مقدمة

اختلف المؤرخون وغيرهم في فهم دلالة اسم “مراكش”، ففسّره كلّ واحد حسب خَلْفِيَّتِه المعرفية واللغوية،  وعرف فهم وتفسير اسم “مرّاكش” تطوّرا منذ ظهوره على سطح الأحداث في المصادر التاريخية، وإذا كانت كلّ المصادر و الأقوال الواردة في هذا الصدد، ورغم اختلافها في سنة بناء مرّاكش وحول مَن شيّدها، هل هو أبو بكر بن عمر اللمتوني أم يوسف ابن تاشفين، إلا أنّها تُجْمِعُ على أن مدينة مرّاكش بُنِيَتْ في مكان خلاء موحش، حيث أورد كلّ من ابن عذاري في البيان المغرب و صاحب الحلل الموشية في معرض ذكرهما لأسباب اختطاط مدينة مرّاكش أن الأمير أبا بكر بن عمر اللمتوني، عند اختياره لموضِع بناء مدينة مرّاكش “ركب …معه قومه الملثمون و أشياخ المصامدة، ووجوه الناس، وصاروا معه إلى فحص مرّاكش، وهو خلاء، لا أنيس به، إلا الغزلان والنعام، ولا ينبت إلا السّدر والحنظل.”[1].

مراكش.. الاسم والموقع والتأويلات الممكنة

وكانت أول مبادرة لفهم دلالة اسم “مرّاكش” هي التي خَلُصت إلى أنّ هذا الاسم يعني في لغة المصامدة (تاشلحيت) “امشِ مسرعا” أو “مُرّ مسرعا “، وهي التي نقلها ابن خلّكان في وفيات الأعيان عن كتاب “المعرب عن سيرة ملك المغرب”، حيث أورد فيها أن “مراكش مدينة عظيمة بناها الأمير يوسف بن تاشفين بموضع كان اسمه مراكش- معناه: امش مسرعا بلغة المصامدة- كان ذلك الموضع مأوى اللصوص وكان المارّون فيه يقولون لرفقائهم هذه الكلمة، فعُرِفَ الموضع بها”[2]. ويعتقد غاستون دوفيردان  (Deverdun) أن عبارة “مُرَّاكُشْ” بميم مضمومة وراء مفتوحة مشدّدة وكاف مكسورة من صنع المتأخرين الذين حاولوا إضفاء الصبغة العربية على التسمية كابن خلّكان وحاجي خليفة “[3].

التفسير أو المحاولة الثانية لفهم دلالة “مرّاكش” هي التي قام بها الأستاذ أحمد التوفيق بكثير من التّكلّف، فبعد نقده للفرضيات السابقة، ذهب الأستاذ التوفيق إلى أن اسم “مرّاكش” مركّب من لفظتين هما: “مُرْ” أو “أَمُرْ” ويدلّ في لغة صنهاجة على الحماية أو الحِمى أو “الحرم” ، و “أًكُشْ” أو “أكوش” التي تعني الله، و بذلك يعني الاسم جامعا بين اللفظتين “حمى الله”[4]، معتبرا “اسم حرما كما هو واضح صنهاجي، كما أن كلمة أمُرأْ ومُرْ من القاموس الصنهاجي الذي هو قاموس الأمراء المرابطين”[5]. هذا التفسير للأستاذ أحمد التوفيق هو الذي سيتمّ ترويجه أكثر ، بتغيير تفسير كلمة “أمر” من “الحمى” إلى ” الوطن”  و” الأرض” ليُفَسَّر اسم “مرّاكش” ب “أمور ن واكوش” ” amor n wakouch، أي “وطن الله” أو “أرض الله”.

