مقدمة

اختارت طائفة من الأندلسيين المهجّرين أواخر القرن 15م، التوجه إلى بقعة شبه خالية من السكان، على مقربة من الساحل المتوسطي شمال المغرب، فأغواهم حسن المنظر ووفرة المياه، وأمنوا كيد العدو لمّا وجدوها محاطة بالجبال، ليجعلوا من ذلك الموضع بعد عقود، حاضرة ذات شأن في الغرب الإسلامي، هذه المدينة التي يقول عنها أبرز مؤرخيها محمد داود “ولدت كاملة”[1] على يد هؤلاء الأندلسيين، ولم تتدرج كغيرها من المدن الناشئة، وهو قولٌ لا ينفي وجود اسم المدينة –تطوان أو تطاون أو تطاوين– في نصوص الجغرافيين والمؤرخين في عهد سابق على هذه الولادة الحديثة، إذ لمّا طال الهدم بُنيانها واستهدف التهجير أهل هذا الموطن من قِبل الإسبان والبرتغال تطلّب إحياء هذه المدينة وتجديد أُسسها من قبل الوافدين من شبه الجزيرة الإيبيرية[2].

وصفت المصادر هذه القصبة مجردة من أيّ نعت، خصوصاً تلك التي تحدثت عن تطوان قبل أن يطالها الهدم نتيجة الهجوم البرتغالي عليها سنة 1437م، ما سيستدعي التمييز بينها وبين القصبة التي بُنية بعدها بزمن وجيز، ولا ننس أن البكري قد ذكر قصبة قديمة كانت بالمدينة لكننا نجهل موضعها الآن[3]، فإن كان ولا بد من صفة لها، فمن الأحرى أن تحمل اسم علي المنظري مؤسس تطوان الحديثة وحائز شرف حاكمها الأوّل[4]، أو اسم قصبة البلد نسبة للاسم الأصلي الذي كان يحمله الحي المركزي بتطوان وهو موضع بناء القصبة.

تشييد القصبة

شُيّدت بتطوان قصبة قديمة أيام السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني سنة 685ه/1287م[5]، ثم رمّمت وزيد في تحصينها على عهد السلطان أبو ثابت سنة 708ه/1308م، وكان بناؤها “محكما وثيقا”، ونظرا لظروف الصراع مع القوى المسيحية خُرّب ما كان في تطوان من بناء خلال النصف الأول من القرن 15م[6].

ستُجدّد المدينة بسواعد الأندلسيين الوافدين على تطوان بعد ذلك بعقود وكان بناؤها “على الأساسات القديمة التي وجدوها قائمة”[7]. جُعلت القصبة نواة تطوان الحديثة، إذ القلاع والحصون من أهم عناصر المدينة القروسطية، لكنّ السؤال الذي يتبادر إلى الذهن بعد الاطلاع على النصوص المصدرية هو هل شيدّت هذه القصبة الجديدة على أسس القصبة المرينية؟

إن أقدم وصف لهذه القصبة في عهد تطوان الحديثة يعود للفقيه العربي الفاسي المتوفى عام (1052ه/1642م)، جاء متضمنا في تقييد نصّه: “إنها بلد مربع، وقصبتها في ركنها، ولها ثلاثة أبواب، وسورها في عَرضه سبعة أدرع”[8]، ثم بَحَثَ مؤرخو تطوان في بداية القرن العشرين قضية بناء القصبة الجديدة على أنقاض قصبة قديمة، فخلُص المؤرخ محمد داود أن مدينة تطوان الحديثة قد بنيت على “أنقاض تطوان القديمة”[9]، ويشاطر ابن عزوز حكيم الرأي السالف للفقيه داود بقوله أن القصبة المرينية “هي القصبة الموجودة داخل المدينة والمعروفة بقصبة سوق الحوت القديم في المكان المعروف بجامع القصبة”[10]، ونحن نرجح أيضا هذا الرأي لأنه الأقوى دليلا من ناحية ما نُقل من الأخبار إذا ما قارنّا فيما بينها، كما يؤكد الملمّين بخصائص معمار هذا البناء التاريخي أنه لا زال محتفظا ببعض سمات البناء المريني[11].

مكونات وحياة القصبة

داخل أسوار القصبة كلّ المرافق الأساس التي يُفترض أن تضمّها، أوّل هذه المرافق مسجد القصبة الذي لا زال يحمل نفس الاسم، بالإضافة إلى منزل علي المنظري ودار الحكم (المحكمة) والمسجد ومخزن السلاح والسجن[12].

لا ريب أن جنبات القصبة كانت مركز المدينة ومحورها الذي تفرعّت عنه باقي أحياء تطوان، وبالتالي شهد هذا المكان حيوية في النشاط البشري، ومن ثمّ اكتساب رمزية كبيرة واعتبارية –رمز للسلطة السياسية- يخصه بها السكان المحليون والزوّار.

انعكست نفسية الأندلسيين الذين فرّوا من الخطر المسيحي بشكل واضح على توجه هندسة المبنى، وتوزيع الوظائف فيه، فكان القسم الأعلى من أبراج القصبة مخصصا للحراسة الدائمة لأنه كان مشرفا على جميع الضواحي المحيطة بالمدينة، وعلى الساحل الفسيح الذي ينتهي عند البحر المتصل ببلاد أعداء ذلك العهد[13]، فاكتسب المبنى وظيفة التحصين العسكري وكان مستقرّ الحرّاس إلى جانب كونه مركزا للسلطة السياسية.

ويفترض أنه كان للقصبة بابان: باب المشور (المشور أو قصر القرن 16م وليس المشور الذي يطلق على القصر الملكي الحالي) [14] ويقع بالقرب من القصبة، وباب القصبة الذي يعرف اليوم بقوس أحفير”[15]، كلّ هذه الخصائص جَعلت من هذه القصبة محوراً معماريا متميزا داخل مدينة تطوان.

