضعها المغرب في صرح الأدب العربي الذي تعاونت على بنائه أقطار العروبة كلها، وذكر الأدباء المغاربة الذين لم يقصّروا عن إخوانهم المشارقة ومغاربة بقية أقطار المغرب العربي في العمل على ازدهارالأدبيات العربية على العموم”.(ص 7).
  • الجزء الأول: بنفَس مؤرخي الأدب، انطلق عبد الله گـنون من عصر الفتوحات الإسلامية، مرورا بعصور الأدارسة والمرابطين والموحدين والمرينيين والسعديين وانتهاء بالعلويين، مقدّما قراءة لكل عصر، حيث عرّف بأوضاعه السياسية، وأسره الحاكمة وبعض سلاطينه، ثم عرّج على حركته العلمية وخصائصه الأدبية، وأشهر رواده وأعلامه. مبديا رأيه في عدد من القضايا التي طبعت كل عصر على حدة، حيث ناقش أسباب وتداعيات مسألة النزاع بين العرب و”البربر“، ودور الإسلام في نزع فتيل هذا النزاع، كما طرح مساهمة الفقهاء في بناء هياكل الدولة، ومستوى حضورهم في الحياة السياسية، مبرزا عناية الدولة بهم وبالحرص على تمكينهم وتقوية مواقعهم، ثم قدّم مرافعة فنّد من خلالها مزاعم المستشرق الهولندي “رينهيرات دوزي” الذي يقول باضمحلال الأدب زمن المرابطين.
  • الجزء الثاني: المختارات النثرية: صدّر المؤلف هذا الجزء برسالة تلقّاها من المستشرق “كارل بروكلمان”، ثم ذكّر في توطئة مقتضبة بقرار تأخيره “جميع الآثار والمنتخبات الأدبية إلى الجزأين الثاني والثالث”، مشيرا إلى أنه سيبدأ بالنثر “لأنه أصل الكلام”، وبسط أجناس هذا الفن مبتدئا بالصلاة والتحميد “للتيمّن”. فذكر منه 12 مقطوعة، و13 خطبة، و4 مناظرات، و 21 من الرسائل والكتب والتوقيعات السلطانية، و 6 رسائل إخوانية، و8 من الرسائل المتفرقات، و6 مقامات، و 49 محاضرة، و 8 مقالات.
  • الجزء الثالث: المختارات الشعرية: صدّر المؤلف هذا الجزء بمقالة للأستاذ “حنا فاخوري” تحت عنوان: ” النبوغ في ميزان القيمة” وفيه تنويه بالكتاب وصاحبه، ثم عرض المؤلف عددا من المنتخبات الأدبية تبعا للأغراض التالية: الحماسة والفخر – الغزل والشوق والنسيب – الوصف – الآداب والوصايا والحِكم – المدح والتهنئة والاستعطاف – المُلح والطرف –الموشحات والأزجال.
  • لائحة المصادر والمراجع: بإطلالة سريعة على لائحة المصادر والمراجع، يتبيّن مدى الجهد الذي بذله المرحوم عبد الله گـنون في جمع مادة هذا الكتاب، كما يتضح بجلاء سعة اطلاعه وخبرته في التعامل مع المكتبة العربية، وقدرته المدهشة على اختيار النصوص الشعرية والنثرية، ومعرفته بتراجم الرجال، فكانت النتيجة صدور”النبوغ المغربي” في هذه الحلة التي تشهد بعلوّ كعب العلامة الفقيه عبد الله گـنون في مجال الأدب والتأريخ له.

قالوا في كتاب “النبوغ المغربي”

سعيد حجي: وثّق الأستاذ حجي صدى صدور الكتاب قائلا:  “حملت السلطات الفرنسية على إصدار قرار عسكري بمنع رواجه في منطقة نفوذها ومعاقبة كل متعاط له…لكنه في المقابل لقي رواجا واسعا في المنطقة الشمالية التي كانت خاضعة للنفوذ الإسباني…”(العدد الثامن لجريدة المغرب).

عبد السلام الهراس: الكتاب “ثمرة الشعور بالخطر الاستعماري على تاريخ الأدب المغربي، وهو صورة رائعة لرد فعل عنيف في المجال العلمي، ولم يكن هذا الرد تلقائيا ساذجا، وإنما كان مركزا وضربة قاصمة، إذ استطاع أن يكشف للعالم أجمع عن نبوغ المغرب وعبقريته في المجال الأدبي”[2].

الأمير شكيب أرسلان: “إنَّ من لم يقرأه فليس على طائل من تاريخ المغرب العلمي والأدبي والسياسي”.(النبوغ ص 17).

حنا فاخوري: “…كنز ثمين من كنوز العلم، ومصدر من أوثق مصادره، وموسوعة مغربية لا يقدرها إلا من لمس النقص في كتب الأدب… إنه “يعد فتحا من الفتوح الأدبية والفنية…. (النبوغ ص 633).

أما كارل بروكلمان فوعد في رسالة بعثها إلى المؤلف قائلا: “وأرجو أن أصرف مضمونه العزيز لفائدتي وفائدة أصحابي المستشرقين..”(النبوغ ص 321).

خاتمة

لقد استطاع الأستاذ العلامة الفقيه عبد الله گـنون أن يلتفت باقتدار إلى إنصاف الأدب المغربي، وأن يجمع جزءا معتبرا من شواهده الدالة على نبوغ المغاربة فيه منذ الفتح الإسلامي، ويقدمها في هذا الكتاب الذي شهد القاصي والداني بفرادته وتفرده، فصار مرجعا لا غنى عنه لمؤرخي الأدب المغربي ودارسيه.

المراجع
[1] محمود محمد الصناحي، صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب، مطلع تقديمه لكتاب البيان والتبيين للجاحظ، ص 522.
[2] من مقال: "النبوغ المغربي في الأدب العربي" طبعة جديدة للأستاذ عبد الله  گـنون ، قرأه وعلق عليه عبد السلام الهراس.