ويمكن لأي باحث مدقق أن يلاحظ بأن هذه التفسيرات تُغَيّبُ معطيات الطوبونيميا المحلية، التي تعتبر أساسية في فهم السياقات التاريخية والثقافية والاجتماعية وعلاقاتها باللغة المحلية لمنطقة مرّاكش، في ضوء ما تناقلته المصادر التاريخية من روايات في هذا الصدد، ممّا كان سببا في  إعطاء الاسم دلالة لا علاقة له بها، فكان أول خطأ وقعت فيه هذه التأويلات هو اعتبار اسم “مرّاكش” كلمة مركّبة من لفظتين “مر” و” أكش” في حين أنّ “مراكش” لفظة واحدة، كما سنرى، فلو دقَّق أصحاب هذه القراءات جيدا فيما أوردته بعض الروايات التاريخية، ودرسوه في سياق اللغة المحلية للمصامدة (تاشلحيت)، وليس اللغة العربية ففسّروه ب” مُرّ مُسْرِعا”، كما ذهبت إلى ذلك المصادر القديمة، ولا لغة صنهاجة الوافدة على المنطقة، كما ذهب إلى ذلك الأستاذ أحمد التوفيق والمتأخّرين وفهمه ب “حمى الله” و”أرض الله”، لكان فهم دلالة اسم “مرّاكش” سليما ومغايرا لما ذهب إليه الطرفين. فليسَ هناك ما يؤكّد أن كلمة “مر” أو “أمور amor” تعني في لغة المصامدة (تاشلحيت) الحمى أو الأرض أو البلاد، لأن المصامدة (الشلوح)، باعتبارهم السكان المحليين والأصليين في المنطقة وليس صنهاجة (إزناكن) الطارئين والعابرين، فالأرض أو الحمى أو الوطن أو البلاد تسمى بلغة تاشلحيت “تامازيرت”، ونفس الأمر بالنسبة لكلمة “أكش أو ياكوش” كاسم لله، فلا أثر له في كل المصادر التاريخية التي تحدثتْ عن مصامدة جبل درن، بما فيها المستوطنة تاريخيا لموقع مدينة مراكش، وإن كان ذلك واردا بالنسبة لمصامدة تامسنا البورغوطيين كما ذكر ذلك أبو عبيد البكري، وحتى في حالة إذا افترضنا أن مصامدة جبل درن بدورهم يطلقون على “الله” اسم ياكوش، وإن كان ذلك غير تابث تاريخيا، فكيف تم الجمع في عبارة “مراكش” بين لفظتين واحدة صنهاجية (تامازيغت) وهي ” مرّ أو أمور” و الثانية مصمودية (تاشلحيت) وهي “ياكوش”. ولهذا فربط اسم مراكش ب amor n wakouch ، قد تكون تحمل دلالة ما للأرض  في اللهجات الصنهاجية (تمازيغت الأطلس أو تماشيقت الطوارق) أو الزناتية (تاريفيت و تاقبايليت)، أما في لهجة المصامدة وهي تاشلحيت فالأرض و البلاد فيها تحمل اسم تامازيرت وليست تامورت أو أمور، والأستاذ أحمد التوفيق الذي يقرّ بأن “أًمُرأ” كلمة من القاموس الصنهاجي، يعلم أن الموحدين المصامدة الذين أسسوا حكمهم على أنقاض دولة صنهاجة المرابطين، عملوا كلّ ما في جهدهم لمحو وطمس كلّ ما له علاقة بالمرابطين وما يرمز إليهم، ووصلوا إلى درجة أن غيّروا اتجاه القبلة في المساجد عمّا وجدوه عليه في عهد المرابطين، فكيف بهم أن يتركوا اسم “مرّاكش” الصنهاجي المرابطي، الذي كان يتردّد على ألسنتهم باستمرار باعتباره اسم لعاصمتهم.

ونعتقد أن خطأ الفرضيتين السابقتين في تفسير وفهم اسم “مرّاكش” قائم أولا على اعتبار اسم مرّاكش مركّبا من لفظتين: “مرّ” و”أكش” مرّ مسرعا بالنسبة للفرضية الأولى، محاولة تفسير الاسم في أطار اللغة العربية و”أمور” ن “واكوش” بالنسبة للفرضية الثانية ساعية إلى فهم الاسم في سياق أمازيغية تمزج بين الصنهاجية والزناتية، وكِلا الفرضيتين لم تعملا على افتراض أن اسم “مراكش” اسم واحد غير قابل للتجزيء، ولا يمكن تفسيره وفهم ما ورد بصدده من معطيات في المصادر التاريخية إلا في إطار أمازيغية مصامدة جبل درن (تاشلحيت).