لم يطُل عهد مركزية هذه القصبة في مدينة تطوان، إذ سرعان ما ستفقد وظيفتها الأساسية التي شُيّدت من أجلها وهي التحصين والدفاع، وكان ذلك بشكل تدريجي بفعل الامتدادات العمرانية الحديثة التي عرفتها المدينة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر[16]، فطبيعة التوسعة العمرانية بتطوان جعلت من قصبة بناء يتوسط المدينة ومن هنا غاب اسم هذه القصبة عن الأحداث السياسية والعسكرية التي ستعرفها المدينة في مراحل لاحقة.

وحينما غطّت غمامة الاحتلال الإسباني الأول لمدينة تطوان 1859-1860م، لم تسلم هذه ناحية القصبة من التدمير، وبعد الشروع في بناء مقر الإقامة الإسبانية العامة بداية مرحلة الحماية 1913م (تحوّل مقرّ هذه الإقامة إلى قصر ملكي بعد الاستقلال)، أمست القصبة متوارية خلفها، مغمورة وسط المدينة العتيقة.

الخصائص المعمارية للقصبة

كأيّ مبنى عسكري يُراد منه أن يكون حصناً يُحتمى به ومرصداً للأخطار المحدقة بالمدينة شُيّدت هذه القصبة صلبة، متماسك بناؤها، إلاّ أن هذه الغاية لا تتعارض مع اللمسة الإنسانية التي تطبع خصائص المعمار فَتبصُمه بثقافة خاصة، وتَصَوُّر وجودي، وصبغة هندسية تؤرّخ لمرحلة البناء[17].

من الملامح المعمارية للقصبة أنها ذات تجانس وتمازج يجمع بين ما هو مغربي وأندلسي، حُصّنت بأسوار متينة، وأبراج مختلفة الأشكال، حيث أنّ الموضع والوظيفة تحكمان إلى حد بعيد شكل البرج، فمنها ما هو مستطيل، ومنها من بني بشكل مربع، ويبدو من خلال الموضع الذي بنيت به هذه القصبة أنها جُعلت في مكان يواجه جميع من يرد على تطوان من جهة الغرب، أي من جل بلاد المغرب[18]، وفي نفس الوقت خصّصت بعض الأبراج لتكون مطلّة على السهل المحاذي للواجهة المتوسطية.

تتكون واجهة القصبة من ثلاثة أبراج متباعدة يصل بينهما سور وجزء من ممر المشاة الذين يقومون بالجولات الدورية التفقدية “وقد بنيت كل هذه الأبراج بطبقات متعاقبة من الدبش والآجر وتعلوها شرفات، بينما نجد البرج الدالي وقد نمق بحنايا خادعة على شكل أهلة من الآجر”[19].

قاومت هذه المعلمة خمسة قرون من الأحداث التاريخية الحيوية (العوامل الطبيعية، الحروب والفتن، التطور العمراني)، لكن غواشي الدهر نالت من معظم أجزاءها، وتفرّقت بقاياها بين أبراج خالية، ومرافق تحوّلت إلى منازل خاصة أو تخترقها أزقة عمومية.

المراجع
[1] محمد داود، تاريخ تطوان، مطبوعات معهد مولاي الحسن، ج1، ص 14.
[2] أحمد الحبشي،" تاريخ قصبتي تطوان: التشييد والوظائف"، مجلة ليكسوس الإلكترونية، العدد 40، نونبر 2021، ص 70. (أنظر الرابط: https://bit.ly/42MSY6l ).
[3] عبد الله البكري، المسالك والممالك، تحقيق جمال طلبة، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2003، ج2، ص 289/ محمد داود، تاريخ تطوان، ج1، ص 70 (نقلا عن الشريف الإدريسي)
[4] محمد داود، تاريخ تطوان، مرجع سابق، ص 94.
[5] أحمد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق جعفر الناصري ومحمد الناصري، دار الكتاب، الدار البضاء، ج3، ص 96.
[6] محمد داود، تاريخ تطوان، مرجع سابق، ص، 96.
[7] أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر السلامي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية-تطوان/ جمعية تطاون أسمير، الطبعة الأولى 1998م ج1 ص 169 .
[8] أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، مرجع سابق، ص 91.
[9] محمد داود، تاريخ تطوان، مرجع سابق، ص 85.
[10] محمد ابن عزوز حكيم، معلمة تطاون، مطبعة الخليج، 2001، ص 15.
[11] لقاء مع الباحث ذ.عثمان العبسي (مدير مركز التراث بمدينة تطوان).
[12] محمد ابن عزوز حكيم، معلمة تطوان، مرجع سابق، ص 36.
[13] محمد داود، تاريخ تطوان، مرجع سابق، ص 94.
[14] محمد داود، تاريخ تطوان، مرجع سابق، ص 15.
[15] محمد ابن عزوز حكيم، معلمة تطوان، مرجع سابق، ص 31-32.
[16] خالد الرامي، تطوان خلال القرن الثامن عشر-تاريخ وعمران، مطبعة الخليج، الطبعة الأولى 2005، ص 149.
[17] أحمد الحبشي،" تاريخ قصبتي تطوان: التشييد والوظائف"، مرجع سابق، ص 73. (أنظر الرابط: https://bit.ly/42MSY6l )
[18] محمد داود، تاريخ تطوان، مرجع سابق، ص 93.
 [19] جون لوي مييج، امحمد بن عبود، نادية الرزيني، تطوان الحاضرة الأندلسية المغربية، ترجمة مصطفى غطيس، منشورات جمعية تطاون أسمير، الطبعة الأولى، 2002، ص 16.