فاسم “مرّاكش” هو تعديل لكلمة “أمْرْكْسْ” التي تعني المخبأ، فهي مشتقة من فعل “ءيرِكْسْ” الذي يعني اختبأ ويختبأ، وهذا المعنى هو الذي تشير إليه بعض المصادر التاريخية، عندما قدّمت وصفا مقتضبا للموقع الذي أشار به أشياخ المصامدة على باني مرّاكش لتشييد عاصمته، حيث وصفته ب “خلاء لا أنيس به، إلا الغزلان والنعام، ولا يُنْبِتُ إلّا السّدر والحنظل”[6]. ممّا جعله “مأوى اللصوص”[7]، فطبيعة الموقع كخلاء موحش وبُعُدُهُ النسبي عن العمران بمدن الدير الشمالي للأطلس الكبير (أغمات أوريكةأغمات هيلانة – نفّيس ..) هو الذي جعله مخبأ أي (أمركس) للصوص وقطّاع الطرق، الذين يترصدون القوافل التجارية العابرة للطرق الرابطة بين أغمات ودكالة ونفّيس و مرفأ كَوز على المحيط الأطلسي.

هكذا يتّضح ويتأكّد أنّ اسم مرّاكش، لا يحتاج تفسيره وفهمه إلى الإغراق في الكثير من التعقيدات اللغوية، والتأويلات اللسنية، إذا ما تمّت قراءة ما أوردته المصادر من معطيات تاريخية في إطار ما تزخر به الطوبونيميا المحلية من معلومات لسنية.

وبعد ذلك ومن خلال كثرة تداول اسم “أمركس” المصمودي من طرف غير المصامدة وغير الأمازيغ، صارت السين في “أمركس” تنطق شينا، خاصة بعدما صار المغرب برمته يحمل اسم “مراكش“.

مراكش.. التأسيس والمنعطف التاريخي بالأطلس الكبير

وإذا اختلف الإخباريون حول باني مرّاكش، كما اختلفوا حول سنة بناءها مدينة مرّاكش، فذهب ابن عذاري في البيان المُغرب[8] والمجهول في الحلل الموشية[9] إلى أن مؤسسها هو أبو بكر ابن عمر اللمتوني، وأنّ ذلك كان في سنة 462هـ/1069م، في حين ذهب ابن أبي زرع الفاسي في الأنيس المطرب[10] وابن خلدون في العبر[11] والناصري في الإستقصا[12] إلى أن بانيها هو يوسف ابن تاشفين، وفي سنة 454هـ/1061م، فإن هؤلاء المؤرخين قد اتفقوا على أن اختيار ذلك الموقِع لبناءها لم يأت عبثا، ولا لكون ذلك الموضِع خلاء وصحراء تشبه ظروفه الطبيعية نسبيا الأجواء المناخية التي ألِفَ المرابطون اللمتونيون العيش بها في صحاريهم. كما أجمع هؤلاء الإخباريون على أنّ ذلك الموقع يسمح لعاصمة المرابطين بمراقبة المصامدة بجبل درنلأطلس الكبير)، و”قد نظرنا لك أيها الأمير، موضعا صحراء، رحب الساحة، واسع الفناء، يليق بمقصدك، وقالوا له: نفِّيس جنانها، وبلاد دكالة فدانها، وزمام جبل درن بيد أميرها”[13]. وهذا ما أبرزه ابن خلدون بتعبير واضح، عندما قال: “وجعل يوسف مدينة مرّاكش لنزله ولعسكره وللتمرّس بقبائل المصامدة المقيمة بمواطنهم بها في جبل درن، فلم يكن في قبائل المغرب أشدّ منهم ولا أكثر جمعا”[14].

وبعد ظهور مرّاكش كمدينة كبيرة ، ثم كعاصمة للمغرب المرابطي، الذي يمتدّ من الأندلس شمالا إلى بلاد السودان جنوبا ، ومن جزائر مزغنّة شرقا إلى بحر الظلمات غربا، وغدا المغرب بكامله يحمل اسم مرّاكش، حيث جمعت واحتكرت القرار السياسي واستحوذت على كل الأنشطة التجارية، أدى ذلك إلى خفوت الأدوار الاقتصادية لكلّ مدن السفح الشمالي للأطلس الكبير، وبالتالي تراجع أهمية هذه المدن تدريجيا، ومن ثمة غياب و تراجع ذكر بعضها في المصادر التاريخية لما بعد مرّاكش، وكان هذا الأمر واضحا جدّا بالنسبة لمدينة أغمات أوريكة، التي خرج منها المرابطون لبناء مدينة مرّاكش قُبالَتَها في السهل[15].

المراجع
[1] مجهول - الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية – تحقيق سهيل زكار و عبد القادر زمامة – دار الرشاد الحديثة الدار البيضاء – الطبعة 1 سنة 1979 - ص: 15-16 .
[2] ابن خلكان – وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزمان- تحقيق إحسان عبّاس – المجلد 7 – دار صادر بيروت لبنان- الطبعة 1972- ص: 124.
[3] حسن جلّاب- الحركة الصوفية بمرّاكش : ظاهرة سبعة رجال) – المطبعة و الورّاقة الوطنية مراكش – الطبعة 1 سنة 1994 – ص: 53.
[4] أحمدالتوفيق- حول معنى اسم مرّاكش – كتاب:" مرّاكش من التأسيس إلى آخر العصر الموحدي"- منشورات مركز الدراسات و الأبحاث حول مرّاكش و جمعية الأطلس الكبير – إشراف كلية الآداب  و العلوم الانسانية جامعة القاضي عياض مراكش- الطبعة 1 سنة 1989- ص: 15- 19.
[5] أحمدالتوفيق- حول معنى اسم مرّاكش – كتاب: "مرّاكش من التأسيس إلى آخر العصر الموحدي"، مرجع سابق.
[6] مجهول، الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية،  مرجع سابق - ص: 15-16 .
[7] ابن خلكان – وفيات الأعيان  - مرجع سابق - ص: 124.
[8] ابن عذاري المراكشي – البيان المغرب في أخبار الأندلس و المغرب الجزء الرابع – تحقيق إحسان عبّاس- دار الثقافة بيروت لبنان – الطبعة 3 سنة 1983 – ص:19.
[9] مجهول - الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية – مرجع سابق - ص: 15-16 .
[10] الفاسي (ابن أبي زرع ) : الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس – تحقيق عبد الوهاب بن منصور – الطبعة الثانية 1999 – ص 163.
[11] ابن خلدون(عبد الرحمن)- كتاب العبر و ديوان المبتدأ و الخبر في أيام العرب و العجم و البربر و من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر- المجلد 6 – تحقيق محمد علي بيضون – دار الكتب العلمية بيروت لبنان – الطبعة 2 سنة 2003 – ص:218.
[12] أحمد بن خالد الناصري - كتاب الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى : الدولتان المرابطية و الموحدية الجزء الثاني: تحقيق و تعليق الأستاذين : جعفر الناصري و محمد الناصري – دار الكتاب الدار البيضاء –طبعة 1997 – ص: 25.
[13] أحمد بن خالد الناصري - كتاب الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، مرجع سابق.
[14] ابن خلدون(عبد الرحمن)- كتاب العبر و ديوان المبتدأ و الخبر في أيام العرب و العجم و البربر و من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، مرجع سابق، ص 218.
[15] عبد الرزاق زريكم- أثر الركود الإقتصادي في خراب المدن: نموذج أغمات وريكة – مجلة أمل – العدد 44 سنة 2015- ص:33- 45.